تعدَّدتِ الأسبابُ والمِزاجُ واحدُ
د. سلطان بن حباب الجعيد
.
الحمدُ للهِ المُبدِئِ المُعيدِ، الفعّالِ لما يُريد، خلَقَ الخلقَ ليكونوا له عبيدًا، فيحصُلَ لهم بذلك من الشرفِ ما لا عليه مزيدٌ.
والصلاةُ والسلامُ على سيّدِ أولئك العبيدِ، ذي الرأيِ السديدِ، ومثالِ الإنسانِ السعيدِ، صلاةً وسلامًا بعددِ أنفاسِ الخلقِ وتزيدُ.
أيُّها الناسُ، أُوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ، فهي طريقُ الأُنسِ والسعادةِ. قال تعالى:
﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقولوا قَولًا سَديدًا يُصلِح لَكُم أَعمالَكُم وَيَغفِر لَكُم ذُنوبَكُم وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسولَهُ فَقَد فازَ فَوزًا عَظيمًا﴾ [الأحزاب: ٧٠-٧١].
وبعدُ، أيُّها الإخوةُ: العادةُ التي تخرجُ عن السيطرةِ، ويدخُلُ الواحدُ بسببها في دائرةِ السلوكِ الإدمانيِّ؛ كالإدمانِ على التدخينِ، أو المخدراتِ، أو الجنسِ، أو إدمانِ مشاهدةِ ومتابعةِ السينما والمسلسلاتِ وبرامجِ التواصلِ الاجتماعيِّ، أو التسوقِ، أو السماعِ، أو السفرِ، أو ما شابه.
لها أضرارٌ كثيرةٌ، ولكن ما أَرغبُ في تناولِه اليومَ وأُحدِّثكم عنه، ويُعدُّ من أهمِّ تداعياتِها، أنَّ تحصيلَ المِزاجِ عند أصحابِ هذه العاداتِ يرتبطُ بها، فلا يمكنُ لهم أن يحصلوا على أمزجتِهم، حتى يُمارسوا ما أُدمنوا على ممارستِه.
حتى يَبلُغَ الأمرُ إلى الحدِّ الذي يجعلهم يَظنّونَ ويعتقدونَ، أن لا سبيلَ إلى المِزاجِ، إلّا من خلالِ هذه العاداتِ، وهذا ما يزيدُ من تعلُّقِهم بها، وصعوبةِ الإقلاعِ عنها، خوفًا منهم أن يفقِدوا مِزاجَهم.
ومن بابِ الحوارِ النافعِ، وتنويعِ الأساليبِ، مع مَن ابتُليَ بمثلِ هذا، لمساعدتِه في تَخليصِه من هذه السلوكياتِ، ومخاطبةِ عقلِه وضميرِه، فإنّي أطرحُ عليه سؤالًا:
هل بالفعلِ لا يُمكنُ لك أن تصلَ إلى مِزاجِك إلّا من خلالِ هذه العاداتِ؟!
يا صاحِ: ليس الأمرُ كذلك، فالمِزاجُ لا علاقةَ له بهذه العادةِ أو تلك. وإلّا فهل تظنُّ أن الآلافَ من البشرِ ممّن لا يُشاركونك تلك العادةَ أنهم يعيشون بلا مِزاجٍ؟!
كلُّ ما في الأمرِ أنك تَعوَّدتَ أن لا يكونَ المِزاجُ إلّا من خلالِ تلك العادةِ، وربطتَ مِزاجَك بها.
وإلّا فبالإمكانِ تحصيلُه من خلالِ عادةٍ أُخرى، وتكونُ مباحةً وغيرَ ضارّةٍ؛ كأن تجدَه في فنجانِ قهوةٍ، أو ممارسةِ رياضةٍ.
بل، ومن الممكنِ - أيضًا - تحصيلُه من خلالِ عاداتٍ نافعةٍ؛ كالقِراءةِ والاطّلاعِ.
وللعلماءِ مع الأُنسِ بالعلومِ ولذّةِ تحصيلِها، حكاياتٌ وتجاربُ، حدّثونا عنها.
فهذا الزمخشريُّ، يصفُ النشوةَ التي تُصيبُه بسببِ حصولِه على حلٍّ لمشكلةٍ أو مُعضلةٍ، عَرَضَت له أثناءَ بحثِه وقراءتِه؛ أنَّها كالنشوةِ التي يشعرُ بها أهلُ السُكرِ في سُكرِهم، وأهلُ الشهواتِ في شهواتِهم، فقال:
سَهَري لتنقيحِ العلومِ ألذُّ لي
مِن وَصلِ غانيةٍ وطيبِ عِناقِ
وتمايُلي طربًا لحلِّ عَويصةٍ
أشهى وأحلى من مُدامةِ ساقِ
وصريرُ أقلامي على أوراقِها
أحلى من الدوكاءِ والعشّاقِ
وألذُّ من نقرِ الفتاةِ لدفِّها
نَقري لألقي الرملَ عن أوراقي
وقال - أيضًا - الحافظُ الرامهرمزيُّ، عن لذّةِ الرحلةِ في طلبِ العلمِ وتحصيلِه، رغمَ مشقّتِها وعَنائِها:
(ولو عَرَفَ الطاعنُ على أهلِ الرحلةِ، مقدارَ لذّةِ الراحلِ في رحلتِه، ونشاطَه عند خروجِه من بلدته، واستلذاذَ جميعِ جوارحِه بذلك .. لَعَلِمَ أنَّ لذّاتِ الدنيا مجموعةٌ في محاسنِ تلك الرحلاتِ، واقتناصِ تلك الفوائدِ، التي هي عندَ أهلِها أبهى من زهرِ الربيعِ، وأحلى من صوتِ المزاميرِ، وأنفسُ من ذخائرِ الذهبِ). [نقلًا عن كتاب صفحات من صبر العلماء، بتصرّف، ص: ١٠٦].
