تَعظيم الأشهر الحُرم، والتَرغيب في حجّ البيت الحَرام

عبدالله الغامدي
1446/11/04 - 2025/05/02 09:00AM

الخطبة الأولى:

إنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إلَيْهِ، ونعوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فلا مضلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أن لاَ إلَهَ إلا اللَّهُ وَحَدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون﴾ أما بعد:

هل كانت الأيام الثلاثة الماضيةُ أيَّامًا كغيرها بالنسبة لك؟!

إنْ كانَ الأمرُ كذلك؛ فدعني أُحدِّثك عن ذلك الرجلِ العربيِّ الذي كانَ يُريقُ الدِّماء ويزهق آلاف الأنفس طوال 40 سنة بلا تردد ومن غير أن يؤنبّه ضميره من أجل سباق خيلٍ أو قتل ناقةٍ واحدة! بيد أنَّ ذاتَ هذا الرجل العربيَّ الجاهلي الظلوم، قد يمرُّ به في وقتٍ من أوقات السَّنة قاتلُ أبيه وليسَ قاتل ناقته، ومع ذلك يخاف من أن يتعرَّض له ولا يمسسه بأدنى سوء؛ فإذا ما سُئلَ عن السبب؛ عرفتَ أنَّ هذا الجاهليَّ على جاهليته، كانَ يُعظّم الأشهر التي حرَّمها الله وجعل لها حرمةً وتعظيمًا منذ أن خلق السماوات والأرض اختارها على غيرها: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ}

أليسَ مِنْ العجيب -أيُّها الكرام-أنَّ هذا العربيَّ الجاهليَّ الذي توارثَ تعظيم هذه الأشهر عن آبائه وأجداده؛ يُعظّم هذا الأشهر أكثر من تعظيمنا نحنُ لها وقد جاءنا فيها النصُّ ليسَ وراثةً عن آبائنا ولا أجدادنا، وإنما قرأناه من كلام الله مباشرة! {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ}.

هذه الأشهرُ الأربعة الحُرُم: ثلاثةٌ منها سرد، وواحد منها فرد؛ فالثلاثة السرد المتصلة: ذو القعدة، وذو الحجة، وشهر الله المحرَّم، والفرد المنفصل: شهر رجب، وقد دخلَ علينا أولُ هذه الأشهر المتصلة منذُ ثلاثةَ أيام.

أتدري -أيُّها الكريم-ما معنى دخول هذه الأشهر الحرم؟! معنى هذا أنَّ الله جعلَ لها حرمةً وقدرًا ليس لغيرها، فمع دخولها أصبحتْ الحسنات مضاعفة كما صارت السيئات فيها مغلَّظة، يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إن الله اختص من الأشهر أربعة أشهر، جعلهن حراما وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيها أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم"، وقال قتادة -رحمه الله-: "إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيما، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء".

بمعنى أنَّ العبد قد يأتي يوم القيامة فيرى في ميزانه بعضَ السيئات التي تثقل ميزان سيئاته وهي في ظاهرها يسيرة، نظرة، أو كلمة، أو سماع عابر لحرام، فإذا ما شاهد عظيم حجم عقوبة تلك المعصية، وقالَ: ربي لِمَ هذه العقوبة وسيئتي من الصغار؟! قيل له: قد عَظُمت صغيرتك لأنَّك فعلتها في الأشهر الحُرُم، وانتهكت فيها حرمة هذه الأشهر المعظَّمة!

فهل نحنُ نستشعرُ هذا -أيُّها الكِرام-؟! هل مِنَّا مَنْ إذا دعتُه نفسُه لمعصيةٍ في هذه الأيام قالَ لها أُحذّرك عقوبة الله في هذه الأشهر؟! هل منَّا مَنْ إذا رأى أحدًا من أهله أو أولاده يفعلُ معصيةً مِنْ المعاصي قالَ له: اتقِ الله يا ولدي واترك هذا الأمر الآن؛ فأنتَ في أشهر الله الحُرُم وأخاف عليك من عقوبة الله لمن انتهك حُرمةَ أشهره؟!

إنْ كانَ هذا موجودًا فالحمد لله وليزدد الإنسان حرصًا وتوعيةً لأهله ومن حوله بعظمة هذه الأشهر، وإن كان ذلك ضعيفًا أو غائبًا تمامًا عن الأذهان بسبب الغفلة أو النسيان؛ فينبغي أن نراجع أنفسنا سريعًا، فالله العظيم يغضب للمعصية ويعاقب في هذه الأشهر ما لا يعاقب في غيرها، ومَنْ منَّا يطيقُ غضبَ الله وعقوبته؟!

