تقنية الذكاء الاصطناعي صور شكرها، والتحذير من إساءة استخدامها.
أ.د عبدالله الطيار
الْحَمْدُ لِلَّهِ الواحدِ الأكرمِ، العليِّ الأعظَمِ، علَّمَ الإِنْسَانَ مَا لمْ يَعْلَم، أحمدُهُ سبحانَهُ جَعَلَ العِلْمَ نُورًا في غَيَاهِبِ الْجَهْلِ، وَسُلَّمًا للارْتِقَاءِ والفَهْمِ، وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآَلهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّين، أَمَّا بَعْدُ: فَاتّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) البقرة: [282].
أيُّهَا المؤمنُونَ: نعيشُ اليومَ طَفْرَةً عِلْمِيَّةً، وقفزة تِقَنِيَّةً ومَعْرِفِيَّةً، وتَطَوُّرٌ هَائِلٌ في عُلُومٍ شَتَّى، ومَعَارِفَ عِدَّة، مَا بينَ عُلُومِ الآَلَةِ والعُلُومِ الْعَسْكَرِيَّةِ والهَنْدَسِيَّةِ والتُّكْنُولُوجِيَّةِ والْخَدَمَاتِ الرَّقْمِيَّةِ الَّتِي اخْتَصَرَت المَسَافَات، وَوَفَّرَت الْجُهُودَ والأَوْقَات، وهَذِهِ الطَّفْرَةُ، وتلكَ القفزةةُ، هِيَ مِنْ جُمْلَةِ النِّعَمِ الَّتِي تَسْتَوْجِبُ الشُّكْرَ، قَالَ تعالى: (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) النساء: [113].
عِبَادَ اللهِ: وهذِه التُّكْنُولُوجيَا المتطورة بَاتَتْ جُزْءً أَصِيلًا مِنْ حَيَاتِنَا، وَضَرُورَةً حَتْمِيَّةً في مُعَامَلاتِنَا، كَمَا أَنَّهَا أَضْفَتْ عَلَى حَيَاتِنَا الْيَوْمِيَّة مَزِيدًا مِنَ الرَّاحَةِ، وجُمْلَةً مِنَ النِّعَمِ يَنْبَغِي علينَا اسْتِشْعَارهَا، والتَّحَدُّثُ والثَّنَاءُ على اللهِ عزَّ وجلَّ بهَا، قالَ تعَالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) الأحزاب: [9]. فَإِذَا أَنْجَزْنَا مُعَامَلَةً وَنَحْنُ جُلُوس في بُيُوتِنَا بِضَغْطَةِ زِرٍّ، فَهَلا اسْتَشْعَرْنَا تِلْكَ النِّعْمَة؟ وإِذَا أَنْهَيْنَا المهَامَ الْوَظِيفِيَّةَ، والوَاجِبَات الدِّرَاسِيَّةِ، والمسَائِلَ الْبَحْثِيَّةِ، في غُرَفِنَا المكَيَّفَةِ وَخَلْفَ أَبْوَابِنَا المُغْلَقَةِ، هَلا تَحَدَّثْنَا بِتِلْكَ النِّعَمِ؟ قَالَ تَعَالى: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) البقرة: [239].
أيُّهَا المؤْمنُونَ: وَأَبْرَزُ مَظَاهِرِ الطَّفْرَة التُّكْنُولُوجِيَّةِ مَا يُسَمَّى بِالذَّكَاءِ الاصْطِنَاعِيِّ وَهُوَ أَكْوَادٌ بَرْمَجِيَّةٌ، وَخَوَارِزْمِيَّاتٌ تِقَنِيَّةٌ، جَعَلَتْ مِنَ الآَلَةِ عَقلًا يُنَاقِشُ وَيُحَاوِرُ، يُحَلِّلُ وَيُعَلِّلُ، يَسْتَنْبِطُ المعلومات، ويُجِيبُ عن شَتَّى التَّسَاؤُلاتِ، يَتَحَدَّثَ ويَنْطِقُ بِشَتَّى اللُّغَاتِ، ومُخْتَلَفِ اللَّهَجَاتِ، وَصَدَقَ اللهُ العَظِيمُ: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) الجاثية: [13].
