ثمرة محبة الله للعبد
د أحمد بن حمد البوعلي
ثمرة محبة الله للعبد
خطبة يوم الجمعة ٣٠ / ٢/ ١٤٤٥ هـ هـ الموافق ١٥ / ٩ /٢٠٢٣ م جامع الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني -رحمه الله تعالى - الاحساء -الهفوف -حي المزروع - الخطيب – د. أحمد بن حمد البوعلي
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإنه لا شك أن محبة الله تعالى للعبد هي الغاية التي يقصدها المُسلم؛ فهي غذاء الروح، وسبب السعادة، واطمئنان النفس، وهي الطريق للابتعاد عن المعصية.
قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:٣١]. (1)
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:٥٤]. (2)
فالإنسان مجبولٌ على حُب من أحسن إليه، ويُحب ذوي الأخلاق الحسنة من الناس، ويُحب الصالحين، وإنَّ أجمل حُبٍّ أن يُحبَ المرءُ زوجته وأولاده، والحب الذي أعلى منه درجةً أن يحبَ المرءُ والديه ويكون في خدمتهما لينال رضاهما، ولعل أحدكم أن يقول وإن أسمى حبٍ في هذه الحياة أن يحبَ المرءُ ربه -عز وجل-، ولكن اعلموا أن هناك حبًّا أسمى من ذلك الحب.
وهل يعقل أن يكون هناك حبٌّ أفضل وأرقى من أن تحب الله عز وجل؟! نعم.
فأسمى حبٍّ وأفضله أن: يحبك الله -عز وجل-، فإذا أحبك وفقك لأمر الآخرة، فإنك قد تحبُ الله -عز وجل-، ولكنه قد لا يُحبك، عياذا بالله.
أيها الناس: ما من مؤمن إلا وهو يسعى جهده لنيل محبة الله تعالى، ولو علم مؤمن أن الله تعالى يحبه لما وسعته الدنيا من فرحه وحبوره، ولهان عليه كل شيء في سبيل هذه المحبة؛ لأنها محبة من ملك الملوك لعبد مخلوق، وممن بيده سبحانه دنيا العبد وآخرته، ويملك رزقه وأجله وقلبه، فلا عجب أن يسعى المؤمنون لنيلها سعيا شديداً.
وتوجد العديد من العلامات الدالة على محبة الله -تعالى- لعبده، وأعمال تستجلبها ينبغي للمؤمن أن يحرص عليها:
1- توفيقه للإيمان والدين وللتقوى، لقول النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (إنَّ اللَّهَ قسَّمَ بينَكم أخلاقَكم كما قسَّمَ بينَكم أرزاقَكُم وإنَّ اللَّهَ يؤتي المالَ من يحبُّ ومن لا يحبُّ ولا يؤتي الإيمانَ إلَّا من أحبَّ فإذا أحبَّ اللَّهُ عبدًا أعطاهُ الإيمانَ) (3)
وهذا يعني أن العبد كلما كان أقوى إيماناً وأكثر عملاً ازداد محبة عند الله تعالى، وكل ما يذكر من أسباب محبة الله تعالى للعبد وعلاماتها فهو راجع إلى هذا الأصل العظيم، والناس متفاوتون في إيمانهم:-
فمنهم من يحقق أصل الإيمان لكن لا يبلغ كماله بسبب تفريطه، وارتكابه لبعض المنهيات التي لا تزيل أصل الإيمان، ولكنها تنقصه.
ومنهم من يحقق الإيمان الكامل بفعل كل الواجبات، واجتناب المحرمات، وقد يترقى في إيمانه إلى درجة الإحسان بخشية الله تعالى بالغيب، ومراقبته في السر والعلن. كما أنهم متفاوتون في العمل الصالح، فمنهم السابقون، ومنهم المقتصدون، ومنهم الباخسون الظالمون لأنفسهم.
فمن أراد أن يحبه الله تعالى فليزدد إيمانا إلى إيمانه بكثرة العمل الصالح، واجتناب ما نهاه الله تعالى عنه.
2- ومن علامات حب الله تعالى للعبد: اتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم، وعمله بسنته، فكلما كان العبد أحرص على اتباع السنة والعمل بها؛ كان ذلك دليلاً على أن الله تعالى يحبه؛ لقوله تعالى ﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِی یُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَیَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ﴾ [آل عمران: 31] (4)
3- ومن علامة محبة الله؛ أن يُسدَّد الإنسان في أقواله وأفعاله، وهذا يعني تسديده وتوفيقه للطاعات، وحجبه عن المحرمات، فإذا سُدِّد دلَّ ذلك على أن الله يحبه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [الأحزاب: 70، 71]. (5)
ويدل على ذلك ما جاء في الحديث القدسي قال الله تعالى: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عبدي بشيء أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ... الحديث»(6).
4- ومن علامات حب الله تعالى للعبد: أن يكون متجرداً في حبه وبغضه وولائه وبرائه لله تعالى، لا لأجل دنيا يريدها، أو بشر يرضيهم، في والي أولياء الله تعالى، ويعادي أعداءه، وحجة ذلك قول الله تعالى ﴿٥٣ یَٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَن یَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِینِهِۦ فَسَوۡفَ یَأۡتِی ٱللَّهُ بِقَوۡمࣲ یُحِبُّهُمۡ وَیُحِبُّونَهُۥۤ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِینَ یُجَٰهِدُونَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَلَا یَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَاۤئِمࣲۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ یُؤۡتِیهِ مَن یَشَاۤءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِیمٌ ٥٤﴾ [المائدة: 54] ويبني علاقاته مع المؤمنين على هذه المحبة الخالصة لله تعالى؛ فإن جالسهم جالسهم لله تعالى، وإن زارهم زارهم لله تعالى، ولا يحبهم أو يجالسهم أو يزورهم لما يرجوه من دنياهم، وقد جاء في الحديث القدسي «قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ، وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ، وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ»(7).
