جسرُ الصيام

د. سلطان بن حباب الجعيد
1446/08/28 - 2025/02/27 09:27AM

الحمدُ للهِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، خلقَ فسوَّى، وقدَّرَ فهدى، وأخرجَ المرعى، فجعلهُ غُثاءً أحوى.

والصلاةُ والسلامُ على خيرتِهِ من خلقِهِ، وحجَّتِهِ على عبادِهِ، محمد بنِ عبدِ اللهِ، صلى اللهُ وسلَّمَ عليهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ، ومن سارَ على نهجِهِ واقتفى أثرَهُ إلى يومِ الدينِ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.

وبعدُ:

أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ، حتى يُصلحَ اللهُ حالَنا، ويغفرَ ذنوبَنا، قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ۝ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: ٧٠-٧١].

أيها الإخوةُ الكرامُ، يفصلُنا عن رمضانَ يومٌ أو يومانِ، وهذا يعني أنَّهُ قد دنا، موعدُ اللقاءِ مع الحبيبِ، الذي انتظرناهُ بلهفٍ وشوقٍ عامًا كاملًا.

فأهلًا بسيدِ الشهورِ، جئتَ وقد امتلأنا شوقًا وحنينًا؛ لنهارِكَ الذي يعبقُ بالصالحاتِ، ولليلِكَ الذي يدوي بالآياتِ، ولروحانيَّاتِكَ التي تملأُ المكانَ والزمانَ، وللفرحِ الذي يخالطُ قلوبَنا بقدومِكَ في كلِّ مرةٍ، وللذكرياتِ الجميلةِ التي ارتبطتْ بكَ في وجدانِ كلٍّ منا.

ألا يحقُّ لنا الفرحُ بقدومِ هذا الضيفِ، وهو الذي يأتي كلَّ عامٍ، فلا يغادرُنا، إلا وغادرتْ معهُ ذنوبُنا وهمومُنا إن شاءَ اللهُ، وتزوَّدْنا فيهِ من كلِّ عملٍ صالحٍ؟

فنحنُ في انتظارهِ كالأطفالِ الذينَ ينتظرونَ أباهمُ المُحَمَّلَ بكلِّ ما يُبهجُ ويُفرِحُ.

أيها السادةُ الكرامُ:

نحن نتهيَّأُ للتلبسِ بعبادةٍ عظيمةٍ، وهي صومُ رمضانَ المباركِ، الذي كتبَهُ اللهُ علينا، وجعلَهُ من أركانِ دينِهِ، فجديرٌ بنا أن نعرفَ حقيقةَ هذه العبادةِ، وننفذَ إلى كُنهِها وجوهرِها.

إنَّ الصيامَ في صورتِهِ الظاهرةِ، إمساكٌ عن الأكلِ والشربِ، من طلوعِ الفجرِ إلى غروبِ الشمسِ.

وفي حقيقتِهِ ارتقاءٌ بالعبدِ وتهذيبٌ لنفسِهِ وسلوكِهِ، إلى أنْ يصلَ إلى مراتبِ التقوى، وهي الغايةُ التي نصَّ عليها القرآنُ في قولِهِ تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ١٨٣].

فتعالوا لنتعرَّفَ على هذه المنزلةِ الرفيعةِ، والمرتبةِ العليةِ، حتى نكونَ من أهلِها.

لن نجدَ، أعظمَ ولا أهدى من القرآنِ ليُعَرِّفَنا بالتقوى والمتقينَ. والقرآنُ لهُ منهجٌ عميقٌ في التعريفِ بالأسماءِ ومعانيها، فهو لا يُقدِّمُها معانيَ تجريديةً نظريةً، على غرارِ التعريفاتِ التي تعوَّدْنا عليها في كتبِنا ومؤلفاتِنا، بل يُعَرِّفُها بصفاتٍ وأخلاقٍ عمليَّةٍ.

فإنْ عَرَّفَ بالإيمانِ أو الإحسانِ أو التقوى أو غيرِها من الأسماءِ الممدوحةِ، يُعَرِّفُها بصفاتِ وأخلاقِ أهلِها.

