تنبيه الأنام ببعض آداب الحج لبيته الحرام
عبد الله بن علي الطريف
تنبيه الأنام ببعض آداب الحج لبيته الحرام 1446/12/3 هـ
أما بعد: أيّها الإخوة: أوصيكم ونفسي بتقوَى الله عزَّ وجلَّ، فالتقوى خيرُ ما يُوصى به ويُحثُ عليه، وهي سببٌ لجلبِ الخيراتِ، وتحصيلِ المسرَّات ودفعِ الكُرُبات.. يقولُ ربُنا: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)
أيها الإخوة: يا مَنْ مَنَّ اللهُ عليكم بالعزمِ على الحج إلى بيته الحرامِ هذا العام؛ لأداء ركنٍ عظيمٍ من أركان الإسلام، اشكروا الله تعالى أن وفقكم لذلك.. فالحجُ حُلمٌ يحلُمُ بأدائِه مئاتُ الملايين من المسلمين.. منهم من يُدْرِكُ أداءَهُ، ومنهم من يَقْضِى نحبَهُ ولم يتيسرْ له ذلك، لقلة ذات يده، أو يوافيه أجلُه.. والحجُ فريضةٌ عَظِيمَةُ من فرائضِ الإسلامِ، وأجرُ المبرورِ منه النَّقَاءُ التَّامُ مِنْ الآَثَامِ.. فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ حَجَّ هَذَا البَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» [أي: نقيا من الذنوب] متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ» متفق عليه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.. وقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ -: «مَا أَهَلَّ مُهِلٌّ قَطُّ إِلَّا بُشِّرَ، وَلَا كَبَّرَ مُكَبِّرٌ قَطُّ إِلَّا بُشِّرَ» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ بِالْجَنَّةِ؟ قَالَ: «نَعَمْ». (مَا أهَلَّ) أي: لبى المُلَبي رافِعًا صوته بالتلبية. رواه الطبراني في الأوسط عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وقال الألباني حسن لغيره.
أيها الإخوة: أول وصية يُوصَى بها من أراد الحج أن يلتزم بهدي النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ– في أدائِه للحج فقد قال: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ» رواه مسلم عَنْ جَابِرٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وعليه ينبغي لمريدِ الحج دراسةُ مناسكِ الحجِ قبل رحلةِ الحج، وسؤالُ طلبةِ العلم عما يُشكلُ عليه.. وينبغي له الأخذُ بما ذكره علماءنا من رُخَصِ تُيَسِيرُ الحجَ عليه وعلى الآخرين.. مثل الأخذ برخصة الرمي ليلًا فربنا يقول: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة:185]. ويقول: الرَسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ–: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ». رواه أحمد عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وصححه الألباني وفي رواية: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ». رواه ابن حبان وصححه الألباني
ومما يُوصَى به الحجاجُ التزامُ السكينةِ في أداءِ نُسُكِهم، ففي حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- كان الرَسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ–: يَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى في حجة الوداع عند الزحام ومضائق الطرق: «أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ» رواه مسلم. ناهيًا بذلك الحجاج عن التدافع والمزاحمة، وللسكينةِ أثرٌ كبيرٌ في تخفيف الزحام، وانسيابِ الحركةِ وسلامة الناس، وهذا من لطيفِ توجيهه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-.. وتمثلُ السكينةِ يحتاجُ إلى الصبر والرفق واللين..
