بر الوالدين حديث لا ينتهي
عبد الله بن علي الطريف
بر الوالدين حديث لا ينتهي 1447/2/21هـ
إنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أما بعد أيها الابناء: نعم أقول أيها الأبناء فكلنا أبناء فما منا أحدٌ إلا وله والدان أحياءً كنا أو أمواتًا.. والحديث عن برهم حديث لا ينتهي وأمر لا ينقضي.. ذلكم الحديث الذي لا يجهلُ قليلَه كلُ أحدٍ.. ولكن لا يلتزمُ به كلُ أحدٍ.. ألم يطرقْ مسامعنا قول الباري تبارك وتعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء:23- 24] قال عليٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: لو علمَ الله شيئاً في العقوقِ أدنى من أُفٍّ لحرمه.. ألم نعلمْ أنَّ برَ الوالدين من أحبِ الأعمالِ إلى اللهِ وأفضلِها؛ فَقَدْ سُئِلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ، أو أَحَبُّ إِلَى اللهِ.؟ فقَالَ: «الصَّلاَةُ عَلَى مِيقَاتِهَا ثُمَّ بِرُّ الوَالِدَيْنِ ثُمَّ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» واه البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-. وَرِضَى الوَالِدِ من أسبابِ رضى الرب -سبحانه-، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «رِضَى الرَّبِّ فِي رِضَى الوَالِدِ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ» رواه الترمذي وابن حبان وحسنه الألباني عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما-. وقَالَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «الوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذَلِكَ البَابَ أَوْ احْفَظْهُ» رواه الترمذي وصححه الألباني عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-. " والمعنى أنَّ بِرَّهُ مُؤَدٍّ إلى دُخولِ الجنةِ من أوسطِ أبوابِها وهو خيرُها". ابن علان دليل الفالحين..
أيها الإخوة: اعلموا أنه من التقصير في تربية الأولادِ عدمُ تعليمِهم معنى بِرَّ الوالدين، وعدم مراجعة تصرفاتهم وتوجيههم إذا قصروا.. ومعنى بر الوالدين: التَّوسعُ في الإحسانِ إليهما، بالقلبِ والقولِ والفعلِ، والرِّفْقُ بهما طاعةً لله واعترافًا بفضلِهما.. فيدخلُ في البرِّ جميعُ أنواعِ البرِ مما يجبُ على الأبناء فعله تجاه الوالدين من الرّعايةِ والعنايةِ، وبذلِ أحسنِ المشاعرِ وأحسنِ الكلامِ وأحسنِ الأفعالِ، وحُسنِ الطاعةِ، وخفضِ الجناح، وبذلِ المال لهما، وحُسنِ التّأدّبِ معهما، وطلاقةِ الوجه وحُسنِ المعاشرة، وامتثالِ أَمْرِهما في طاعة الله، ولا يمشي أمامَهما، ولا يرفعُ صوتَه فوق صوتِهما، ويحرصُ على طلبِ مرضاتِهما، ولا يَمُنُّ عليهما ببرِّه، ولا بالقيامِ بأمرهما، ولا ينظرُ إليهما غاضبًا، ولا يُقَطّبُ وجهه في وجه أحدهما.. هذا بعض برهم.
أحبتي: ومن الأخطاء: التي يقع بها بعضنا في التعامل مع الوالدين، مناداتِهما باسمِهما المجرد أو بأبي فلان، وفي الحديث عنهما بوصفهما بالشايب أو العجوز، ومن أجملِ ما ينادى به الوالدان يا أبي.. يا أمي.. يا والدي.. أو نحوها وكل حسب لهجته.. قال ابنُ محيريز-رَحِمَهُ اللهُ-: من دعا أباه باسمه أو كنيته فقد عقه، إلا أنْ يقولَ: يا أبتِ.. واسمه عبدالله قال عنه الذهبي :كان من العلماء العاملين، ومن سادة التابعين..
ومن الأخطاء: مجادلةُ الأبِ ومغالبتُه بالحجةِ، وقد أكدَ سلفُ الأمةِ على النهيِ عنه، قال ابنُ الجوزي قالَ يزيدُ بنُ أبي حبيبٍ -رَحِمَهُما اللهُ-: "إيجابُ الحُجَةِ على الوالدين عُقوقٌ" يعني الانتصار عليهما في الكلام..
ومن الأخطاء: الفضاضةُ بمنعِ الوالدين من تناولِ بعضِ الأطعمةِ لإصابتِهما ببعضِ الأمراضِ المزمنةِ كالسكرِ والضغطِ أو غيرِها.. فتجدُ بعضَ الأبناءِ هَدَهُم اللهُ- يمنعُ أحدَ والدِيه بعنفٍ ويحرمُه بفضاضةٍ، وهذا من قلةِ التوفيق، فحريٌ بالوَلدِ أنْ يفعلَ ذلك بكلِ لطفٍ وحُسنِ تعامل.. قال ابن عباس-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما-: من نظرَ إلى أبَاه شَزرًا فقد عقَّهُ.
أيها الإخوة: ومن البر: طاعتهما ولو أمرا بتركِ نفلٍ، فقد سُئِلَ الْحَسَنُ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي الرَّجُلِ تَقُولُ لَهُ أُمَّهُ: أَفْطِرْ أي من صِيامِ النَّافلةِ قَالَ: "لِيُفْطِرْ، وَلَهُ أَجْرُ الصَّوْمِ وَالْبِرِّ، وَإِذَا قَالَتْ: لَا تَخْرُجْ إِلَى الصَّلَاةِ، فَلَيْسَ لَهَا فِي هَذَا طَاعَةٌ هَذِهِ فَرِيضَةٌ".ومن البر: فهمُ حاجةِ الوالدين.. ومبادرتهم بها قبل طلبها؛ وهذا أبلغُ وقْعًا في نفسَيهما، وفيه حمايةٌ لهما من ذلِ الطلبِ والمنةِ.. من ذلك مُبادرتِهمِ بإهداءِ ما يحتاجان، أو هبتِهما أجرَ صدقةٍ أو وقفٍ أو غيره..
