🌟بِرُّ الوالدَين🌟

تركي بن عبدالله الميمان
1447/02/19 - 2025/08/13 09:25AM

((بر الوالدين))

الخُطْبَةُ الأُوْلَى

إِنَّ الحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُه ونَسْتَعِينُه، ونَستَغفِرُه ونَتُوبُ إليه، ونعوذُ باللهِ مِن شُرُورِ أَنفُسِنَا، وسَيّئَاتِ أعمالِنَا؛ من يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هَادِيَ له، وأشهدُ أن لا إله إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له؛ وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صَلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وصَحبِه، وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا.

أَمَّا بَعْدُ: فأُوصِيكُم ونَفْسِي بِمُرَاقَبَةِ اللهِ وتَقْوَاه؛ فَهِيَ الأصلُ والأساسُ، وهِيَ خيرُ لِبَاس! ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾.

أَيُّهَا الأَحِبَّةُ في الله: لقد جُبِلَتِ النفوسُ على حُبِّ مَنْ أحسَنَ إليهَا، وتَعَلَّقَت القلوبُ بِمَنْ كان لَهُ فضلٌ عليها؛ وليسَ أعظمُ إحسانًا، ولا أكثرُ فضلًا بعدَ اللهِ مِنَ الوالدَين!

فَاللهُ تعالى: لَهُ نِعمَةُ الخَلْقِ والإِيجَاد، وللوالدَينِ: نِعمَةُ التربِيَةِ والإيلاد؛ قال ﷻ: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾.

وقَرَنَ اللهُ حَقَّهُ بِحَقِّ الوالدَين! قال U: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾.

وقَرَنَ اللهُ شُكْرَهُ بِشُكْرِ الوالدَين؛ فمَنْ شَكَرَ اللهَ، ولم يَشْكُرْ والِدَيْه: لم يُقْبَلْ منه!

قال تعالى: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي ولِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المَصِيرُ﴾.

وتَأَمَّلْ حَالَ صِغَرِكَ، وضَعْفَ طُفُولَتِك، حِيْنَما حَمَلَتْكَ أمُّكَ في أحشائِهَا تِسعَةَ أشهُرٍ: حَمَلَتْكَ كُرهًا، ووَضَعَتْكَ كُرهًا؛ وكانَ بَطْنُهَا لكَ وِعَاء، وثَديُهَا لَكَ سِقَاء، وحِجْرُهَا لكَ حِوَاء؛ وأَمَّا أبوكَ: فأنتَ لهُ مَجبَنَةٌ مَبخَلَة، ينتقلُ بين الأَقطَار، ويتحمَّلُ الأخطار؛ بَحْثًا عن لُقْمَةِ عَيشِك، والقيامِ بحِفْظِك!

هذانِ هُمَا والِدَاك، وتِلكَ هي طُفُولَتُك، فاحذَرْ من التَّنَكُّرُ لِلْجَمِيل، وأيَّاكَ أن تكونَ مِمَّن قال فيهمُ القائل:

فَلَمَّا بَلَغْتَ السِّنَّ والغَايَةَ الَّتِي

 إِلَيْهَا مَدَى مَا كُنْتُ فِيكَ أُؤَمِّلُ

جَعَلْتَ جَزَائِي غِلْظَةً وفَظَاظَةً

 كَأنَّكَ أَنْتَ المُنْعِمُ المُتَفَضِّلُ![1]

ولِعِظَمِ مَكَانَةِ الوالدَينِ؛ فقد حَذَّرَ Q مِنْ إيذائِهما ولو بأدنى كلمة! ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا﴾.

قال بعضُهم: (لَوْ عَلِمَ اللهُ شَيْئًا مِنَ العُقُوقِ أَدْنَى مِنْ أُفٍّ لَحَرَّمَهُ)[2].

وكان بعضُ السَّلِفُ على دَرَجَةٍ عالِيَةٍ في مُعَامَلَةِ الوالدَين: فكانَ الحَسَنُ بنُ علي، لا يأكُلُ مع أُمِّهِ -وكان أَبَرَّ الناسِ بها- فقيل لهُ في ذلك، فقال: (أَخَافُ أَنْ تَسْبِقَ يَدِيْ إلى مَا سَبَقَتْ إِلَيْهِ عَيْنُهَا؛ فأَكُونُ قد عَقَقْتُهَا!)[3].

وكانَ طَلْقُ بنُ حَبِيْب -مِنْ بِرِّهِ لِأُمِّه- لا يَمْشِي فوقَ ظَهْرِ بَيتٍ هي تَحْتَه؛ إِجْلَالًا لِهَا![4]

وقال رَجُلٌ لِعَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ t: (حَمَلْتُ أُمِّي على رَقَبَتِي مِنْ خُرَاسَانَ، حَتَّى قَضَيْتُ بِهَا المناسكَ، أَتُرَاني جَزَيْتُهَا؟)، قال: (لا، ولا طَلْقَةً وَاحِدَةً!)[5].

