اهل الزكاة هم المضعفون
فهد السعيد
الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام، شريعة غراء عنوانها الشمول والإحكام، حتى ختمها بالكمال والتمام، جعلنا من خير أمة أخرجت للأنام، ودلنا برحمته على ما ينفعنا على الدوام، وباعدنا وحذرنا مغبة الحرام، وأشهد أن لا إله إلا هو ذي الجود والإحسان والإكرام.
والصلاة والسلام على نبينا المبعوث رحمة للأنام، عدد وبل الغمام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على دربه واقتفى أثره فكانوا بدور التمام وزينة الأيام، ثم أما بعد:
فاتقوا الله معاشر المؤمنين واستبقوا الخيرات وبادروا بالأعمال قبل حلول الآجال واستدركوا ما فات بما هو آت، فإن عمركم في ازدياد، فخذوا من أيامكم الزاد، وتنافسوا لنيل المراد، واستعدوا ليوم التناد، يوم يتغابن فيه العباد.
أيها المسلمون، فريضة عظيمة وركن ركين لا تقوم قدم الإسلام إلا به، شريعة وشعيرة لما أهملت وضيعت غارت البركات، وضاقت أبواب الأرزاق. لما تهاون فيها الناس حلت بهم الأزمات، وأناخ بكلكلهم ضيق العيش وكثرة المتطلبات. واتسعت عليهم أبواب المصروفات والنفقات. لما تجاهلها أكثر الناس انتشرت مظاهر الفقر وكثر المعوزون وطلاب الحاجات، وفي المقابل ظهرت طائفة أخرى يسبحون فوق بحر البذخ والثراء.
إنها يا مسلمون فريضة الزكاة وما أدراك ما الزكاة، ركن الإسلام الثالث، وقرينة الصلاة التي هي عمود الدين في كتاب الله، وكما أن الله عز وجل توعد المقصرين في الصلاة والمفرطين فيها بأشد الوعيد وأعظمه، فالزكاة أيضاً شأنها عظيم وهي أختها وقرينتها، فمن شغل عنها بالبخل وحب المال حشر مع أعداء الله الذين آثروا المال على طاعة الله ورسوله. الزكاة شرعها الله تعالى رحمة بعباده لحكم بالغة، وأهداف سامية، ومصالح كثيرة، ومنافع لا تحصى، من أهمها ما أشار إليه قوله تعالى في سورة التوبة: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم}. فهي تطهر النفس من الشح والبخل، وسيطرة حب المال على الإنسان، كما تطهر المزكي من الذنوب والآثام، قال تعالى: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ونكفر عنكم من سيئاتكم}. وإذا كانت زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث فما ظنكم بفريضة الزكاة التي هي أعظم وأهم منها وأوجب.
الزكاة وقاية للمال المزكى من الضياع والتلف، وأمان له من الآفات والكوارث، تطهر الأموال وتطيبها. تكثرها وتنميها. تطهر المجتمع الإسلامي مادياً من الفقر والبؤس والحرمان والتسول، وتطهره نفسياً من البغض والحقد والحسد والكراهية، وتطهره من صراع الطبقات وما يترتب على ذلك من المآسي والآفات. كما أنها تقضي على السرقات والرشاوى وعمليات النصب والاحتيال. ولو أن الأثرياء والموسرين أدوا حق الله في أموالهم لما رأينا في المسلمين جائعاً ولا عارياً.
كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن، وهو بالعراق: أن أخرج للناس أعطياتهم فكتب إليه عبد الحميد: إني قد أخرجت للناس أعطياتهم، وقد بقي في بيت المال مال، فكتب إليه أن «انظر كل من أدان في غير سفه ولا سرف فاقض عنه»، فكتب إليه، إني قد قضيت عنهم، وبقي في بيت مال المسلمين مال، فكتب إليه: أن «انظر كل بكر ليس له مال، فشاء أن تزوجه فزوجه وأصدق عنه، فكتب إليه: إني قد زوجت كل مَن وَجَدتُ، وقد بقي في بيت مال المسلمين مال، فكتب إليه بعد مخرج هذا: أن «انظر من كانت عليه جزية فضعف عن أرضه، فأسلفه ما يقوى به على عمل أرضه، فإنا لا نريدهم لعام ولا لعامين (الأموال للقاسم بن سلام، ص۱۰۹).