أيها الإخوة: ومما يُوصَى به الحاجُ، صيانةُ حجِه من المفسدات ومن كل ما يُنقصُ حجه، يقول الله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ). [البقرة:197]. قال الشيخ السعدي رحمه الله: "أي: يجب أن تعظموا الإحرامَ بالحج، وتصونوه عن كل ما يفسده أو يُنَقِصُهُ، من الرفث: وهو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية.. والفسوق: جميع المعاصي، ومنها محظورات الإحرام.. والجدال: المماراة والمنازعة والمخاصمة، لكونها تثيرُ الشر، وتوقعُ العداوة.. والمقصود من الحج، الذل والانكسار لله، والتقرب إليه بما أمكن من القُربات، والتنزه عن مُقَارَفَةِ السيئات، فإنه بذلك يكون مبرورًا والمبرور، ليس له جزاءٌ إلا الجنة، وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كل مكان وزمان، فإنه يتغلظ المنع عنها في الحج". أهـ مختصرًا
ومما يتأكد على الحاج الاهتمامُ به التعرفُ على الأنظمة والتعليمات التي تصدرُ من الجهات الرسمية، كأجهزة الأمن وغيرها من الأجهزة الخدمية، والالتزامُ بها لأنها طاعةٌ لولي الأمر في غير ما حرَّمَ الله، وطاعتُه واجبةٌ، فيما أباح الله عزَّ وجل ويُثاب عليها المسلمُ، يقول سبحانه: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء:59].
يا من أردتم حج بيت الله الحرام: خذوا بالأسباب المشروعة لحفظ النفس في الحج، ولا تشقوا على أنفسكم فيما لم يُشرع.. واتقوا أشعة الشمس بقدر ما تستطيعون، واختاروا الأوقات المناسبة لأداء المناسك، واتبعوا إرشادات السلامة.. أسأل الله تعالى أن يتقبل من الحجاج حجهم ويحفظهم ويجزي خيرًا من يسهرون على خدمتهم وأمنهم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه..
الخطبة الثانية
أيها الإخوة: يا من لم يتيسر لهم الحج، ابشروا ففضل الله واسع، فإن كنتم نويتم الحج ومنعكم مانعٌ منه فلكم أجر النية، وأنتم في دياركم، ثم أنتم في أيام فاضلة، تزكوا وتحسن فيها كل الأعمال بدليل أن الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-.. لم يحصر العمل الصالح فيها بالحج؛ بل حَبَنَا بأعمالٍ عظيمة وَمِنَحٍ جليلة من أعظمِها أدرك عشر ذي الحجة التي قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- فيها: «مَا العَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ؟» يعني أيّامَ العشر. رواه البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما.
واعلموا وفقكم الله أنَّ أحبَ الأعمالِ إلى الله الفرائض؛ فاحرصوا على أدائها فأجرها عظيم، يقولُ الرَسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ..» رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. فيعلم من هذا عِظم فضلِها لحبِ الله تعالى لها.
ومن أفضل الأعمال الصالحة في هذه الأيام الذكر، ومنه التكبيرُ، وقسَّمَهُ العلماء إلى قسمين مطلقٌ ومقيّد، فالمطلق يكونُ في جميع أوقات العشر في الليل والنهار من بداية العشر إلى آخر أيام التشريق، والمقيّد في أدبارِ الصّلواتِ فرضِها ونفلِها على الصّحيح، للرّجال والنّساء. ووقتِ التكبير المقيّد كما ورَد عَنِ عليٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم: «أَنَّهُ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ [الفجر] يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ للمقيم». أخرجه ابن المنذر وغيره.. وهذا العمل الجليل من أيسر الأعمال.. كبروا في كل وقت وكل مكان إلا ما نهي عن الكر فيها..
ومن الأعمال المشروعة ذبحُ الأضاحي وهو مِن أعظمِ القُرُبات التي يتقرَّب بها المسلمون إلى ربِّهم في خِتام هذه الأيام، ومَن أراد أن يُضحّيَ عن نفسِه أو أهلِ بيته ودخل شهرُ ذي الحِجّة فلا يأخذْ مِن شعره وأظفاره أو جِلده شيئاً حتّى يذبحَ أضحيتَه، فَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ». رواه مسلم. اللهم أتم لنا عشرنا بالتوفيق للعمل الصالح والقبول وصلوا وسلموا على نبيكم..