ورُبَّما يقول قائل: ولكن كيفَ أترك الذنوب ثلاثةَ أشهرٍ كاملة؟! هذه مُدّة طويلة جدًا!

فيقال: بأنَّ هذا مقصود؛ لأنَّ الله -تعالى- يريدك أن تبتعد عن الذنب طوال عمرك، وجعل لك فترات في السَّنة كرمضان والأشهر الحرم تكون إعانةً لك لتقترب منه وتبتعد عن معصيته؛ لأنَّه يُحبّك ولا يريد أن تقع في معصيته.

وترك الذنوب في هذه المدّة كلِّها -أيُّها الكِرام-ليسَ مستحيلاً؛ فأنا أعرفَ مَنْ يذكر عن نفسه: أنَّه كانت كلَّما دعتُه نفسه لمعصيةٍ طوال هذه الأشهر بمجرَّد أنْ يتذكَّر هيبة هذه الأشهر وعظمتها عند الله يحجم عن المعصية ويزمّ نفسَه عنها، ولا زال على ذلك في كلِّ يوم تدعوه نفسُه للمعصية من أيام هذه الأشهر.

لكنَّه كانَ يقولُ إذا صبَّرني عن المعصية الآن خوفُ عقوبةِ الله في هذه الأشهر؛ فما الذي سيمنعني منها إذا انتهتْ هذه الأشهر؟ خاصةً وأنَّ نفسي قد اشتاقتْ لها هذه المدة كلَّها!

يقول: فوالله لما انتهت الأشهر الحرم وأنا طوال هذه الفترة كأنَّي قابضٌ على جمر من ألم الصبر عن المعصية؛ فلما انتهت قلت الآن أقع في المعصية؛ فإذا بالله يسلب حبَّ المعصية من قلبي ويصرفها عني في جميع ما تبقى من أشهر السنة، فأصبحتْ لا أجاهد نفسي أصلاً على تركها وإنما قلبي منصرفٌ عنها وهي منصرفة عني بلا تعب ولا مشقة!

وليسَ في هذه القصة أيها الكرام ما يدعو إلى العجب أو الاستغراب: أليسَ قد قالَ نبيُّنا -ﷺ-: (احفظ الله يحفظك)؟! فهذا عبدٌ حفظَ الله في ثلاثة أشهر؛ فحفظه الله في سائر السنة.

ألم يقل ربُّنا في الحديث القدسي: (إذا تقرب عبدي مني شبرا تقربت منه ذراعا، وإذا تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة) فهذا عبدٌ تقرَّب إلى الله ذراعًا فتقرَّبَ اللهُ إليه باعًا، وكفاه همَّ معالجة المعصية في بقية السنة!

ألسنا نقرأ في كتابِ ربِّنا: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب} فهذا عبدٌ عظَّم شعائر الله وأشهر الله الحُرُم فأنزل الله التقوى في قلبه؛ حتى أصبح لا يُفكِّر في أن يعصي الله.

وأنتَ -أيها المبارك-: تستطيعُ أن تكون ذلك العبد؛ إذا وضعتْ هذا هدفًا لك من الآن: أن تجتهدَ في ألا تقع في أيِّ معصيةٍ طيلة هذه الأشهر، وإذا وقعتْ في شيءٍ يسير أن ترجع مباشرةً وتكثر من الاستغفار والتوبة، وتجتهد غاية الاجتهاد ألا تقع في الذنب مرةً أخرى.

وهذا وإن كان في الظاهر صعبًا -أيُّها الكرام-إلا أنَّه غيرُ بعيدٍ ولا مستحيلٍ؛ فمن يستعفف يُعفَّهُ الله، ومن يتصبَّر يُصبِّره الله، ومن يستعن بالله يعنه.