وكذلك إذا عَرَّفَ بأضدادِ هذه الأسماءِ من الكفرِ والفسوقِ والنفاقِ، فإنَّهُ يُعَرِّفُها بصفاتِ وأخلاقِ أهلِها. حتى يكونَ قارئُ القرآنِ بذلك، على معرفةٍ ودرايةٍ بنفسِهِ، وفي أيِّ الدوائرِ يقفُ، فيقطعَ حالةَ الادعاءِ الكاذبِ للمسمياتِ الممدوحةِ، أو التبرؤَ الكاذبَ من المسمياتِ المذمومةِ.

فالتقوى كما يُعَرِّفُها القرآنُ، هي التي يتحلَّى أصحابُها، بتوحيدِ اللهِ في العبادةِ دونَ شريكٍ، وبالصدقِ في الحديثِ، وبالصبرِ في الشدائدِ والمصائبِ، وبالإنفاقِ والبذلِ من أموالِهم في حالِ العسرِ واليسرِ، وبالوفاءِ بالعهودِ والمواثيقِ، وبالإحسانِ إلى الخلقِ القريبِ والبعيدِ، وبالعفوِ عمَّن أساءَ في حقِّهم، وبإقامِ الصلاةِ، وإيتاءِ الزكاةِ، وبالتوبةِ والاستغفارِ إذا أخطأوا وعصوا، وغيرِ ذلكَ من الصفاتِ.

وإليكُم بعضَ شواهدِ ذلكَ من القرآنِ، وهو يُعَرِّفُ بالمتقينَ:

يقول تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: ١٧٧].

ويقول أيضا عز وجل: ﴿وَسارِعوا إِلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُهَا السَّماواتُ وَالأَرضُ أُعِدَّت لِلمُتَّقينَ ۝ الَّذينَ يُنفِقونَ فِي السَّرّاءِ وَالضَّرّاءِ وَالكاظِمينَ الغَيظَ وَالعافينَ عَنِ النّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحسِنينَ ۝ وَالَّذينَ إِذا فَعَلوا فاحِشَةً أَو ظَلَموا أَنفُسَهُم ذَكَرُوا اللَّهَ فَاستَغفَروا لِذُنوبِهِم وَمَن يَغفِرُ الذُّنوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَم يُصِرّوا عَلى ما فَعَلوا وَهُم يَعلَمونَ﴾ [آل عمران: ١٣٣-١٣٥]

والتحلِّي بهذه الصفاتِ، ليس بالأمرِ الهَيِّنِ، فهو يحتاجُ إلى رياضةٍ ومجاهدةٍ، وإرادةٍ صلبةٍ وقويةٍ.

والصيامُ جاءَ ليُقَوِّيَ هذه الإرادةَ فينا، ويُدَرِّبَها على مقاومةِ غرائزِنا وأهوائِنا، وعدمِ الانسياقِ لها في كلِّ حينٍ.

وعندما يُقَوِّي الصيامُ إرادتَكَ، فهذا يعني أنَّهُ يريدُ أن تكونَ القيادةُ لكَ على نفسِكَ وليس العكسَ؛ إذ لو كانتِ القيادةُ لنفسِكَ، لأوردتْكَ المهالكَ، وجردتْكَ من إنسانيتِكَ، فالحيواناتُ -أعزَّكمُ اللهُ- هي التي تتبعُ رغباتِها وغرائزَها دونَ رادعٍ.

والبشرُ بلا إرادةٍ إيمانيَّةٍ، تحثُّهم على فعلِ ما يجبُ فعلُهُ ولو كرهوهُ، وتركِ ما يجبُ تركُهُ ولو أحبُّوهُ، يهبطونَ إلى درَكِ البهائمِ، فتقودُهم عندئذٍ غرائزُهم، واللهثُ خلفَ مصالحِهم.

حينها، يبطشُ بعضُهم ببعضٍ كالأسودِ، ويحقدُ بعضُهم على بعضٍ كالجِمالِ، ويمكرُ بعضُهم ببعضٍ كالثعالبِ، ويختالُ بعضُهم على بعضٍ كالطواويسِ!

فالصيامُ إذًا ليس إمساكًا عن الأكلِ والشربِ فقط، بل هو كما رأيتُم مدرسةٌ لنرتقيَ بهِ في مدارجِ الإيمانِ، ونسموَ بهِ في منازلِ الإنسانيةِ.

