ثقِّل ميزانك – عشر ذي الحجة

راكان المغربي
1446/11/24 - 2025/05/22 06:56AM

ثقِّل ميزانك – عشر ذي الحجة

الخطبة الأولى

إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}، أما بعد:

نُفخَ في الصورِ، وبُعثرَ ما في القبورِ، وقام الخلقُ ليومِ النشورِ.

الكلُّ سيعيشُ الصِّعابَ، ويرى الأهوالَ. الجميعُ بلا استثناءٍ سيقاسي (يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ ۚ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا).

ومن المواقفِ العصيبةِ في ذلك اليوم: موقف الميزان!

حينَ يُوقَفُ الناسُ لوزنِ أعمالِهم، وتقديرِ حسناتِهم وسيئاتِهم، يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (يُوضَعُ الميزانُ يومَ القيامةِ، فلو وُزِنَ فيه السمواتُ والأرضُ لوَسِعَت).

يوضعُ الميزانُ، فترصد الحسناتُ في كفةٍ، والسيئاتُ في كفةٍ، فيا تُرى أيُّ الكفتين ستميلُ؟

ألا ما أصعبَ الموقف، وما أشدَّ المقام!

النتيجة النهائية لحسبةِ الميزانِ هي التي ستحدّدُ مستقبلَك، وتُقَرِّرُ مصيرَك.

تخيلْ هذا الموقفَ يا عبدَ اللهِ! يا ترى كيفَ سيكون قلقُك، وما هو مقدارُ توتُّرِك، وكم ستكونُ سرعاتُ دقاتِ قلبِك، وما هي الذكرياتُ التي ستجولُ في خاطرِك؟ (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) في ذلك اليومِ، لن تنفعَ الأمانيُّ، ولن ينجيَ الإنسانَ إلا عملُه.

يأتي اللهُ بكل عملٍ حسنٍ، وبكل عملٍ سيءٍ، بالقليلِ والكثيرِ، والصغيرِ والكبيرِ (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ)

ها هي أعمالُك التي قدمتَها في دارِ العملِ، تُوضعُ هنا، وتوضعُ هنا (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)

القلوبُ واجفةٌ، والأبصار خاشعةٌ، والنفوسُ مترقبةٌ للنتيجةِ النهائيةِ.

توزنُ الأعمال، فيرى الناسُ مثاقيلَها الحقيقيةَ. سيُبصرُ الذاكرون كم كانتْ تلك الحركاتُ الخفيفةُ التي يحركونَ بها ألسنتَهم، ذاتَ وزنٍ عظيمٍ عند اللهِ. فكلمةٌ تملأُ الميزانَ من جوانبِه، قالَ عنها النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (والْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ المِيزانَ). وكلمتانِ قال -عليه الصلاة والسلام- فيهما: (حَبِيبَتانِ إلى الرَّحْمَنِ، خَفِيفَتانِ علَى اللِّسانِ، ثَقِيلَتانِ في المِيزانِ: سُبْحانَ اللَّهِ وبِحَمْدِهِ، سُبْحانَ اللَّهِ العَظِيمِ)

وأما كلمة لا إله إلا الله فشأنُها خاصٌّ، ووزنُها أصعبُ من أن يتخيلَه إنسانٌ، قال أولُ الرسلِ نوحٌ -عليه الصلاة والسلام- في وصيتِه لابنِه: (آمُرُك بلا إلهَ إلَّا اللهُ؛ فإنَّ السَّماواتِ السَّبعِ والأرَضينَ السَّبعَ، لَو وُضِعَتْ في كفَّةٍ، ووُضِعَتْ لا إلهَ إلَّا اللهُ في كفَّةٍ، لرجَحت بهنَّ).

وسيعلمُ المؤمنُ أنَّ أثقلَ الأعمالِ بعدَ توحيدِه، هو تخلقُه بالأخلاقِ الحسنةِ، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أثقلُ شيءٍ في ميزان المؤمنِ خُلُقٌ حَسَنٌ).

وهكذا يرى المؤمنُ فضلَ ربِّه عليه، حينَ تثقلُ كفةُ الحسناتِ بأعمالِه الصالحةِ، من صلاةٍ وصيامٍ، وصدقةٍ وإحسانٍ، وحجٍّ وعمرةٍ، وأمرٍ بمعروفٍ ونهيٍ عن منكرٍ، وغيرِ ذلكَ من أبوابِ الصالحاتِ.

ومما سيتفاجأُ به المؤمنُ في ميزانِه، أنه سيرى سيئاتِه التي تاب منها ثم أتبعَ تلكَ التوبةَ بالإيمانِ والعملِ الصالحِ، سيرى تلك السيئاتِ من كبائرَ وصغائرَ في ميزانِ حسناتِه يوم القيامةِ، قد بدَّلها الله بفضلِه وكرمِه، قال سبحانه: (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا).

ومن مفاجآتِ الميزانِ، أن يكتشفَ الناسُ حقيقةَ أعمالٍ كانوا يظنُّون أن لها وزناً، فإذا هي لا تزنُ حباتِ الرملِ في الميزانِ، قال سبحانه: (وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا). وذلك أنها أعمالٌ ما أُريدَ بها وجهُ الله، وما كانتْ على شريعةِ الرسلِ وطريقِهم. قال سبحانه: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)).

قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (إنَّه لَيَأْتي الرَّجُلُ العَظِيمُ السَّمِينُ يَومَ القِيامَةِ، لا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَناحَ بَعُوضَةٍ ، وقالَ: اقْرَؤُوا {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}).

وفي المقابلِ سيَثْقُلُ الميزانُ بأقوامٍ كانوا في الدنيا لا يؤبهُ لهم. فحين ضحكَ الصحابةُ من دقةِ ساقَي عبدِ الله بن مسعودٍ -رضي الله عنه- قال لهم: (مم تَضحَكونَ؟! لَرِجْلُ عَبدِ اللهِ أثقَلُ في الميزانِ يومَ القيامةِ مِن أُحُدٍ).

ومن رحمةِ اللهِ التي يرى الإنسانُ آثارَها في موقفِ الميزانِ، أن يرى الحسناتِ تضاعفُ مثاقيلُها إلى عشرةِ أضعافٍ كحد أدنى، ويضاعِفُ اللهُ أكثرَ من ذلك لمن شاءَ. وأما السيئةُ فتوضعُ بلا مضاعفةٍ.

ومع ذلك فستجدُ من الناسِ من تغلبُ سيئاتُه على حسناتِه المضاعفةِ، ولذلك قيل: "ويلٌ لمن غلبتْ آحادُه عشراتِه".

ينتهي الوزنُ، وتُعلنُ النتائجُ، وتُرصدُ الدرجاتُ، وتحددُ الدركاتُ. فمن غلبت حسناتُهم سيئاتِهم فهم في درجاتِ الجنانِ متفاوتون بقدر ما ثَقُلِ من كفةِ حسناتِهم. ومن غلبتْ سيئاتُهم حسناتِهم، فهم في الدركات منحطّون بقدر سيئاتِهم.

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ۚ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ)

فهنيئاً لأهلِ الفوزِ المبينِ، الذين رجحتْ حسناتُهم، فعمَّتْ أفراحُهم، ونالوا سرورَهم. ويا حسرةً على الخاسرين، الذين لم تكن خسارتُهم مجردَ خسارةِ مالٍ أو متاعٍ، بل خسروا أنفسَهم، إذ فاتَهم النعيمُ المقيمُ، وحصلَ لهم العذابُ الأليمُ، فلا مجالَ للربحِ، ولا وسيلةَ للتعويضِ (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ).

ويبقى أقوامٌ قد استوت حسناتُهم مع سيئاتِهم، لا يدخلون الجنةَ ولا النارِ، فيكونون على سورٍ بينهما سماه اللهُ في كتابه بالأعراف، حتى يتولاهم اللهُ برحمتِه، ويدخلُهم الجنةَ بفضلِه.

اللهم اغفر ذنوبنا، وتقبل أعمالنا، وثقل موازيننا.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فإلى كلِّ من يشكو كثرةَ ذنوبِه، وقلّةَ زادِه، وإلى كلِّ من يريدُ تثقيلَ موازينِه، ورُجحانَ حسناتِه:

ها قد شارفتْ أفضلُ أيامِ الدنيا، وخيرُ مواسمِ العملِ الصالحِ، أيامُ عشرِ ذي الحجة الفاضلة.

قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (أفضلُ أيامِ الدنيا أيامُ العشْرِ).

أيامٌ أقسمَ اللهُ بها في كتابِه، والله عظيمٌ ولا يقسم إلا بعظيم؛ (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ).

العملُ الصالحُ في هذه الأيامِ أعظمُ أجراً، وأثقلُ وزناً، وأشدُّ مضاعفةً. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما مِن أيَّامٍ العملُ الصَّالحُ فيها، أحبُّ إلى اللَّهِ من هذِهِ الأيَّام)، قالوا: يا رسولَ اللَّهِ! ولا الجِهادُ في سبيلِ اللَّهِ؟ قالَ: (ولا الجِهادُ في سبيلِ اللَّهِ؛ إلَّا رَجلٌ خرجَ بنفسِهِ ومالِهِ، فلم يرجِعْ من ذلِكَ بشيءٍ).

فيا من آمن باللهِ واليومِ الآخرِ وما فيه من مواقفِ الحسابِ والميزانِ:

قدمْ في هذه الأيام ما يكونُ لك ذخراً في ميزانِك، وتبييضاً لصحائف أعمالِك.

أعدَّ فيها لنفسِكَ عُدةً وافرةً من الأعمالِ الصالحةِ التي تثَقِّلُ بها ميزانَك، من تكبيرٍ وتهليلٍ وتسبيحٍ، وصلاةٍ وصيامٍ، وصدقةٍ وقراءةِ قرآنٍ، ودعاءٍ ومكثٍ في المسجدِ، وحجٍّ وأضحيةٍ وهديٍ، وبرٍ وصلةٍ وحسنِ خلقٍ، وزيارةِ مريضٍ واتباعِ جنازةٍ وغيرِ ذلك من أبوابِ العملِ الصالحِ التي لا حصرَ لها.

أخي المسلم

إنما هي عشرةُ أيامٍ، قليلةُ العددِ، كثيرةُ البركةِ، ثقيلةُ الوزنِ.

فاملأها بالخيراتِ، وزينْها بالصالحاتِ، واحملْ نفسَك على الجدِّ، واطرحْ عنكَ الكسلَ، وأبشرْ بالخيرِ العظيمِ والكرمِ من الكريمِ.

اللهم وفقنا لما تحبُّ وترضى، وخذ بناصيتِنا للبرِّ والتقوى، اللهم وفقنا لطاعتِك وجنبنا معصيتَك، اللهم أعنا على ذكرِك وشكرِك وحسنِ عبادتك، اللهم إنا نسألك الغنيمةَ من كلِّ برٍّ، والسلامةَ من كل إثمٍ، والفوزَ بالجنة، والنجاةَ من النار.

 

المرفقات

1747886158_ثقِّل ميزانك – عشر ذي الحجة.docx

1747886159_ثقِّل ميزانك – عشر ذي الحجة.pdf

المشاهدات 463 | التعليقات 0