بر الوالدين

هلال الهاجري
1447/02/19 - 2025/08/13 11:15AM

إن الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا من يهدِه اللهُ فلا مضلَ له ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وسلمَ تسليماً كثيراً.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)، أَمَّا بَعدُ:

تَأَمَّلُوا كَيفَ جَمَعَ اللهُ تَعَالى بَينَ حَقِّهِ وَبينَ حَقِّ الوَالِدِينِ، فَقَالَ سُبحَانَهُ: (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، فَلِلِّهِ سُبحَانَهُ نِعمَةُ الخَلقِ والإيجَادِ، ولِلوَالِدَينِ نِعمَةُ التَّربيةِ وَالإيلادِ، فَالوَالِدَانِ هَمَّا سَبَبُ وُجُودِ الإِنسانِ، وَلَهُمَا عَلَيْهِ غَايَةُ الإِحسانِ، ‌فَالْوَالِدُ ‌بالإِنفاقِ، وَالْوَالِدَةُ بالإِشفاقِ، ولِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ) - خَابَ وخَسِرَ والتَصَقَ أَنفُهُ بالرَّغامِ أيْ التُّرابِ من النَّدمِ -، قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟، قَالَ: (مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا ثُمَّ لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ)، أَتَعلَمُونَ لِمَاذَا؟، لأَنَّهُم يَرضَونَ بِأَدنَى مَا يُقَدِّمُهُ الأَبنَاءُ، ويَرَونَهُ عَظِيَماً لا يَستَطِيعُونَ لَهُ ثَناءً، فَمَنْ أَرَادَ الجَنَّةَ، فَبِرُّ الوَالِدِينِ هُوَ أَوسَطُ أَبوَابِ الجَنَّةِ، قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَحَافِظْ عَلَى وَالِدَيْكَ أَوِ اتْرُكْ).

هَل تَعلَمُونَ عَمَلاً هُوَ أَفضَلُ مِنَ الجِهَادِ والهِجرةِ؟، أَقْبَلَ رَجُلٌ إلى نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وَسَلَّمَ فَقالَ: أُبَايِعُكَ علَى الهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، أَبْتَغِي الأجْرَ مِنَ اللهِ، قالَ: (فَهلْ مِن وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ؟)، قالَ: نَعَمْ، بَلْ كِلَاهُمَا، قالَ: (فَتَبْتَغِي الأجْرَ مِنَ اللهِ؟) قالَ: نَعَمْ، قالَ: (فَارْجِعْ إلى وَالِدَيْكَ فأحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا)، ولِذَلِكَ لَمَّا جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: جِئتُ أُبَايِعُك علَى الهِجرةِ، وَتَركتُ أَبويَّ يَبكِيانِ، فَقَالَ: (ارجِع إليهِما فأضْحِكْهُما كما أبكيْتَهُما).

فَإذا أَرَدتَ أَن تَعرِفَ هَل رَبُّكَ رَاضٍّ عَنكَ أَم سَاخِطٌ؟، جَاءَ فِي الحَديثِ: (رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ وَسَخَطُهُ فِي سَخَطِهِمَا).

كَمَالُ البِرِّ للأَبوينِ يَهدِي *** إلى مَرضَاةِ رَبِّ العَالَمِينَا

أَمَّا الأُمُّ .. وما أدراكَ ما بِرُّ الأمِ؟، هِيَ أَحَقُّ النَّاسِ بصُحبتِكَ، وَضِحكَتِكَ، وَوَقتِكَ، وَأُنسِكَ، وَحَديثِكَ، وَعَطَاءِكَ، وحُسنِ أَخلاقِكَ، جَاءَ رَجُلٌ إِلَىٰ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟، قَالَ: (أُمُّكَ)، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟، قَالَ: (ثُمَّ أُمُّكَ). قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟، قَالَ: (ثُمَّ أُمُّكَ)، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟، قَالَ: (ثُمَّ أَبُوكَ)، فلها ثلاثةُ أرباعِ البِرِّ، يَقُولُ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (نِمْتُ، فرأيتُني في الجَنَّةِ، فَسَمعتُ صَوتَ قَارئٍ يَقرأُ، فقلتُ: مَن هذا؟)، قَالُوا: هَذَا حَارِثةُ بنُ النُّعمَانِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلمَ: (كَذَلِكَ البِرُّ، كَذَلِكَ البِرُّ)، وَكَانَ أَبرَّ النَّاسِ بأمِّهِ.