5- من علامات محبة الله؛ أن يوضع للإنسان القَبول في الأرض، بأن يكون مقبولًا لدى الناس، محبوبًا إليهم، فإن هذا من علامات محبة الله تعالى للعبد وبرهان ذلك قول الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96] (8) أي: «محبة في قلوب المؤمنين».
وروى أَبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي أَهْلِ الأَرْضِ» (9)
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وإخوانه.
6- ومن علامات حب الله تعالى للعبد: حلول البلاء به، وصبره عليه، والأصل أن المؤمن لا يتمنى البلاء، ولا يتعرض له، ولا يدعو به. بل يسأل الله تعالى العافية كما هو توجيه النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا وقع البلاء عليه في نفسه أو أهله أو ولده أو ماله صبر واحتسب، ولم يترك شيئًا من دينه ليُرفع بلاؤه؛ فذلك الذي يحبه الله تعالى؛ ففي حديث مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أَحَبَّ اللهُ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ صَبَرَ فَلَهُ الصَّبْرُ، وَمَنْ جَزِعَ فَلَهُ الْجَزَعُ» (10)
فأحباب الله تعالى من أهل الإيمان يبتلون بالسراء وبالضراء؛ فإذا ابتلوا بالسراء صبروا عن الدنيا وفتنتها وشكروا الله تعالى، وإن ابتلوا بالضراء صبروا على ضرائهم وحمدوا الله تعالى إذ ابتلاهم.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا ووالدينا من أحبابه وأوليائه، وأن يوفقنا لما يرضيه، وأن يجنبنا ما يسخطه، إنه سميع مجيب.
7- ومن علامات حب الله تعالى للعبد: حمايته من الفتنة بالدنيا، وحجة ذلك: حديث قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا حَمَاهُ الدُّنْيَا كَمَا يَظَلُّ أَحَدُكُمْ يَحْمِي سَقِيمَهُ المَاءَ» (11)
ويشير الحديث السابق إلى أنّ ما يقع للعبد من حرمان في بعض ما يراه النّاس خيراً هو في حقيقته خيرٌ أراده الله لعبده، وقد لا يعلم المرء علّة المنع أو ما ادّخره الله تعالى له جزاءً لصبره، وفيه دلالة كذلك على أنّ منع الله النّعمة عن بعض عباده المتّقين ليس سخطاً عليهم، بل حبّاً لهم ورفعاً لدرجاته.
فليس كثرة المال علامةً على حب الله للعبد، ألا ترون بعض الكفار والملحدين يملكون المليارات؟ فالله تعالى يعطي المال من أحب ومن لا يحب، ولكن لا يعطي الإيمان إلا من يحب، فأول علامات محبة الله لك: أن الله تعالى جعلك مؤمنا ولم يجعلك كافرا، فإذا رأيت نفسك تسير في طريق الصالحين وتنهج منهجهم وتحب مجالستهم وتعمل كأعمالهم، فاعلم أن الله -عز وجل- قد أحبك، بأن بصرك طريق الحق، فالزمه وعض عليه بالنواجذ. وأما إذا رأيت خلاف ذلك فاعلم أنك تسير في طريق الشقاء والنار والعياذ بالله.
8- ومن علامات حب الله تعالى للعبد: توفيقه لحسن الخُلق، وحُسن الخاتمة، والموت على العمل الصالح لقول النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (إذا أحبَّ اللهُ عَبدًا عسَّلَه، قالوا: ما عسَّلَه يا رسولَ اللهِ؟ قال: يُوفِّقُ لهُ عملًا صالحًا بين يدَي أجلِه حتَّى يرضَى عنهُ جيرانُه أو قال: مَن حولَه) (12)
وختاما: نسأل الله أن يوفقنا الله –عز وجل- للإيمان والتدين.
فينبغي للمؤمن أن يحرص على إتيان أسباب محبة الله تعالى له، وأن يتحرى توافر علاماتها فيه، وأن يكثر من الدعاء في نيل هذه المنزلة العظيمة، منزلة ولاية الله تعالى ومحبته له؛ فإنه إن نالها سعد في الدنيا بطيب العيش وراحة القلب، وفاز يوم القيامة فوزا عظيما برضوان الله تعالى وجنته.
ومن الدعاء النبوي المأثور: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَالعَمَلَ الَّذِي يُبَلِّغُنِي حُبَّكَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي وَأَهْلِي وَمِنَ المَاءِ البَارِدِ» (13).
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، اللهم من أراد بلادنا وبلاد المسلمين بسوء فأشغله بنفسه ورد كيده في نحره واجعل تدبيره تدميرا يا سميع الدعاء، اللهم كن عونا معينا لخادم الحرمين الشريفين ووفقه وولي عهده لما فيه صلاح البلاد والعباد. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الفهارس:
1- سورة آل عمران (31).
2- سورة المائدة (45).
3- رواه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1571).
4- سورة آل عمران (31).
5- سورة الأحزاب (70-71).
6- أخرجه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة.
7- أخرجه أحمد (22030) من حديث معاذ بن جبل.
8- سورة مريم (96).
9- أخرجه مسلم (2637) من حديث أبي هريرة.
10- أخرجه الترمذي (2396) من حديث أنس بن مالك.
11- أخرجه الطبراني (4296) من حديث رافع بن خديج.
12- أخرجه ابن حبان (342)، من حديث عمرو بن الحمق.
13- أخرجه الترمذي (3235) من حديث معاذ بن جبل.