الزكاة شرعها الله تعالى امتحاناً لعباده واختباراً لصدقهم في إسلامهم وصحة إيمانهم وثقتهم في وعد ربهم، كما قال : " والصدقة برهان" يعني برهان على صحة إسلام مخرجها وإيمان باذلها وثقته بوعد الله في قوله تعالى: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه وفضلا}. فالمسلمون يؤدونها بدافع الإيمان بالله بخلاف الضرائب التي يتهرب الكثيرون من دفعها متى وجدوا غفلة من الرقيب.
الزكاة من الفرائض التي يتم بها إسلام العبد ويتحقق إيمانه، لتكون طريقا معبداً لدخول الجنة والنجاة من النار، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه أن أعرابياً أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا عَمِلته، دخلت الجنة. قال: «تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان قال: والذي نفسي بيده، لا أزيد على هذا، فلما ولى قال النبي: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا» متفق عليه.
الزكاة من الزكاء، فهي تزكي نفوس الأغنياء وقلوبهم، كما تزكي أموالهم ومجتمعاتهم، ولقد تكفل الله بإخلافها في الدنيا، وتضعيفها في الآخرة أضعافاً مضاعفة، مصداقاً لقوله تعالى: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه، وهو خير الرازقين} وقوله: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} وقوله: {وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون}.
أيها المسلمون: كلنا يحفظ قول الله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون} وكلنا يعلم حديث رسول الله الذي يقول: "ما من صاحِب ذهب ولا فضة لا يؤدى منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار"، وحديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من آتاه الله مالاً فلم يُؤدِّ رَكاتُهُ مُثَلَ له يوم القيامة شُجاعًا أقرع له زبيبتان يُطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه ، يعني شدقيه، ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك " ثم تلا: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}. كلنا يعرف هذه الأدلة وغيرها كثير، لكن المصيبة العظمى أنها تمر على مسامعنا وكأنها لغيرنا نزلت وفي حقنا نسخت، تطرق أسماعنا ونقرأها بعيوننا وكأننا لسنا المخاطبين بها.
أيها المسلمون أن الزكاة فريضة الله تشتكي إلى الله تشكوا إلى ربها أناساً تركوها جحداً وعناداً، وهؤلاء لهم النار يوم القيامة، وهذه الفئة لن نتحدث عنها فلا أظنها معنا ولا بيننا! لكننا سنتحدث عن طائفتين ونوعين من الناس، طائفة أهملت أمر الزكاة تكاسلاً وتهاوناً وشحاً بمالها أن تصرفه للفقراء الذين لم يبذلوا فيها أدنى جهد، وهم الذين قد تعبوا في تحصيله؛ فتراهم يدفعونها أحيانا ويتأولون أحياناً في عدم دفعها، وإن أدوا الزكاة أدوها وأنفسهم شحيحة مستثقلة، وهؤلاء والله وبالله لو علموا ما للزكاة من أثر عظيم عليهم هم لما تأخروا ساعة، ولَوَدُّوا أن الزكاة في كل شهر لا في تمام الحول، نسوا وربما تناسوا أن الزكاة مجلبة للبركة، مدعاة للزيادة، مؤذنة بالمضاعفة، بنص كلام الله العليم الخبير {وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون} أي: يضاعف لهم الثواب فيعطون بالحسنة عشر أمثالها كما قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} وقال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ}، وفي الصَّحِيحِ: "وَمَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِعَدْلٍ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ إِلَّا أَخْذَهَا الرَّحْمَنُ بِيَمِينِهِ ، فَيُرَبِّيها لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَه أَوْ فَصِيلَهُ، حَتَّى تَصِيرَ التَّمْرَةُ أَعْظَمَ مِنْ أُحُد".
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله الذي شرع ووعد المزيد، وحكم وتشريعه من لدن حكيم حميد، والصلاة والسلام على محمد الأمين ذي الرأي السديد، حذر من منع الزكاة فأعلن الوعيد عليهم والتهديد، وعلى آله وأصحابه أولى المسلك الرشيد أولهم وأفضلهم أبو بكر الصديق الذي قال: "والله لو منعوني عناقاً مما كانوا يعطون رسول الله صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقاتلتهم عليه". وعلى الآل والأتباع إلى يوم المزيد.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون وراجعوا أنفسكم ومن تحت أيديكم من زوجات وبنين مروهم بالخير وحثوهم على الجود والبر، وإخراج ما أمر الله به من فريضة الله.