ومن البر: الجلوسُ معهما وتناولُ بعضَ الوجباتِ معهما.. حتى وإن كُنت في بيتٍ مستقلٍ، اجعل بعضَ وقتِك لوالديك وكُل معهما الغداءَ أو العشاء، وبادر بخدمتِهما واخترْ لهما أطايبَ الطعام.. وجميلٌ دعوتُهما لعشاءٍ في بيتك أو البَرِ أو في مطعمٍ إن كانا يرغبان فيه.. قال الحسن البصري -رَحِمَهُ اللهُ- لرجل: "تعشَّ العشاءَ مع أمك؛ تؤانسُها، وتجالِسُها، وتقرُّ بك عينُها، أحبُّ إليّ من حَجَّةٍ تطوُّعاً"..
ومن البر: أن تُظْهِرَ لهما حُسن علاقتك بإخوتِك وأخواتِك، والسكوت عما يصيبك من أخطائِهم، والتماسُ المعاذيرِ لهم أمام والديك، وإبداءُ محاسنِهم، وإخفاءُ مساوئهم؛ فإن ذلك يسُرُّهما، ولا تَرْتَفِعْ أصواتُكم بنقاش أو خلاف بحضرتهما؛ ففيه كسر لقلبِيهما، وعدمِ احترامٍ لمقامِهما. ولو قصَّرَ أحدُ إخوتِك فالتمس له العذر أمامَ والديك؛ فإن ذلك يسرهما.
ومن البر: ملازمة الوالدين في حال حاجتهما للمساعدة فمن المؤلم أن ترى الرجل الذي له عددٌ من الأبناء الكبار العقلاء، بصحبة صديق أو عامل في المستشفى أو غيره.! أو لا تجد معه أحدًا من أبنائِه في المناسبات.. واعلم أن صُحبتَك لوالدك سرورٌ تدخله على قلبه..
ومن البر: ألا يفصلَك جهازُ الجوالِ، وبرامجُ التواصل الاجتماعي عن الوالدين، وألا تشغلُك في مجلسِهم عن الحديث معهم؛ ففيه استهانَةٌ بهما.. ومن البر: الدعاء لهما بعد موتهما قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-.
وبعد أيها الإخوة: اعمروا مجالسَكم مع والدِيكم بالأحاديثِ الجميلةِ، والأخبارِ السارةِ، والهجوا بالدعاءِ لهم، وبالثناءِ عليهم، وذِكرِ محاسنِهم وفضلِهم عليكم بحضرتهم، وهذا لَهُ أثرٌ كبيرٌ فِي إدخالِ السرور عليهم بما لا يخطر لكم على بال.. وادعو لوالديكم في كل حين وعلى كل حال.. وحدثوهم بما يريدون لا بما تريدون، وأشعروهم بحبكم لخدمتهم وسعادتكم بها؛ فالعاملُ النفسي من أوسع مجالات البر.. أسأل الله أن يوفقنا لبر والدينا أحياءً وأمواتًا.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد..
الخطبة الثانية:
الحَمدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ والشُكرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وامتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، تَعظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الـمُؤيَدُ بِبُرهَانِـهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَإِخْوَانِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِراً.. أَمَا بَعْدُ: أيها الإخوة اتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، واعلموا أن من الأخطاء التي يقع بها الوالدان بتربية الأولاد استجداء الأبناء في طلب الخدمة منهم كقول بعضم لولده-أرجوك، الله يخليك- لعمل واجب وعلى الوالدين تربية أولادهم على أن طلب الوالد أمر.. ومن كان له مراجعة لما يرى والده أن يبديها بأدب، لا برفعِ صوتٍ أو امتعاضٍ، بل بلطف كقول لعلك يا والدي ترى كذا وكذا.. ونحو ذلك.. كم يؤلمني استجداء الآباء للأبناء بطلب حاجة أو توجيه أو طلبهم على استحياء.. ويؤلمني كثيرًا قول الوالد أريد كذا ولكن الابن فلان يرفض أو يزعل.. ربوا أولادكم على البر فهي مهمتكم الكبرى تَسعَدُوا وتُسعدوا..
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ ربكم؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً، صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» رواه مُسْلِمٌ وغَيرُهُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اللهم صلى وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد اللهم ارزقنا محبته واتباعه ظاهرًا وباطنًا، اللهم احشرنا في زمرته وأدخلنا في شفاعته واسقنا من حوضه.. واجمعنا به ووالدينا في جنات النعيم، اللهم إنَّ حَقَّ الوالدين بالبر عظم، اللهم اغفر لنا تقصيرنا في حقهما، وأعنا على برهما على خير وجه يرضيك عنا أحياءً وأمواتًا، اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهما كما ربونا صغاراً.. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ عليك بأَعْدَاءِ الدِّينِ.. الَّلهُمَّ ابْسطْ الأَمْنَ وَالإِيمَانَ وَالسَلَامَةَ والإِسْلَامَ وَالـمَحَبَةَ وَالوِئَامَ عَلَى جَمِيعِ بِلَادِ الإِسْلَامِ.. اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، اللَّهُمَّ وفق ولي أمرنا وولي عهده بتوفيقك واحفظهما بحفظك، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.. عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.