يَصِفُ اللهُ تَعَالى شَيئاً مِن حَالِهَا مَعَكَ فَيَقُول سُبحِانَهُ: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ)، فاجتَمَعَ عَلِيهَا ضَعْفُهَا وَضَعفُ الحَملِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الوَحَمِ والمَرَضِ والثُّقلِ، صَبَرَت عَلى تغيُّرِ الحالِ، وَذَهَابِ الجَمَالِ، تَقومُ بمَشقةٍ شديدةٍ، وَتَجلِسُ بِصُعوبةٍ بَالغةٍ، بَينَ آلامِ الظَّهرِ المُوجِعةِ، وَحَرَكَاتِ الجَنينِ المُفجِعةِ، فَنَهَارُها بَينَ مُعَاناةِ الجُلُوسِ والقِيَامِ، وَلَيلُهَا بَينَ مُعَانَاةِ السَّهَرِ والآلامِ، ثُمَّ آلامُ الطَّلقِ التي تَقصِمُ الظَّهرَ، ثُمَّ أَوجَاعُ الوَضعِ، أَنينٌ وَآهَاتٌ، صِرَاخٌ وَزَفَراتٌ، تِلكَ الزَّفَراتُ التي لا يَستَطِيعُ الوَاحِدُ مِنَّا أَنْ يَرُدَّ جَزاءَ وَاحِدةٍ مِنهَا، جاءَ رجلُ يَمَانِيٌّ يحمِلُ أُمَّهُ عَلَى ظَهرهِ مِنَ اليَمنِ إلى مَكَةَ حَتَّى طَافَ بِهَا بِالْبَيْتِ، فَلَقِيَ ابنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا فقَالَ له: يَا ابْنَ عُمَرَ أَتُرَانِي جَزَيْتُهَا؟، قَالَ: لا، وَلا بِزَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ.

ثُمَّ تَبدَأُ مَرحَلةٌ جَدِيدَةٌ مَعَ ذَلِكَ الصَّغِيرِ الذي لا يَستَطِيعُ مِن أَمرِه شَيئاً، فَأَنتَ مُحتَاجٌ إلى أُمِّكَ في جَميعِ أَحوَالِكَ، مُلتَصِقٌ بِهَا في سَائرِ أَوقَاتِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالى: (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ)، إذَا جِعتَ بَكيتَ، وَإذا عَطِشتَ بَكِيتَ، وَإذا مَرِضتَ بَكيتَ، وَإذَا فَزِعتَ مِن نَومِكَ بَكيتَ، وَأُمُّكَ عَلى ذَلكِ صَابِرةٌ، تَسهَرُ عِندَ رَأسِكَ إذا مَرِضتَ، وَتُرضعُكَ في النَّهارِ إذا جِعتَ، وَتَغسِلُ عَنكَ الأَذَى بِيَدِهَا، تَفرحُ إذا فَرَحتَ، وَتَحزنُ إذا حَزَنتَ، سَريرُكَ صَدرُهَا، وَمَجلِسُكَ حِجرُهَا، تَخَافُ عَلِيكَ مِنَ الهَوَاءِ، وَتُكثِرُ لَكَ في صَلاتِها الدُّعَاءَ، كَمْ أَحَسَستَ في حُضنِهَا بِالمَحبةِ وَالأَمَانِ، وَكَم شَرِبتَ مَعَ حَليبِهَا الرَّحمَةَ وَالحَنَانَ، وكَيفَ لِخِطَابٍ أَن يَصِفَ مَشَاعِرَهَا، وكَيفَ لِكَلِمَاتٍ أَن تُؤدي شُكرَهَا.

أَقُولُ مَا تَسمَعونَ، وَأَستغفِرُ اللهَ لي وَلَكُم وَلِجميعِ المُسلمينَ مِن كُلِّ ذَنبٍ، فَاستَغفِرُوهُ، إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخطبة الثانية:

الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالمينَ، أَحمدُهُ سُبحَانَهُ وَأَشكرُهُ عَلى نِعمةِ الأَمنِ والدِّينِ، وَأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ وَليُّ الصَّالحينَ، وَأَشهدَ أَنَّ نَبيَّنَا مُحمَّدًا عَبدُهُ وَرَسولُهُ إمَامَ المُتَّقينَ، صَلَّى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ، أَمَّا بَعدُ:

وَأَمَّا الأَبُّ .. فَقَد تَعِبَ كَثِيراً، وَشَقِيَ كَثِيراً في سَبِيلِ تَحصِيلِ لُقمَةِ العَيشِ لَكُم، كُنتُم أَنتُم هَمُّهُ الأَكبرُ، يَحزَنُ إذا لم يَستَطِعْ أَنْ يَستجِيبَ لِرَغبَاتِكُم، وَيَغتَّمُ إذا لم يَستَطِعْ أَن يُحقِّقَ طَلبَاتِكُم، كُنتُم لَهُ الآمَالُ الوَحِيدَةُ، وَمَعَكُم يَرَى الحَياةَ سَعِيدَةً.