أيها المسلمون أما الفئة الثانية الذين أوجه حديثي إليهم فهم من ترك الزكاة جهلاً بأحكامها وظنا أنه لا تجب عليه، ولو قرأ هؤلاء في أحكام الزكاة ولو كتيباً مختصرا أو سمعوا مادة صوتية تتناول أحكام الزكاة لعلموا أنهم أول المخاطبين بالزكاة، وكان الواجب على هؤلاء البحث والاطلاع كما يهتمون لأمور دنياهم، ولو أنهم سألوا أهل العلم لتبين لهم وجه الصبح وبان لهم النهار من الليل {فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ}. وهذا الصنف كثير في المجتمع أعني الذين قد وجبت في حقهم الزكاة لكنهم لجهلهم ما بذلوها.
إن مما يخفى على الناس أن الزكاة تجب في المال لا في الأشخاص، فالمجنون يزكى من ماله والصغير يزكى من ماله، فليس من شروط الزكاة البلوغ ولا العقل فمتى بلغ المال النصاب وتم عليه الحول وجبت فيه الزكاة. ومن أمثلة ذلك أن بعض الأولاد يحصلون على مكافآت أو هدايا مالية تبلغ النصاب ويَمُرُ عليها عام كامل وأعوام ولم يؤدوا زكاتها جهلا بوجوبها في حقهم. ومثال آخر: بعض الزوجات يكون لدى بعضهن أموال نقدية أو حلى مُدَّخر، أي: لا يستعمل فهذا فيه زكاة بإجماع أهل العلم، أما ما أعد للاستعمال والزينة فجمهور أهل العلم على عدم وجوب الزكاة فيه، وإن أخرجت زكاته احتياطا فحسن وزيادة خير. ومثال ثالث: الذين لديهم أموال في ذمم الناس فإنهم يزكونها إذا كانوا غير مماطلين. ومن يملك مالا وعليه دين فإنه يزكي ما عنده حتى لو كان عليه دين، لأن الدين لا يمنع الزكاة، إلا إذا كان الدين حالاً عليه ويطالب به، وأما الديون غير الحالة كالأقساط التي تدفع للبنوك والشركات في كل شهر، وعنده مال في حسابه فعليه زكاته. وأصحاب الأسهم يزكونها إذا كانت الشركة المساهمة لا تخرج الزكاة.
وأما زكاة الرواتب فإن للموظف مع راتبه حالان: الحال الأولى: أن يصرفه كله، ولا يدخر منه شيئاً، فلا زكاة عليه. الحال الثانية: أن يدخر منه مبلغاً معيناً أحياناً يزيد وأحياناً ينقص لكنه لم ينقص عن النصاب، فله في الحال طريقتان، أفضلهما وأيسرهما أن يزكى جميع ما يملكه من النقود حينما يحول الحول على أول نصاب ملكه منها، وهذا أعظم الأجره وأرفع الدرجته، وأوفر لراحته وأرعى لحقوق الفقراء والمساكين وسائر مصارف الزكاة وما زاد فيما أخرجه عما تم حوله يعتبر زكاة معجلة عما لم يتم حوله.
وثمة مسائل أخرى لا يسع المقام تفصيلها كزكاة المحلات والعقارات والمساهمات الجارية والمتعثرة، والزروع والثمار، وبهيمة الأنعام والواجب على كل مسلم أن يسأل أهل العلم فيما يجب عليه وفيما لا يجب حتى تبرأ ذمته أمام الله، ويلقى الله غداً نقي الصحيفة سليماً من حقوق الله وحقوق العباد.
اللهم بصرنا بما ينفعنا وما يخفى علينا من حقك وحق عبادة. وارزقنا العمل بما يوافق شرعك حتى ترضنا عنا. اللهم آت نفوسنا تقواها .... اللهم طهر قلوبنا من الشح والغل والحسد. اللهم بارك لنا في أموالنا وأرزاقنا وما أعطيتنا.
المرفقات
1747792724_أهل الزكاة هم المضعفون.pdf
1747792735_أهل الزكاة هم المضعفون.docx