بين صورتين

د. سلطان بن حباب الجعيد
1447/02/13 - 2025/08/07 14:55PM

بين صورتين

الحمدُ للهِ التوّابِ الغفورِ الرحيم، الحمدُ للهِ الأوّلِ والآخِرِ والظاهِرِ والباطِن، وهو بكلِّ شيءٍ عليم، نحمدُه سبحانه، فهو الذي دلّنا على طريقِ المنزلةِ الرفيعة، أشرفِ مكانةٍ يصلُ إليها بشر، وهي محبتُه لنا، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾.

والصلاةُ والسلامُ على أكثرِ الخلقِ استغفارًا، وأحقِّهم بصفةِ الأوّاب، وأجملِ الخلقِ ظاهرًا وباطنًا، صلاةً وسلامًا دائمين متعاقبين ما تعاقب الليلُ والنهار، وسلّم تسليمًا كثيرًا.

 


أما بعدُ:

فأوصيكم - أيها الأحبّة - ونفسي بتقوى اللهِ، التي جعلَها اللهُ لباسًا نسترُ به سوآتِنا المعنوية، كما نسترُ بالرياشِ واللباسِ سوآتِنا الحسيّة: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾.

 


أيها الناس:

منذُ أن قبضَ اللهُ قبضةَ الطين، ونفخَ فيها من روحه، وابنُ آدمَ تعتلجُ وتصطرعُ في داخله هذه الثنائية؛ ثنائيةُ الروحِ والجسد.

روحُه التي تتوقُ إلى أصلها، وترومُ العُليا، وتتطلّعُ إلى معالي الأمور، وتحبُّ الخيرَ وترنُو إليه، وتتغذّى على الفضائلِ والأخلاقِ الجميلةِ والصفاتِ النبيلة.

وجسدُه الذي ينجذبُ إلى أصلِه الطين، مستودعُ الغرائزِ والنزوات، يحبُّ السكونَ والدعةَ والراحة، والخلودَ إلى الأرض، ويتغذّى على الشهواتِ والملذّات.

ليتشكّلَ لابنِ آدمَ بذلك صورتان:

صورةُ الظاهر، وصورةُ الباطن.

صورةُ الروح، وصورةُ الجسد.

صورةُ الإنسان، وصورةُ الحيوان.

 


وقيمةُ الإنسانِ الحقيقيّة، إنما يستمدُّها من خلالِ صورتِه الإيمانيّة، ومدى تحقيقِه للعبوديّةِ لربِّه، واستسلامِه وانقيادِه لشرعِ الله، وتخليصِ نفسِه من أهوائِها وأطماعِها.

وإذا أخفقَ العبدُ في ذلك، وفقدَ روحَه وإيمانَه وإنسانيّتَه الحقيقيّة، لم يبقَ له إلا صورةُ الجسدِ ومتطلباتُ الجسد، وبذلك يزولُ عنه الفارقُ الوحيدُ بينه وبين الحيوان، فيكون هو وإيّاه في منزلةٍ واحدة: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾.

وما أصدقَ تعبيرَ الشاعر، عندما عبّرَ عن هذه الحقيقة بقوله:

 


لسانُ الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤادُهُ

فلم يبقَ إلا صورةُ اللحمِ والدَّمِ

 


ولنا - أيها الأحبّة - أن ننظرَ في أنفسِنا، ونسألَها: أيُّ الصورتين ينصبُّ اهتمامُنا لها أكثر؟ ونعتني بها، ونلبّي احتياجاتِها، وننشغلُ بجمالِها وحسنِها؟!

لعلّنا لا نبتعدُ عن الحقيقة، إذا قلنا: إنّ غالبَ الناسِ انشغلوا بالظاهرِ على حسابِ المضمون، وانشغلوا بجمالِ الصورةِ على حسابِ جمالِ الروح، وانشغلوا بالصورةِ الزائلة، على حسابِ الصورةِ الدائمةِ والباقية: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾.

 


نحن لا نجهلُ، ولا يخفى علينا، أهميةَ تعهُّدِ صورتِنا الحسيّةِ الظاهرة، فنحنُ في كلِّ يومٍ نفعلُ ذلك ونقومُ به: فنغتسلُ ونتنظّفُ ونتطهّر، ونأكلُ ونشرب، ونلبسُ الجديدَ أو النظيف، ونقصُّ الزائدَ من شعورِنا وأظفارِنا، وننظرُ في المرآةِ مرّاتٍ ومرّات.

ولو تصوّرْنا أو تخيّلنا أن هذا الاهتمامَ والتعهُّدَ بهذه المظاهرِ توقّف، فما الذي سيحدث؟!

حتى تجيبَ على هذا السؤال، اسمحْ لنفسِك الآن أن تتخيّل، فستجدُ في مخيّلتِك صورةً قبيحةً وغريبةً ومنتنة؛ ثيابًا متّسخة، وشعرًا زائدًا، وبشرةً يعلوها الدرنُ والوسخ، وروائحَ تنبعثُ من كلِّ مكان!

