تَذْكِيْرُ الأَنَامِ ِبتَصَرُّمِ الأَيَامِ والأَعْوَامِ
الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله الهويمل
تَذْكِيْرُ الأَنَامِ ِبتَصَرُّمِ الأَيَامِ والأَعْوَامِ
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا ، وتبارك الذي جعل في السماء بروجًا وقمرًا منيرًا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، خلق كل شيء فقدره تقديرًا ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، بعثه ربه هاديًا ومبشرًا ونذيرًا ، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا ، أما بعد :-
فأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فهي وَصِيَّتُهُ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ ، وَخَيْرُ زَادٍ يَتَزَوَّدُ بِهِ الْمَرْءُ فِي حَيَاتِهِ لِمَعَادِهِ . { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } .
عبادَ اللهِ : لقد ودَّعنا عامًا ، واستقبلنا عامًا آخرَ ، أمضينَا عامًا فَرحَ فيهِ أقوامٌ وحزنَ فيه آخرونَ ، عاشَ فيه أقوامٌ وهلكَ فيهِ آخرونَ ، استصحَّ فيه أقوامٌ ومَرضَ فيه آخرونَ ، اجتمع فيهِ أحبابٌ وتفرَّقَ آخرون . كم من نفسٍ وارينا عليها التراب وكانت تعيشُ معنا بآمالِها وطموحاتِها ، فوافاهَا الأجلُ في لحظةٍ . فهنيئًا لمن عَمَرَ دنياهُ بالطاعةٍ وتقرَّبَ لخالقهِ ، وحفظَ جوارحهُ من المعاصي ، وسَلِمَ من حقوقِ الخلقِ ؛ فهذا هو الفائزُ الحقيقيُّ .
عباد الله : إن من الناس من هو منهمك في مشاغل الدنيا على حساب آخرته ، ما إن ينتهي من شغل إلا ويدخل في شغل آخر ، لا تنتهي أشغاله ولا يتفرغ باله . وكأنه ما خُلق إلا للدنيا حتى يفجؤه الموت ، وهو على تلك الحال . وما انقضت أشغاله ، فيبوء بالندم ، ولكن لا تنفع الندامة حينئذ .
قال أبوالدرداء رضي الله عنه : " إنما أنت أيام كلما مضى منك يوم مضى بعضك ".
فسبحان الله ما أسرع الأيام ، تمضي الأعوام تلو الأعوام وكأنها أضغاث أحلام . وَسُرْعَةُ الْأَيَّامِ وَعَجَلَةُ الشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ ؛ عَلَامَةٌ مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ ، وَدَلِيلٌ عَلَى قُرْبِ انْتِهَاءِ الدُّنْيَا ، هَذَا مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، الَّذِي لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ، فَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَاْ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ الْعِلْمُ ، وَتَكْثُرَ الزَّلازِلُ ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ وَهُوَ الْقَتْلُ الْقَتْلُ ) ، وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ ، فَتَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ ، وَيَكُونَ الشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ ، وَتَكُونَ الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ ، وَيَكُونَ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ ، وَتَكُونَ السَّاعَةُ كَاحْتِرَاقِ السَّعَفَةِ ) . وإِنَّ فِي تَقَارُبِ الزَّمَانِ ، وَعَجَلَةِ الْأَيَّامِ ، وَسُرْعَةِ الشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ ، حَثٌّ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ لِلْآخِرَةِ ، وَوَاعِظٌ لَهُ لِلْإِعْرَاضِ عَنِ الْفَانِيَةِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْبَاقِيَةِ ؛ لِأَنَّ عُمْرَ الْإِنْسَانِ سَاعَاتٌ وَأَيَّامٌ وَشُهُورٌ وَأَعْوَامٌ ، وَمَا يَمْضِي مِنْهُ لَا يَعُودُ .
عباد الله : إن الإنسان يفرح بمرور الأيام وتمام الأعوام ؛ لينال مُرتبًا أو رزقًا أو عطاءً أو وفاءً أو قسطًا ، يفرح لعلاوةٍ قادمة ؛ أو أجرةٍ حالة ؛ أو بيعٍ أو شراء ؛ أو غائبٍ يُنتظر أو صغيرٍ يكبر ، يفرح وحُق له أن يفرح فيما أباح الله له ؛ لكن العَجَب هو أن فرحه في الحقيقة فرحٌ بانتهاء عمره ، وانقضاء أيامه .
إنَّا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يوم يمـضي يُدني من الأجل
فالسعيد يا عباد الله ؛ من بادر زمانه وحفظ أوقاته ؛ واجتهد في عملٍ يُقربه إلى ربه ، فمن عمل صالحًا فلنفسه . السعيد من تاب وأناب ، واستعد ليوم الحساب ، السعيد من سعى لدار السلام ، واستعد لآخرته بالأعمال الصالحة وحُسن الختام .
عباد الله : سرعة مرور الأيام عبرةٌ وعظةٌ لذوي العقول والأحلام ، وأهل الذكرى والأفهام ، وتذكيرٌ للإنسان بالاستعداد والانتقال ، فقدِّم لما تُقدم عليه ، والمرء لا يدري ما بقاؤه ، وما هي أيامه ، وما يدري ما يعرض له في حياته وتقلباته : ( وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ) .