أقولُ قولي هذا…

 


الخطبة الثانية:

 


وبعدُ:

أيُّها المسلمونَ، إنَّ من أعظمِ أسبابِ شتاتِ نفوسِنا، وألمِها وحزنِها، المفارقةَ الكبيرةَ، والفجوةَ السحيقةَ، بينَ ما نؤمنُ بهِ ونعتقدُهُ ويجبُ علينا فعلُهُ، وبينَ سلوكياتِنا وما نقومُ بهِ فعلًا.

فكأنَّ كلَّ واحدٍ منَّا، له حالتانِ: الحالةُ التي هو عليها، ويرومُ تغييرَها وإصلاحَها، ويقابلُها في الضفةِ الأخرى، الحالةُ التي يودُّ أن يكونَها وينتقلَ إليها.

والصيامُ هو الجسرُ، الذي نعبرُ من خلالِهِ، إلى صورتِنا الأكملِ، وحالتِنا الأفضلِ، ونتركُ وراءَنا عيوبَنا ونواقصَنا، فتتقلَّصُ بذلكَ الفجوةُ، ويلتئمُ الظاهرُ بالباطنِ، فيُحَقِّقُ لنا الصيامُ بذلكَ ما يُسمَّى بالسلامِ النفسيِّ أو الداخليِّ، وهو مرحلةٌ متقدِّمةٌ في الطمأنينةِ والاستقرارِ.

الصيامُ هو الجسرُ الذي:

• إذا عبرتَهُ، أوصلَكَ إلى الصدقِ؛ لتُغادِرَ بذلكَ في الضفةِ الأخرى الكذبَ.

• وأوصلَكَ إلى الصبرِ؛ لتُغادِرَ في الضفةِ الأخرى الضجرَ.

• وأوصلَكَ إلى الإنفاقِ والبذلِ؛ لتُغادِرَ بذلكَ الشُّحَّ والبخلَ.

• وأوصلَكَ إلى العفوِ والتسامحِ؛ لتُغادِرَ الكراهيةَ والحقدَ والانتقامَ.

• وأوصلَكَ إلى الحِلْمِ؛ لتُغادِرَ الغضبَ والطَّيْشَ.

• وأوصلَكَ إلى صلةِ الأرحامِ؛ لتُغادِرَ القطيعةَ والهِجرانَ.

• وعبرَ بكَ إلى الاستغفارِ والتوبةِ؛ لتُغادِرَ في الجهةِ المقابلةِ الذنبَ والخطيئةَ.

هكذا نجعلُ من الصيامِ، ميدانًا حقيقيًّا لممارسةِ صفاتِ المتقينَ، فيكونُ رمضانُ بهذه المثابةِ، مدرسةً نتخرجُ منها، ونحنُ نحملُ مؤهِّلَ التقوى، المطلوبَ للنجاةِ، قال تعالى:

﴿ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾ [مريم: ٧٢].

أمَّا إذا لم ينفذْ الصيامُ وتأثيرُهُ إلى سلوكِنا، وكُنَّا كما نحنُ أثناءَ الصيامِ وبعدَهُ، ولم نتمكَّنْ بعدُ من التخلُّصِ من كلِّ سلوكٍ مشينٍ، فهذا يعني أنَّنا لم نضعْ بعدُ أقدامَنا على الجسرِ، لنعبرَ مع العابرينَ.

ويعني أيضًا أنَّنا صمنا صيامًا أقربَ للعادةِ منهُ للعبادةِ، وأصبنا صورتَهُ، وأخطأنا حقيقتَهُ والمقصودَ منهُ، قال صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:

«مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» [رواه البخاري].

أمَّا إذا أفلحْنا في تحويلِ صفاتِ المتقينَ التي نتلوها في القرآنِ إلى عملٍ، فهذا يعني أنَّنا عبرنا إلى حيثُ التقوى، والتي ستعبرُ بنا إلى المكانةِ العظيمةِ والمرموقةِ، وهي محبَّةُ اللهِ لنا، ومعيَّتُهُ إيَّانا، قال تعالى:

﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: ١٢٨].

 


اللهمَّ بلِّغْنا الشهرَ، وباركْ لنا فيهِ، واجعلْنا فيهِ من الصائمينَ حقًّا، وتُبْ علينا، إنَّكَ أنتَ التوَّابُ الرحيمُ.

 


هذا، وصلُّوا وسلِّموا …

 

المشاهدات 303 | التعليقات 0