إنّها بالفعلِ صورةٌ مرعبةٌ ومقزِّزة، تجعلك تعوذُ باللهِ أن ترى نفسَك هكذا يومًا ما، فضلًا عن أن يراك غيرُك!

 


لكن الذي يخفى على كثيرٍ منّا، هو أهميةُ تعهُّدِ الصورةِ الداخليّةِ والعنايةِ بها، وهي تحتاجُ إلى تعهُّدٍ يومي، كما هو الحالُ مع صورتِنا الظاهرة، بل هي أشدُّ حاجة؛ فإنّه يدركُها ما يدركُ الصورةَ الظاهرة - إذا تُرِكت بلا عناية - من الوسخِ والرّانِ والشعثِ وقبحِ الصورة.

وإليك هذا الحديثَ الذي يؤكِّدُ هذه الحقيقة، قال رسولُ اللهِ ﷺ:

(إنّ الإيمانَ ليخلقُ في جوفِ أحدِكم كما يخلقُ الثوبُ، فاسألوا اللهَ أن يُجدِّدَ الإيمانَ في قلوبِكم).

[ الطبراني والحاكم وصححه الألباني]

وفي الحديثِ الآخر أيضًا، الذي رواه حذيفةُ بنُ اليمانِ رضي الله عنه قال: قال النبيُّ ﷺ:

(تُعرَضُ الفتنُ على القلوبِ كالحصيرِ عودًا عودًا، فأيُّ قلبٍ أُشربها نُكِتَ فيه نُكتةٌ سوداء، وأيُّ قلبٍ أنكرها نُكِتَ فيه نُكتةٌ بيضاء، حتى تصيرَ القلوبُ على قلبين: قلبٍ أبيضَ مثلِ الصفا، فلا تضرُّه فتنةٌ ما دامت السماواتُ والأرض، والآخرُ أسودُ مربادًّا كالكوزِ مُجخِّيًا، لا يعرفُ معروفًا ولا يُنكرُ منكرًا، إلا ما أُشربَ من هواه). [ مسلم]

ويقول الله عزّ وجلّ: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.

 


معشر الإخوة:

إنّ الذنوبَ والمعاصي، والحسدَ والكبر، والحقدَ والغل، والبطرَ والعُجب، والرياءَ والنفاق، والظلمَ والتسلّطَ على عباد الله، وحبَّ الشهوات والمنكرات، واللهثَ خلف حطام الدنيا والتعلّقَ بها، والتقاتلَ والتخاصمَ من أجل حطامها، وكسبَ المالِ المحرّم، والتدابرَ والتباغضَ — كلُّ ذلك وغيرُه أوساخُ صورتِنا من الداخل، تذهبُ بجمالها، ويحلُّ بها القبح، ويدركُها النتنُ والتشوّه.

ولكن، لأنّ ذلك غيرُ محسوسٍ ومشاهد، فنحن لا نكترث ولا نهتمّ، فلو قُدِّرَ لهذه الصورِ التي بداخلِنا أن تتجسّدَ وتصبحَ مشاهدة، لرأينا عجبًا!

 


يقول أحدُ السلف: “لو أن للذنوب رائحةً، ما جالسني منكم أحد.”

ويقول آخر: “لو اطّلعتم على سريرتي، لما صافحني منكم أحد.”

 


ولكنّ المخيفَ في الأمر، والذي لو تأمّلناه لذبنا خوفًا وخجلًا وحياءً؛ أنّها الصورةُ التي يطّلعُ عليها اللهُ، وينظرُ إليها!

ففي الحديثِ الصحيح: (إنّ الله لا ينظرُ إلى أجسامِكم، ولا إلى صورِكم، ولكن ينظرُ إلى قلوبِكم).[ مسلم]

فكما نهتمُّ لنظر الناس، ونحرصُ ألّا نظهرَ أمامهم إلا بصورةٍ لائقة، فكذلك لنَهتمَّ بنظرِ الله، ولنحرصْ ألّا يطّلعَ اللهُ إلا على قلوبٍ لائقةٍ وجميلة.

 


إنّ الجمالَ الحقيقي، والذي ينبغي أن نحرصَ عليه ونتعهّدَه، هو جمالُ صورتِنا عند ربِّنا، جمالُ أخلاقِنا وتعاملِنا، جمالُ أرواحِنا، وما سوى ذلك فهو بريقٌ خادع، وصورةٌ زائلة.

 


فأيُّ جمالٍ يفرحُ به صاحبُه، إذا كان عند اللهِ قبيحًا؟! وأيُّ قيمةٍ يفتخرُ بها، إذا كانت لا وزنَ لها عند الله؟!

عن أبي العباس سهلِ بن سعدٍ الساعديِّ رضي الله عنه قال:

مرَّ رجلٌ على النبي ﷺ، فقال لرجلٍ عنده جالس: (ما رأيك في هذا؟) فقال: رجلٌ من أشرافِ الناس، هذا واللهِ حريٌّ إن خطبَ أن يُنكح، وإن شفعَ أن يُشفّع.