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ : ( مَا مِنْ يَوْمٍ يَنْشَقُّ فَجْرُهُ إِلَّا وَيُنَادِي : يَا ابْنَ آدَمَ أَنَا خَلْقٌ جَدِيدٌ وَعَلَى عَمَلِكَ شَهِيدٌ فَتَزَوَّدْ مِنِّي فَإِنِّي إِذَا مَضَيْتُ لَا أَعُودُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) . أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ : { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا } . بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا . أَمَّاْ بَعْدُ :-
ففي كل عام يُولدُ أقوامٌ يستقبلون حياتهم ، ويموتٌ أقوامٌ وهم مجزيون بأعمالهِم ، فهل من متعظٍ ومعتبرٍ . قال تعالى : { يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْن } ، وقال : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَام } .
عباد الله : في تصرم الأيام والأعوام تذكير للأنام ، ألم تروا إلى هذه الشمس تطلع كل يوم من مشرقها وتغرب من مغربها إن في هذا أعظم اعتبار ، فإن طلوعها ثم غيوبها إيذان بأن هذه الدنيا ليست بدار قرار ، وإنما هي طلوع وغيوب . و هذه الشهور تُهِلُّ فيها الأهلة صغيرة كما يولد الأطفال ثم تنمو رويدًا رويدًا كما تنمو الأجسام حتى إذا تكامل نموها ، وأصبحت بدرًا أخذت بالنقص والاضمحلال ، وهكذا عمر الإنسان . ألم تروا إلى هذه الأعوام تتجدد عامًا بعد عام ، فإذا دخل العام الجديد نظر الإنسان إلى آخره نظر البعيد ، ثم تمر به الأيام سراعًا فيتصرم به العام ، ويذهب كلمح البصر ، فإذا هو في آخر العام ، وهكذا عمر الإنسان يتطلع الإنسان إلى آخره تطلع البعيد فإذا به يأخذه الموت بغتة وانقضت في لحظة جميع آماله وأحلامه في هذه الدنيا : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } . فعلى العاقل أن يحاسب نفسه على ما قَدَّم في يومه وأمسه ، فإن كان خيرًا فليحمد الله ، وليتزود من الصالحات ، وإن كان غير ذلك فإن أمامه فرصة للتدارك والتوبة والعمل ، فإن من حاسب نفسه اليوم خف عليه الحساب يوم الحساب ، ومن أهمل نفسه فلم يحاسبها ظهرت عند الموت حسراته ، وطالت في عرصات يوم القيامة وقفاته ، وقادته إلى المقت والخزي سيئاته ، فليستحضر المسلم هذه المعاني ، وليستعد للموت وما بعده ، فإننا في هذه الدنيا في دار عمل ، وسننتقل منها يومًا من الأيام ، ومن مات فقد قامت قيامته ، ومن مات فقد انتقل من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة ، من مات فقد أُغْلِقَ في وجهه باب التوبة ، وأغلق في وجهه باب العمل ، وانتقل إلى دار الجزاء والحساب . نعم يا عباد الله إن محاسبة النفس لا بد منها ، وقد أمر الله تعالى بها فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } . قال أهل العلم : هذه الآية أصل في محاسبة النفس .
عباد الله : نحن في شهر الله المحرم ، وفيه يوم عظيم وهو يوم عاشوراء ، نجى الله فيه موسى وقومه من فرعون وقومه ، ويسن صيامه لما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم صامه وحث على صيامه شكراً لله عز وجل وتأسّياً بنـبي الله موسى ، ولِمَا يترتب عليه من الأجر والثواب ، قال صلى الله عليه وسلم : ( صيام يوم عاشوراء ، إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله ) (رواه مسلم) . والأفضل أن يُصَام قبله يوم لقوله صلى الله عليه وسلم في آخر حياته بعد أن أُمر بمخالفة اليهود : ( لَئِنْ بقيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ ) (رواه مسلم) . ولا يُكره على الصحيح إفراد اليوم العاشر بالصوم كما قال ابن تيمية رحمه الله .. هذا وصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ أَمَرَكُمْ رَبُّكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ فَقَالَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ : ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) . اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك نبيَّنا محمد ، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائِه الراشدين ، الأئمةِ المهديين ، أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ ، وعَن الصحابةِ أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين . اللَّهُمَّ أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، ودمر أعداء الدين ، واجعل هذا البلد آمنا مستقرا وسائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين ، اللَّهُمَّ أحفظ علينا أمننا وإيماننا واستقرارنا في أوطاننا ، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا ، وقنا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن ، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين . اللَّهُمَّ أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ، وحبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين ، اللَّهُمَّ أصلح ولاة أمورنا ، اللَّهُمَّ وفقهم لما فيه خير للإسلام والمسلمين ، اللَّهُمَّ أحفظ بهم أمننا واجمع بهم كلمتنا ، وألف بهم جماعتنا يا حي يا قيوم يا سميع الدعاء ، اللَّهُمَّ أحفظ بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين ، اللهم احفظ جنودنا المرابطين على حدودنا . اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين . { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } . وأقم الصلاة .
( خطبة الجمعة 2/1/1447هـ . جمع وتنسيق خطيب جامع العمار بمحافظة الرين / عبد الرحمن عبد الله الهويمل للتواصل جوال و واتساب / 0504750883 )
المرفقات
1750871907_تَذْكِيْرُ الأَنَامِ ِبتَصَرُّمِ الأَيَامِ والأَعْوَامِ.docx