وبِرُّ الوالدَين: أَحَبُّ إلى اللهِ مِنْ إِرَاقَةِ الدِّمَاءِ في ساحاتِ القتال! فقد جاءَ رَجُلٌ إلى النَّبِيِّ ﷺ، يَسْتَأْذِنُه في الجهادِ، فقال: (أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟)، قال: (نعم)، قال: (فَفِيهِمَا فَجَاهِد)[6].

ومَنْ أَرَادَ الجَنَّةَ؛ فَلْيَصْبِرْ على بِرِّ والِدَيْه، فالجَنَّةُ حُفَّتْ بالمكَارِه! قال ﷺ: (رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ)، قيل: (مَنْ يا رَسُولَ اللهِ؟)، قال: (مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الكِبَرِ -أَحَدَهُمَا أو كِلَيهِمَا- فَلَمْ يَدْخُلِ الجَنَّة)[7].

وبِرُّ الوالدَين مِنْ أسبابِ البرَكات، وتفريجِ الكُرُبَات! قال ﷺ: (بَيْنَمَا ثَلاَثَةُ نَفَرٍ يَمْشُونَ؛ أَخَذَهُمُ المَطَرُ، فأَوَوْا إلى غَارٍ في جَبَلٍ، فانْحَطَّتْ على فَمِ غَارِهِم صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ، فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِم؛ فقال بَعْضُهُم لِبَعْضٍ: "اُنْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا صَالِحَةً لِلهِ، فَادْعُوا اللهَ بِهَا؛ لَعَلَّهُ يُفَرِّجُهَا عَنْكُمْ"، قال أَحَدُهُم: "اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، ولِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ، كُنْتُ أَرْعَى عَلَيْهِم، فإذَا رُحْتُ عليهِم حَلَبْتُ، فَبَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ أَسْقِيهِمَا قَبْلَ بَنِيَّ، وإِنِّي اسْتَأْخَرْتُ ذَاتَ يومٍ، فَلَمْ آتِ حتى أَمْسَيْتُ، فَوَجَدْتُهُمَا نَامَا، فَحَلَبْتُ كما كُنْتُ أَحْلُبُ، فَقُمْتُ عندَ رُؤُوسِهِمَا أَكْرَهُ أَنْ  أُوقِظَهُمَا، وأَكْرَهُ أَنْ أَسْقِيَ الصِّبْيَةَ؛ والصِّبْيَةُ يَتَضَاغَونَ عندَ قَدَمَيَّ حتى طَلَعَ الفجرُ، فَإِنْ كنتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ؛ فَافْرُجْ لَنَا فَرْجَةً نَرَى منها السماءَ"؛ فَفَرَجَ اللهُ فُرجَةً فَرَأَوُا السماء!)[8].

فَيَا مَنْ وَقَعْتَ في العُقُوق، أو قَصَّرْتَ في أداءِ الحُقُوق؛ اِسْتَدْرِكْ والِدَيك! وجَاهِدْ فيهِما، وأَحْسِنْ صُحْبَتَهُما، واجْتَهِدْ في الإِحسَان، قبلَ فواتَ الأوان؛ قال ﷺ: (الوَالِدُ أَوْسَطُ أبوَابِ الجَنَّةِ، فَإِنْ شِئْتَ فَأَضِعْ ذلكَ البابَ أو احْفَظْه)[9].

ومَنْ بَرَّ بِوالدَيه: بَرَّ بِهِ بَنُوه، ومَنْ عَقَّهُمَا عَقُّوه! وكما تَدِينُ تُدَان، والجزاءُ مِنْ جِنْسِ العَمَل؛ وقد ذَكَرَ ابنُ الجَوزِي: أَنَّ بعضَ العَاقِّيْنَ قد ضَرَبَ أَبَاه، وسَحَبَهُ إلى مكان؛ فقال لَهُ الأَبْ: (حَسْبُكَ إلى هاهُنَا سَحَبْتُ أَبِي!)[10]. قال ﷺ: (ما مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ تُعَجَّلَ لِصَاحِبِهِ العُقُوبَةُ في الدُّنْيَا، معَ ما يُدَّخَرُ لَهُ في الآخِرَةِ: مِنَ البَغِيِ، وقَطِيعَةِ الرَّحِم)[11].

أَقُولُ قَولِي هذا، وأَستَغفِرُ اللهَ لِي ولَكُم مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فاستَغفِرُوهُ إنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم

الخُطْبَةُ الثَّانِيَة

الحَمدُ للهِ على إِحسَانِه، والشُّكرُ لَهُ على تَوفِيقِه وامتِنَانِه، وأشهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وأَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ ورَسُولُه.