اللهم ارزقنا إجلال وتعظيم أشهرك الحرم، وباعد بيننا وبين كل ما يسخطك فيها ويغضبك، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه غفور رحيم.

point.pngpoint.pngpoint.png

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقهِ وامتنانه، وأشهدُ ألا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه الداعي إلى رضوانه، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون﴾ أما بعد:

لعلَّك تتساءلُ -أيُّها الكريم-: عن سببِ تحريم هذه الأشهر وتعظيم الله له؛ وأشهرُ جوابٍ ذكره العلماء عن هذا السؤال: هو أنَّ الله جعلها لحكم عديدة، ومن أبرزها: أنْ يحج النَّاس بيتَ الله الحرام من أقصى نواحي الأرض وهم آمنون مطمئنون، لا يخافون سلبًا ولا نهبًا ولا قتلًا ولا قطعًا لسبيلهم طوال تلك المدَّة؛ حتى يتمكَّنوا من حَجِّ بيت الله والعودة إلى ديارهم سالمين آمنين أنَّى بَعُدتْ أرضُهم وأينما قَصتْ ديارُهم.

فتخيَّل أنَّ هذه المدَّة كلَّها حرَّمها الله؛ مِنْ أجل أنَّه كانَ في وقتٍ سابقٍ لا يتمكَّن المرءُ من الحجِّ إلا بهذه الطَّريقة، وإلا سيكون مالُه قابلاً للنهب، ونفسُه مُعرَّضةً للقتل.

ونحنُ اليوم بحمد الله وفضله بيت الله الحرام أدنى وأقرب ما يكون مِنَّا، والحج لا يستغرق منَّا هذه الرحلة الطويلة الشاقَّة المحفوفة بالمخاطر، ومع هذا كُلِّه رُبّما لا يُحدِّث الواحدُ مِنَّا نفسَه بالحج إلا على التراخي! أليسَ هذا نوعًا مِنْ الحرمان -أيُّها الكرام-؟!

قال نبيُّنا ﷺ: "مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ، فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ، وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ" فكيفَ تؤخِّرُ الحج وأنتَ صحيحٌ قادرٌ الآن، ولا تدري ماذا يعرضُ لكَ في مستقبل الأيام؟!

وقال نبيُّنا ﷺ: "مَن حَجَّ هذا البَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، ولَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَومِ ولَدَتْهُ أُمُّهُ" فكيفَ تؤخّر الحج وأنت قادر، وتحرم نفسَك من فرصة العودة بصحيفةٍ بيضاء نقية وتستأنف حياةً جديدةً مع الله؟!

وقال نبيُّنا ﷺ: "الْحُجَّاجُ والعُمَّارُ وفدُ اللهِ، دعاهم فأجابوهُ، وسألوهُ فأعطاهم" فكيفَ تؤخّر الحج وأنت قادر، وتحرم نفسَك من فرصة أن تحلَّ ضيفًا على الله؛ وطلباتُ ضيفِ الله مجابة، وأمنياته محققة!

وقال نبيُّنا ﷺ: "وأما وقوفُك بعرفةَ؛ فإنَّ اللهَ -عزَّ وجلَّ-ينزلُ إلى السماءِ الدنيا فيباهي بهم الملائكةَ، فيقولُ: هؤلاءِ عبادي جاءوني شُعثًا غُبرًا من كلِّ فجٍّ عميقٍ، يرجون رحمتي ويخافون عذابي ولم يروني، فكيف لو رأوني؟ فلو كان عليك مثلُ رملِ عالجٍ أو مثلُ أيامِ الدنيا أو مثلُ قطرِ السماءِ ذنوبًا غسلها اللهُ عنك" فكيفَ تحرمُ نفسَك من فرصة أن يباهي الله بك الملائكة في يوم عرفة فيغفر ذنوبك ولو بلغت ما بلغت؟!

للهِ دَرُّ رَكائِبٍ سَارَتْ بِهِمْ *** تَطْوِي القِفَارَ الشَّاسِعَاتِ علَى الدُّجَى

رَحَلُوا إلى الْبَيْتِ الحَرَامِ وقَدْ شَجَا *** قَلْبَ الْمُتَيَّمِ مِنهُمُ مَا قَدْ شَجَا

نَزَلُوا ببَابٍ لا يَخِيبُ نَزِيلُهُ *** وقُلُوبُهُمْ بينَ الْمَخَافَةِ والرَّجَا

    هذا وصلُّوا وسلِّموا.....

line.png

المرفقات

1746166359_الأشهر الحرم وحج بيت الله الحرام.docx

1746166359_الأشهر الحرم وحج بيت الله الحرام.pdf

المشاهدات 496 | التعليقات 0