وقد يَبلُغُ الأمرُ ما هو أعظمُ، وهو تحصيلُ المِزاجِ في القربِ من اللهِ.
روى ابنُ المباركِ في كتابِ الجهادِ، عن خالدِ بنِ الوليدِ رضي اللهُ عنه، أنَّه قال: «ما من ليلةٍ يُهدى إليَّ فيها عروسٌ أنا لها مُحبٌّ، أو أُبشَّرُ فيها بغلامٍ أحبُّ إليَّ من ليلةٍ شديدةِ البردِ كثيرةِ الجليدِ في سريةٍ أُصبِّحُ فيها العدوَّ».
والمِزاجُ هو قُرّةُ العينِ، وقد كان يجدُها النبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ في صلاتِه، فقد قال معبِّرًا عن ذلك: “وجُعِلَت قُرّةُ عيني في الصلاةِ”. [أخرجه أحمد والنسائي]
وعلى أَثَرِه الصالحونَ من أُمّتِه، فقد كانوا يأنسون باللهِ، وتقرُّ أعينُهم في القربِ منه، ولذلك كانوا يفرحون بالليلِ إذا أقبل؛ لأنّه موعدُ لقائِه سبحانه وتعالى.
وبعدُ، أيُّها الحبيبُ: فأنا أتّفقُ معكَ أنَّه لا طعمَ للحياةِ بلا مِزاجٍ، وأدعوكَ لعدمِ التخلي عن مِزاجِك.
ولكن، من أقنعكَ أنَّه لا يكونُ إلّا من خلالِ ما فيه ضررٌ لك، أو غضبٌ لربِّك؟!
ومن أقنعكَ - أيضًا - أنَّ مِزاجَك مهدَّدٌ بمجردِ تَخلِّيكَ عمّا أَدمنتَ على فعلِه؟!
كلُّ ما في الأمرِ أنْ تُغيِّرَ الطريقةَ التي توصلكَ لمِزاجِك، وستجدَه أمامكَ أوفرَ ما يكونُ، بلا ضررٍ عليك.
وستكتشفُ حينَها أنَّك كنتَ أسيرًا لعادةٍ، كانت ترفضُ إعطاءَكَ مِزاجَكَ، حتى تدفعَ قيمتَه وثمنَه؛ من مالِكَ، وصحتِكَ، ووقتِكَ، وعقلِكَ، وسمعتِكَ.
ويُقابلُها عاداتٌ تُعطيكَ مِزاجَكَ، وتُعطيكَ معه فائدةً، ومُتعةً، ورِضًى لربِّكَ، وثناءً عند خلقِهِ.
فما عليكَ الآنَ إلّا أن تُقرِّرَ وتختارَ.
أقولُ قولي هذا …
الثانية
وبعدُ، أيُّها الإخوةُ الكرامُ، إنَّ العادةَ سلاحٌ ذو حدَّين؛ فإمّا أن ترتقيَ بكَ، إذا كانت عاداتٌ حسنةٌ، وإمّا أن تَهويَ بكَ إذا كانت عاداتٍ سيئةً وضارّةً.
لذلك، من أهمِّ الوسائلِ لاستصلاحِ نفسِكَ، أن تتخلَّصَ من عاداتِكَ السيئةِ، وتخلُقَ لنفسِكَ عاداتٍ جديدةً.
وهذا يحتاجُ في بدايةِ الأمرِ إلى مُجاهدةٍ، وستجدُ منه مشقّةً، ثم تتجاوزُها إلى رِحابٍ جديدةٍ، قد أَضحيْتَ فيها شخصًا مختلفًا، امتلكَ حريتَه، وأعادَ نفسَه إلى طبيعتِها وحقيقتِها.
فما صَلُحَ الصالحونَ، إلّا بعاداتٍ رسَّخوها في يومِهم وليلتِهم؛ من صلاةٍ، وصدقةٍ، وذِكرٍ، وقراءةٍ للقرآنِ…
وما نجحَ الناجحونَ وبلغوا أهدافَهم، إلّا بعاداتٍ رسَّخوها في يومِهم؛ من جدٍّ، ومثابرةٍ، وحرصٍ، ودأبٍ…
فابدأْ من الآنَ في خَلقِ عاداتِكَ الجديدةِ، التي ستكونُ سببًا - بإذنِ اللهِ - في صلاحِ كثيرٍ من أحوالِكَ الدينيةِ والدنيويةِ.
وقد قال النبيُّ صلّى اللهُ عليه وسلَّم، في الحديثِ الصحيحِ: “الخَيرُ عادةٌ، والشَّرُّ لَجاجةٌ، ومن يُرِدِ اللهُ بهِ خيرًا يُفقِّهْهُ في الدِّينِ”.
اللهم اجعل أُنسَنا بك، وقُرّةَ عيونِنا فيما ينفعُنا ويَرضيكَ عنّا..
المرفقات
1745472736_نسخة تعددت الأسباب والمزاج واحد.docx