أَمَّا بعدُ: فإنَّ مِنْ رحمَةِ اللهِ بالأولاد: أنْ فَتَحَ لَهُم أبوَابًا لِبِرِّ الوالدَينِ لا تُغْلَقُ بعدَ موتِهما؛ فَهُمَا في قَبْرِهِمَا يَنتَفِعَانِ منكَ بـ(صَدَقَةٍ جَارِيَة، أو دعوَةٍ صالحة)؛ قال ﷺ: (إِذَا مَاتَ الإِنسَانُ؛ اِنْقَطَعَ عنهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أو وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)[12]. قال ابنُ عُثَيمين: (الوَلَدُ الصالِحُ: هُوَ الذي يَدعُو لوالِدَيهِ بعدَ مَوتِهما، ولهذا يتأكَّدُ أن نَحْرِصَ على صلاحِ أولادِنَا؛ لأنهم يَدْعُونَ لنا بعدَ الموت)[13].

ومِنْ أنواعِ البِرِّ الذي يَصِلُ إلى الوالِدَيْنِ بعدَ وفاتِهما: صِلَةُ الرَّحِمِ والأصدقاء؛ جاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ ﷺ فقال: (يا رَسُولَ اللهِ، هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ، أَبَرُّهُمَا بِهِ بعدَ مَوتِهما؟)، قال: (نَعَمْ: الصَّلاةُ عَلَيْهِمَا، والاستِغفَارُ لَهُمَا، وإنفَاذُ عَهدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا، وصِلَةُ الرَّحِمِ التي لا تُوصَلُ إِلَّا بِهِمَا، وإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا)[14]. وفي الحديثِ الآخَر: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصِلَ أباهُ في قَبْرِهِ؛ فَلْيَصِلْ إِخْوَانَ أَبِيهِ بَعْدَهُ)[15]. قال المُنَاوِي: (أي يَصِلُ أصدقاءَهُ بعدَ مَوتِه)[16].

************

* اللَّهُمَّ اغفِرْ لآبَائِنَا وأُمَّهَاتِنَا، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُمْ كَمَا رَبَّوْنَا صِغَارًا، وارْزُقْنَا بِرَّهُم أَحياءً وأمواتًا.

* اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسلامَ والمُسلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّركَ والمُشرِكِين، وارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِين: أَبِي بَكرٍ، وعُمَرَ، وعُثمانَ، وعَلِيّ؛ وعن الصحابةِ والتابعِين، ومَنْ تَبِعَهُم بِإِحسَانٍ إلى يومِ الدِّين.

* اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ المَهمُومِينَ، ونَفِّسْ كَرْبَ المَكرُوبِين، واقْضِ الدَّينَ عَنِ المَدِينِين، واشْفِ مَرضَى المسلمين.

* اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوطَانِنَا، وأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا ووُلَاةَ أُمُورِنَا، ووَفِّقْ (وَلِيَّ أَمرِنَا ووَلِيَّ عَهْدِهِ) لِمَا تُحِبُّ وتَرضَى، وخُذْ بِنَاصِيَتِهِمَا لِلبِرِّ والتَّقوَى.

* عِبَادَ الله: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.

* فَاذكُرُوا اللهَ يَذْكُرْكُم، واشكُرُوهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ ﴿ولَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.


[1] البر والصلة، ابن الجوزي (119).
[2] الدر المنثور، السيوطي (5/258).
[3] وفيات الأعيان، ابن خلكان (3/268).
[4] انظر: بر الوالدين، الطرطوشي (78).
[5] انظر: البر والصلة، ابن الجوزي (41).
[6][6] رواه البخاري (3004)، ومسلم (2549).
[7] رواه مسلم (2551).
[8] رواه البخاري (2333)، ومسلم (2743).
[9] رواه الترمذي (1900)، وصحَّحه الألباني في صحيح الترمذي.
[10] صيد الخاطر، ابن الجوزي (473).
[11] رواه الترمذي وصححه (2511).
[12] رواه مسلم (1631).
[13] شرح رياض الصالحين (4/567). بتصرف
[14] رواه أبو داود (5142)، وصحَّحه "ابن باز" في الفتاوى (9/295).
[15] رواه ابن حبان (432)، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع (5960).
[16] التيسير بشرح الجامع الصغير (2/388). بتصرف

المرفقات

1755066184_‏‏‏‏بر الوالدين (نسخة مختصرة).pdf

1755066184_‏‏بر الوالدين (نسخة للطباعة).pdf

1755066184_بر الوالدين.pdf

1755066185_‏‏بر الوالدين (نسخة للطباعة).docx

1755066185_‏‏‏‏بر الوالدين (نسخة مختصرة).docx

1755066186_بر الوالدين.docx

المشاهدات 966 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا