تَذْكِيْرُ الأَنَامِ ِبتَصَرُّمِ الأَيَامِ والأَعْوَامِ

تَذْكِيْرُ الأَنَامِ ِبتَصَرُّمِ الأَيَامِ والأَعْوَامِ

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا ، وتبارك الذي جعل في السماء بروجًا وقمرًا منيرًا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، خلق كل شيء فقدره تقديرًا ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، بعثه ربه هاديًا ومبشرًا ونذيرًا ، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا ، أما بعد :-

فأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فهي وَصِيَّتُهُ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ ، وَخَيْرُ زَادٍ يَتَزَوَّدُ بِهِ الْمَرْءُ فِي حَيَاتِهِ لِمَعَادِهِ . { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } .

عبادَ اللهِ : لقد ودَّعنا عامًا ، واستقبلنا عامًا آخرَ ، أمضينَا عامًا فَرحَ فيهِ أقوامٌ وحزنَ فيه آخرونَ ، عاشَ فيه أقوامٌ وهلكَ فيهِ آخرونَ ، استصحَّ فيه أقوامٌ ومَرضَ فيه آخرونَ ، اجتمع فيهِ أحبابٌ وتفرَّقَ آخرون . كم من نفسٍ وارينا عليها التراب وكانت تعيشُ معنا بآمالِها وطموحاتِها ، فوافاهَا الأجلُ في لحظةٍ . فهنيئًا لمن عَمَرَ دنياهُ بالطاعةٍ وتقرَّبَ لخالقهِ ، وحفظَ جوارحهُ من المعاصي ، وسَلِمَ من حقوقِ الخلقِ ؛ فهذا هو الفائزُ الحقيقيُّ .

عباد الله : إن من الناس من هو منهمك في مشاغل الدنيا على حساب آخرته ، ما إن ينتهي من شغل إلا ويدخل في شغل آخر ، لا تنتهي أشغاله ولا يتفرغ باله . وكأنه ما خُلق إلا للدنيا حتى يفجؤه الموت ، وهو على تلك الحال . وما انقضت أشغاله ، فيبوء بالندم ، ولكن لا تنفع الندامة حينئذ .

قال أبوالدرداء رضي الله عنه : " إنما أنت أيام كلما مضى منك يوم مضى بعضك ".

فسبحان الله ما أسرع الأيام ، تمضي الأعوام تلو الأعوام وكأنها أضغاث أحلام . وَسُرْعَةُ الْأَيَّامِ وَعَجَلَةُ الشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ ؛ عَلَامَةٌ مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ ، وَدَلِيلٌ عَلَى قُرْبِ انْتِهَاءِ الدُّنْيَا ، هَذَا مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ، فَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَاْ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ ، وَتَكْثُرَ الزَّلازِلُ ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ وَهُوَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ ) ، وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ ، فَتَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ ، وَيَكُونَ الشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ ، وَتَكُونَ الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ ، وَيَكُونَ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ ، وَتَكُونَ السَّاعَةُ كَاحْتِرَاقِ السَّعَفَةِ ) . وإِنَّ فِي تَقَارُبِ الزَّمَانِ ، وَعَجَلَةِ الْأَيَّامِ ، وَسُرْعَةِ الشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ ، حَثٌّ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ لِلْآخِرَةِ ، وَوَاعِظٌ لَهُ لِلْإِعْرَاضِ عَنِ الْفَانِيَةِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْبَاقِيَةِ ؛ لِأَنَّ عُمْرَ الْإِنْسَانِ سَاعَاتٌ وَأَيَّامٌ وَشُهُورٌ وَأَعْوَامٌ ، وَمَا يَمْضِي مِنْهُ لَا يَعُودُ .

عباد الله : إن الإنسان يفرح بمرور الأيام وتمام الأعوام ؛ لينال مُرتبًا أو رزقًا أو عطاءً أو وفاءً أو قسطًا ، يفرح لعلاوةٍ قادمة ؛ أو أجرةٍ حالة ؛ أو بيعٍ أو شراء ؛ أو غائبٍ يُنتظر أو صغيرٍ يكبر ، يفرح وحُق له أن يفرح فيما أباح الله له ؛ لكن العَجَب هو أن فرحه في الحقيقة فرحٌ بانتهاء عمره ، وانقضاء أيامه .

       إنَّا لنفرح بالأيام نقطعها           وكل يوم يمـضي يُدني من الأجل

فالسعيد يا عباد الله ؛ من بادر زمانه وحفظ أوقاته ؛ واجتهد في عملٍ يُقربه إلى ربه ، فمن عمل صالحًا فلنفسه . السعيد من تاب وأناب ، واستعد ليوم الحساب ، السعيد من سعى لدار السلام ، واستعد لآخرته بالأعمال الصالحة وحُسن الختام .

عباد الله : سرعة مرور الأيام عبرةٌ وعظةٌ لذوي العقول والأحلام ، وأهل الذكرى والأفهام ، وتذكيرٌ للإنسان بالاستعداد والانتقال ، فقدِّم لما تُقدم عليه ، والمرء لا يدري ما بقاؤه ، وما هي أيامه ، وما يدري ما يعرض له في حياته وتقلباته : ( وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ) .

قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ : ( مَا مِنْ يَوْمٍ يَنْشَقُّ فَجْرُهُ إِلَّا وَيُنَادِي : يَا ابْنَ آدَمَ أَنَا خَلْقٌ جَدِيدٌ وَعَلَى عَمَلِكَ شَهِيدٌ فَتَزَوَّدْ مِنِّي فَإِنِّي إِذَا مَضَيْتُ لَا أَعُودُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) . أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ : { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا } . بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .

 

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا . أَمَّاْ بَعْدُ :-

ففي كل عام يُولدُ أقوامٌ يستقبلون حياتهم ، ويموتٌ أقوامٌ وهم مجزيون بأعمالهِم ، فهل من متعظٍ ومعتبرٍ . قال تعالى : { يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْن } ، وقال : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَام } .

عباد الله : في تصرم الأيام والأعوام تذكير للأنام ، ألم تروا إلى هذه الشمس تطلع كل يوم من مشرقها وتغرب من مغربها إن في هذا أعظم اعتبار ، فإن طلوعها ثم غيوبها إيذان بأن هذه الدنيا ليست بدار قرار ، وإنما هي طلوع وغيوب . و هذه الشهور تُهِلُّ فيها الأهلة صغيرة كما يولد الأطفال ثم تنمو رويدًا رويدًا كما تنمو الأجسام حتى إذا تكامل نموها ، وأصبحت بدرًا أخذت بالنقص والاضمحلال ، وهكذا عمر الإنسان . ألم تروا إلى هذه الأعوام تتجدد عامًا بعد عام ، فإذا دخل العام الجديد نظر الإنسان إلى آخره نظر البعيد ، ثم تمر به الأيام سراعًا فيتصرم به العام ، ويذهب كلمح البصر ، فإذا هو في آخر العام ، وهكذا عمر الإنسان يتطلع الإنسان إلى آخره تطلع البعيد فإذا به يأخذه الموت بغتة وانقضت في لحظة جميع آماله وأحلامه في هذه الدنيا : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } . فعلى العاقل أن يحاسب نفسه على ما قَدَّم في يومه وأمسه ، فإن كان خيرًا فليحمد الله ، وليتزود من الصالحات ، وإن كان غير ذلك فإن أمامه فرصة للتدارك والتوبة والعمل ، فإن من حاسب نفسه اليوم خف عليه الحساب يوم الحساب ، ومن أهمل نفسه فلم يحاسبها ظهرت عند الموت حسراته ، وطالت في عرصات يوم القيامة وقفاته ، وقادته إلى المقت والخزي سيئاته ، فليستحضر المسلم هذه المعاني ، وليستعد للموت وما بعده ، فإننا في هذه الدنيا في دار عمل ، وسننتقل منها يومًا من الأيام ، ومن مات فقد قامت قيامته ، ومن مات فقد انتقل من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة ، من مات فقد أُغْلِقَ في وجهه باب التوبة ، وأغلق في وجهه باب العمل ، وانتقل إلى دار الجزاء والحساب . نعم يا عباد الله إن محاسبة النفس لا بد منها ، وقد أمر الله تعالى بها فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } . قال أهل العلم : هذه الآية أصل في محاسبة النفس .

عباد الله : نحن في شهر الله المحرم ، وفيه يوم عظيم وهو يوم عاشوراء ، نجى الله فيه موسى وقومه من فرعون وقومه ، ويسن صيامه لما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم صامه وحث على صيامه شكراً لله عز وجل وتأسّياً بنـبي الله موسى ، ولِمَا يترتب عليه من الأجر والثواب ، قال صلى الله عليه وسلم : ( صيام يوم عاشوراء ، إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله ) (رواه مسلم) . والأفضل أن يُصَام قبله يوم لقوله صلى الله عليه وسلم في آخر حياته بعد أن أُمر بمخالفة اليهود : ( لَئِنْ بقيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ ) (رواه مسلم) . ولا يُكره على الصحيح إفراد اليوم العاشر بالصوم كما قال ابن تيمية رحمه الله .. هذا وصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ أَمَرَكُمْ رَبُّكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ فَقَالَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ : ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) . اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك نبيَّنا محمد ، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائِه الراشدين ، الأئمةِ المهديين ، أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ ، وعَن الصحابةِ أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين . اللَّهُمَّ أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ،  ودمر أعداء الدين ، واجعل هذا البلد آمنا مستقرا وسائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين ، اللَّهُمَّ أحفظ علينا أمننا وإيماننا واستقرارنا في أوطاننا ، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا ، وقنا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن ، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين . اللَّهُمَّ أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ، وحبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين ، اللَّهُمَّ أصلح ولاة أمورنا ، اللَّهُمَّ وفقهم لما فيه خير للإسلام والمسلمين ، اللَّهُمَّ أحفظ بهم أمننا واجمع بهم كلمتنا ، وألف بهم جماعتنا يا حي يا قيوم يا سميع الدعاء ، اللَّهُمَّ أحفظ بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين ، اللهم احفظ جنودنا المرابطين على حدودنا . اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين . { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } . وأقم الصلاة .

 

( خطبة الجمعة 2/1/1447هـ . جمع وتنسيق خطيب جامع العمار بمحافظة الرين / عبد الرحمن عبد الله الهويمل                          للتواصل جوال و واتساب /  0504750883  )

 

المرفقات

1750871907_تَذْكِيْرُ الأَنَامِ ِبتَصَرُّمِ الأَيَامِ والأَعْوَامِ.docx

المشاهدات 441 | التعليقات 0