فسكت رسولُ الله ﷺ، ثم مرّ رجلٌ آخر، فقال له رسولُ الله ﷺ: (ما رأيك في هذا؟)

فقال: يا رسولَ الله، هذا رجلٌ من فقراء المسلمين، هذا حريٌّ إن خطبَ أن لا يُنكح، وإن شفعَ أن لا يُشفّع، وإن قالَ أن لا يُسمعَ لقوله.

فقال رسولُ الله ﷺ: (هذا خيرٌ من ملء الأرضِ مثل هذا). [متفق عليه].

 


وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه، عن رسولِ الله ﷺ قال:

(إنّه ليأتي الرجلُ العظيمُ السمينُ يومَ القيامةِ لا يزنُ عند اللهِ جناحَ بعوضة) [متفق عليه].

وعنه رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله ﷺ:

(رُبَّ أشعثَ مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسمَ على اللهِ لأبَرَّه) [رواه مسلم].

 


اللهمّ جمّل منّا البواطنَ كما جمّلتَ من الظواهر، ونعوذُ بك أن نكونَ عند الناسِ عظماء، وفي ملكوتِ السماءِ حُقَراء.

قد قلتُ ما قلت، فإن كان صوابًا، فالحمدُ لله، وإن كان خطئًا، فاستغفرُ اللهَ لي ولكم من كلّ ذنب، فاستغفروه، إنّه هو الغفورُ الرحيم.

 


 


الخطبة الثانية:

 


الحمدُ لله وحده، والصلاةُ والسلامُ على من لا نبيّ بعده، وبعد:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ…﴾

 


عبادَ الله،

إنّ تعاهدَ صورتِنا المعنويّة، ينبغي أن يكونَ عملًا يوميًّا، تمامًا كما نتعاهدُ صورتَنا الحسيّةَ ومظاهرَنا الخارجيّة.

ومن الوسائلِ التي تُعينُ على ذلك، وتُعيدُ لقلوبِنا رونقَها وجمالَها، ولصورتِنا من داخلِنا بهاءَها وحياتَها:

 


أولًا: التوبةُ والاستغفار.

ففي الحديثِ الصحيح، الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي ﷺ:

“إنّ العبدَ إذا أخطأ خطيئةً، نُكِتَ في قلبِه نُكتةٌ سوداء، فإن هو نزعَ واستغفرَ وتابَ صُقِل قلبُه، وإن عادَ زيدَ فيها حتى تعلوَ على قلبِه، وهو الرانُ الذي ذكرَ اللهُ تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.” [ الترمذي وصححه والحاكم]

 


ثانيًا: العملُ الصالح.

يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾،

ويقول عليه الصلاة والسلام: (وأتبِعِ السيئةَ الحسنةَ تمحُها). [ أحمد والترمذي]

 


ثالثًا: الإعراضُ عن الفتنِ والمنكراتِ وتجنُّبُها، وتركُ ما حرّم الله.

وفي حديث الفتن الذي مرّ، أن القلبَ إذا رفضها نُكِتَ فيه نُكتةٌ بيضاء، حتى يكون كالصّفا بياضًا ونقاءً.

 


رابعًا: ومن الأعمالِ الجليلة التي يجمعُ اللهُ بها للعبد بين طهارةِ ظاهرِه وباطنِه: الصلاةُ، فإنّ اللهَ يمحو بها الأدرانَ الحسيّة والمعنويّة.

يقول عليه الصلاة والسلام:

((أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدِكم، يغتسلُ منه كلَّ يومٍ خمسَ مرات، هل يبقى من دَرَنِه شيء؟))

قالوا: لا يبقى من دَرَنِه شيء،

قال: ((فذلك مثلُ الصلواتِ الخمس؛ يمحو اللهُ بهنَّ الخطايا)) [متفق عليه].

 


وإن لم نفعل - أيها الإخوة -، وتوقّف هذا التعاهدُ اليوميُّ لقلوبِنا، كثُرت عليها الأدران، وشوّهت صورتُنا من داخلِها، وأصبحت في غايةِ القبح.

بل قد يصلُ الحدُّ مع زيادةِ الإهمالِ وعدمِ الاهتمام، إلى موتِ هذه القلوب - والعياذ بالله -، إلى موتِ الإنسانِ الحقيقيِّ في داخلِك.

عندها تصبحُ هذه الأجسادُ المجمّلةُ والمزيّنة، أشبهَ بالتوابيتِ المُكلّلةِ بالزّهور، لكنّها تحملُ في داخلها قلبًا ميتًا، أو ضميرًا ميتًا، أو إنسانًا ميتًا.

 


اللهمّ إنّا نعوذُ بك من موتِ القلوبِ وغفلتِها وسوادِها..

اللهمّ أحيي قلوبَنا، وزَيِّن خُلُقَنا كما زَيّنتَ خَلقَنا،

وأجِرْنا من سخطِك وعذابِك، يا ربَّ العالمين..

اللهمّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمين..

المرفقات

1754567708_‎⁨بين صورتين⁩.docx

1754567912_بين صورتين PDF.pdf

المشاهدات 569 | التعليقات 0