عِبَادَ اللهِ: وَهَذِهِ التِّقْنِيَّات المتَقَدِّمَة، والتُّكْنُولُوجيَا المتَطَوِّرَة، سِلاحٌ ذُو حَدَّينِ، تَكُونُ مِنَ المَرْءِ حَيْثُ هُوَ مِنْهَا، فَتَكُونُ في النَّفْعِ، كَمَوْرِدٍ لِلْمَعْلُومَاتِ، وَتَحْلِيلِ الْبَيَانَاتِ، والتَّصْمِيمِ والتَّدْوِينِ، وتَكُونُ أَيْضًا وَسِيلَة للتَّحْرِيفِ والتَّضْلِيلِ، والتَّزْوِيرِ والتَّزْييفِ، وقَلْبِ الْحَقَائِقِ، والْكَذِبِ والْبُهْتَانِ، وإِفْسَادِ البِلادِ، والعَبَثِ بِالأَعْرَاضِ.
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: ومِنْ مَظَاهِرِ ضَرَر تِلْكَ التِّقْنِيَّاتِ المتَطَوِّرَةِ: أَنَّهَا أَضْحَتْ آَلَةً حَرْبِيَّةً في يَدِ الْقَائِمِينَ عَلَيْهَا، والمسْتَخْدِمِينَ لَهَا، تُمَكِّنُهُم مِنْ انْتِحَالِ الشَّخْصِيَّاتِ، وانْتِهَاكِ الخُصُوصِيَّاتِ، وَرَصْدِ التَّحَرُّكَاتِ، والتَّجَسُّسِ على الأَفْرَادِ والجماعاتِ، وتَوْلِيدِ صُوَرٍ مُفَبْرَكَة، وَتَصْمِيمِ مَقَاطِع مُلَفَّقَة، لِخَاصَّةِ النَّاسِ وَعَامَّتِهِمْ.
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: ولا غَرْو مِنْ ذَلِكَ إذَا كانَ مِنْ أَعْدَاءِ الإِسْلامِ الظَّاهِرِينَ، فهذَا دَيْدَنُهُمْ، وَتِلْكَ أَهْدَافُهُمْ، إِنَّمَا الْعَجَبُ أنْ يُسَاءَ استِخْدَام هذه التِّقْنِيَّات مِنْ أَبْنَاءِ المسلمينَ دونَ وازعٍ إِيمَانِيٍّ، أو رَادِعٍ عَقَدِيٍّ، إمَّا عَنْ جَهْلٍ مُدْقِعٍ أو هوًى مُشْبِعٍ، يَنْشُرُونَ بِبَنَانِهِمْ الْكَذِبِ والافْترَاءَاتِ، ويَلُوكُونَ بِأَلْسِنَتِهِم الْكَذِب والإِشَاعَات قَالَ تَعَالَى: (مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ق: [18].
عباد الله: وقدْ بيَّنَ ربُّنَا جلَّ وعلا مَنْهجَ المنافقينَ وأشْيَاعِهُمْ في بثِّ الشَّائِعَاتِ بقولِهِ: (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) التوبة: [48] أيْ: أَدَارُوا الأَفْكَارَ، وَأَعْمَلُوا الْحِيَل وزيَّنُوا الكلام، ولَبَّسوا على المسلمينَ ليَقْلِبُوا الْحَقَائِقَ ويُغَيرُوا الْوَقَائِعَ فَيَنْصُرُوا بَاطِلَهُمْ ويُؤَيِّدُوا ضَلالَهُمْ بِنَشْرِ الشَّائِعَاتِ والإِفْكِ وتَزْيِينِ الْبَاطِلِ والرِّجْسِ.