كَانَتْ أَجمَلُ السَّاعاتِ تِلكَ التي يَجلِسُ فِيهَا مَعَنا، وَكَانَتْ أَفضَلُ الوَجبَاتِ تِلكَ التي يُشَارِكُنَا فِيهَا، وَكَانَتْ أَسعدُ اللَّيَالي تِلكَ التي نَنَامُ فِيهَا عَلَى يَدِهِ، فَنَشعُرُ بِالسَّعادةِ وَالأَمَانِ، وَنَنَسَى الخَوفَ والأَحزَانَ، كُنَّا نَرى أَبَاناَ أَقوَى النَّاسِ، وَأَشجَعَ النَّاسِ، وَأَكرَمَ النَّاسِ، وَأَحَبَّ النَّاسِ، فَهُوَ المِصبَاحُ الذي كَانَ سَبَبَاً فِي السَّعَادةِ والفَلاحِ، ولِكِنْ لِلأَسفِ، لا نَشعُرُ بِفَقدِهِ حَتى يَنطَفِئَ المِصبَاحُ.

لَو أَمطَرتْ ذَهَبَاً مِنْ بَعدِ مَا ذَهَبَا *** لا شَيءَ يَعدِلُ في هَذَا الوُجودِ أَبَا

مَازِلتُ في حِجرِهِ طِفلاً يُلاعِبُني *** تَزدَادُ بَسمَتُهُ لي كُلَّمَا تَعِبَا

لم يَحنِ ظَهرَ أَبي مَا كَانَ يَحمِلُهُ *** لَكِنْ لِيَحمَلني مِنْ أَجليَ انحَدَبَا

كَفَّاهُ غَيمٌ وَمَا غَيمٌ كَكِفِّ أَبي *** لم أَطلُبِ الغَيثَ إلا مِنهُمَا انسَكَبَا

مَهمَا كَتَبتُ بِهِ شِعراً فَإنَّ أَبي *** فِي القَدرِ فَوقَ الذي في الشِّعرِ قَد كُتِبَا

يَا مَنْ لَدِيكَ أَبٌ أَهمَلتَ طَاعتَهُ *** لا تَنتَظِرْ طَاعَةً إنْ صِرتَ أَنتَ أَبَا

لا تَنتَظِرْ مَوتَهُ، صِلْ في الحَيَاةِ أَبَاً *** لا يَنفَعُ الدَّمعُ فَوقَ القَبرِ إنْ سُكِبَا

اللهُمَّ اغفِرْ لأمُهَاتِنا وآبائِنا، اللهمَّ ارحمَهم كَمَّا رَبَّونَا صِغَاراً، اللهمَّ اجعَل جَزاءَهم جَنَّةً وَنَعِيمَاً، اللهمَّ اجعَل دَرَجَاتِهم في علِّيِّينَ، اللهمَّ اغفِرْ للأَحيَاءِ مِنهُم والمَيِّتينَ، وَاجعَلنَا مِنَ البَّارِينَ بِهِم وَلا تَجعلنَا مِنَ العَاقِّينَ، اللهمَّ ارضَ عَنهُم وارضَ عَنَّا وَأَدخِلنَا الجَنَّةَ، وَبَاعِد بَينَنا وَبَينَ النَّارِ، اللهمَّ وَفِّقْ إمَامَنَا بِتَوفيقِكَ وَأَيِّدهُ بِتَأييدِكَ، اللهمَّ ارزقهُ البِطَانةَ الصَّالحةَ الطَّيبةَ المُبَاركةَ التي تَدلُّهُ عَلى الخَيرِ وَتُعينُه عَليهِ، اللهمَّ وَفِّقهُ وَوَليَّ عَهدِهِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرضَى وَخُذْ بِنَاصيتِهم لِلبرِ وَالَّتقوى، اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ وَأَذِلَّ الشِّركَ وَالمشركينَ وَدَمِّرْ أَعدَاءَكَ أَعدَاءَ المِلةِ وَالدِّينِ، اللهمَّ انصرْ إخوانَنا المسلمينَ المستضعفينَ في كُلِّ مَكانٍ، اللهمَّ إنَّهم ضِعَافٌ فَقَوِّهِم، وَمظلومُونَ فَانتَصِرْ لهم، وَجِياعٌ فَأَطعمهُم، وَحُفاةٌ فَاكسِهُم، رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنتَ السَّميعُ العَليمُ، وَتُبْ عَلينا إنَّكَ أَنتَ التَّوابُ الرَّحيمُ.

المرفقات

1755072880_بر الوالدين.docx

1755072889_بر الوالدين.pdf

المشاهدات 1354 | التعليقات 0