عباد الله: ووصلَ الأمرُ إلى توظِيفِ تلكَ التقنيات لتكونَ مَجْلسًا للغيبةِ والنميمةِ ومَوْطِنًا لنشرِ الشائعاتِ، وبثِّ التُّرَّهَاتِ، قَالَ ﷺ: (مَن قالَ في مؤمنٍ ما ليسَ فيهِ أسكنَهُ اللَّهُ رَدغةَ الخبالِ حتَّى يخرجَ مِمَّا قالَ) أخرجه أبو داود (3597) وصححه الألباني.
أيها المؤمنُونَ: وَلَمْ يَتَوَقَّف إِسَاءَة استخدامِ تلكَ التّقَنِيَّات عندَ هذا الْحَدِّ، بَلْ تَعَدَّاهُ إلى الْكَذِبِ على العُلَمَاء وطَلَبَةِ الْعِلْمِ، بِتَلْفِيقِ الْفَتَاوَى المكْذُوبَة، والآَرَاءِ الشَّاذَّةِ لِكِبَارِ الْعُلَمَاءِ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْ ذَلِكَ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ، ثُمَّ ينشرونَ هذا الإفك بينَ النَّاسِ في صورةِ الْعِلْمِ الشَّرْعِيَّ، فيَتَنَاقَله العَوَام، دونَ تَثَبُّتٍ أو تَحَرٍّي، فتَحْصُلُ المفَاسِد، وتَسْتَحِيلُ النِّعْمَةُ إلى نِقْمَةٍ بِإِسَاءَةِ اسْتِخْدَامِهَا، والإِضْرَارِ بِهَا.
أَعُوذُ باللهِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا الإسراء: [36].
بَاركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذكْرِ الحكيمِ، فاستغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية: الحمدُ للهِ رب العالمين، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا أمَّا بعـدُ: فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ واعلمُوا أنّ السلامة من تلكَ الآفَاتِ تكونُ بامتثالِ المنهجِ الشَّرْعِيِّ في تَلَقِّي الأَخْبَار، والتَّثَبُّتُ من صِحَّتِهَا، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) الحجرات: [6] وَوَأْدِ الشَّائِعَاتِ بِالسُّكُوتِ عَنْهَا، وَرَدِّ العلم إلى أَهْلِه والتثبت من المقاطع والفتاوى المسموعة والمكتوبة والتحقق من مصادرها ونسبتها لقائلها لا سِيَّمَا تلكَ التي تمسُّ أَمْنَ المجتمعِ، وسَلامَةَ أفْرَادِهِ، وحِفْظَ مُقَدَّرَاتِهِ، قالَ تَعَالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) النساء: [83]. ومع هذه التطورات، وتلك التقنيات يَعْظُمُ دُورُ رَبِّ الأُسْرَةِ في أُسْرَتِهِ والمَرْأَةُ في بَيْتِهَا، بِتَحْصِينِ أَبْنَائِهِمْ وَبَنَاتِهِمْ، وحِفْظِ خُصُوصِيَّاتهِم، وبياناتِهِم كما يحفظُ الرُّجُلُ حِسَابَاته البَنْكِيَّة مِنَ الاخْتِراقِ أو الاحتيال، يَحْفَظُ كذلك معلومات أبنائه وبناته وملفاتهم الخاصة، فالخطب عتيد، والأمر شديد، والحيطة واجبة، والحذر أكيد. أسأل الله عز وجل أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ. اللهم ارحم ضعف المستضعفين من المسلمين الذين لا يجدون مأوى ولا مأكل ولا مشرب، اللهم إنك أرحم بهم من خلقك، فالطف بهم، واجعل لهم من ضعفهم فرجًا علاجًا غير آجل. اللهم وَفِّق وَلِيَّ أَمْرِنَا خادمَ الْحَرَمَيْنِ الشريفينِ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وِإِخْوَانَهُ وَأَعْوَانَهُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَسَلِّمْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَشَرٍّ. اللَّهُمَّ احْفَظْ عُلَمَاءَنَا، وَوُلاةَ أَمْرِنَا، وَجنودنا، والمُرَابِطِينَ عَلَى حُدُودِنَا، اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، وَاجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخنا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
الجمعة 30 /1 /1447هـ