حدث في آخر شهر شوال

الْـحَمْدُ لِلَّهِ الْـحَكِيمِ الْـخَبِيرِ، الْعَزِيزِ الْـجَبَّارِ، الَّذِي لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَأَشْكُرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلٰهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَىٰ آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ.. مَا أَكْثَرَ الدُّرُوسَ فِي سِيرَةِ الْـحَبِيبِ ﷺ، وَمَا أَغْزَرَ الْـفَوَائِدَ لِمَنْ تَأَمَّلَهَا بِعَيْنِ الْفَقِيهِ، وَعَقْلِ الْمُفَكِّرِ، وَقَلْبِ الْمُرَبِّي.

حَدِيثُنَا الْيَوْمَ عَنْ مَوْقِفٍ عَظِيمٍ مِنْ مَوَاقِفِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ، مَلِيءٌ بِالْـحِكْمَةِ، وَالتَّخْطِيطِ، وَالْـحَزْمِ، وَالْعَدْلِ، وَهُوَ مَا حَدَثَ فِي أَوَاخِرِ شَهْرِ شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ الرَّابِعَةِ لِلْهِجْرَةِ، عَنْ أَزْمَةٍ دَاخِلِيَّةٍ خَطِيرَةٍ وَاجَهَتِ الدَّوْلَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ النَّاشِئَةَ فِي الْمَدِينَةِ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ ﷺ تَعَامَلَ مَعَهَا بِدَهَاءِ السِّيَاسِيِّ، وَحِكْمَةِ الْمُرَبِّي، وَقِيَادَةِ الْمُخَطِّطِ الِاقْتِصَادِيِّ.

حِينَ قَرَّرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مُحَاصَرَةَ بَنِي النَّضِيرِ، وَهِيَ إِحْدَى الْقَبَائِلِ الْيَهُودِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ تَسْكُنُ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، بَعْدَ أَنْ خَانَتِ الْعَهْدَ، وَخَطَّطَتْ لِاغْتِيَالِهِ ﷺ!

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ قَدْ ذَهَبَ إِلَيْهِمْ يَطْلُبُ مُشَارَكَتَهُمْ فِي دَفْعِ دِيَةِ قَتِيلَيْنِ كَمَا اقْتَضَى الِاتِّفَاقُ، لَكِنَّهُمْ اسْتَغَلُّوا الْمَوْقِفَ، وَبَدَؤُوا الْمُؤَامَرَةَ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَىٰ نَبِيِّهِ بِمَا خَطَّطُوا لَهُ، فَقَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ بِهُدُوءٍ، وَخَرَجَ دُونَ أَنْ يُشْعِرَهُمْ بِشَيْءٍ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْمَدِينَةِ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَىٰ: ﴿هُوَ الَّذِيٓ أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ مِن دِيَٰرِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا ۖ وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾.

وَلَمْ يَكُنِ الْمَوْقِفُ مُجَرَّدَ رَدِّ فِعْلٍ... بَلْ كَانَ إِعَادَةَ رَسْمٍ لِخَرِيطَةِ الْقُوَّةِ فِي الْمَدِينَةِ، بِدُونِ حَرْبٍ مَفْتُوحَةٍ، وَلٰكِنْ بِاسْتِرَاتِيجِيَّةٍ مُتْقَنَةٍ.

فَمَاذَا فَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ؟ لَمْ يُشْعِلْ حَرْبًا. لَمْ يَتَهَوَّرْ أَوْ يُصْدِرْ حُكْمًا ارْتِجَالِيًّا، بَلْ حَاصَرَهُمْ اقْتِصَادِيًّا وَنَفْسِيًّا، فَاهْتَزَّتْ قِلَاعُهُمْ، وَسَقَطَتْ هَيْبَتُهُمْ، وَاضْطُرُّوا لِلْخُرُوجِ أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ. وَهٰكَذَا أَزَالَ خَطَرًا دَاخِلِيًّا كَانَ يُهَدِّدُ الدَّوْلَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ، دُونَ أَنْ يُرَاقَ دَمٌ.

وَهُنَا تَتَجَلَّى الْقِيَادَةُ النَّبَوِيَّةُ الْـحَكِيمَةُ.. تَصَرَّفَ بِـحَزْمٍ دُونَ تَسَرُّعٍ، وَاخْتَارَ الْوَسِيلَةَ الْأَنْسَبَ، وَهُوَ الْـحِصَارُ لَا السَّيْفُ. وَكَانَ هَدَفُهُ حِفْظَ الْأَمْنِ لَا الِانْتِقَامَ.

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ يَتَدَبَّرُونَ فِي السِّيرَةِ، وَيَهْتَدُونَ بِهُدَى النَّبِيِّ ﷺ، اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا حِكْمَةً فِي أَقْوَالِنَا، وَعَدْلًا فِي أَفْعَالِنَا، وَحَزْمًا فِي مَوَاقِفِنَا.

أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَاسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...

 

 

 

الْـحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْحَكِيمِ، الَّذِي يُجْرِي الْمَقَادِيرَ بِحِكْمَتِهِ، وَيُدَبِّرُ شُؤُونَ الْخَلْقِ بِعَدْلِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَىٰ آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَىٰ نَهْجِهِ الْقَوِيمِ.

أَيُّهَا الْأَحِبَّةُ فِي اللَّهِ .. إِنَّ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي حِصَارِ بَنِي النَّضِيرِ لَيْسَ مُجَرَّدَ قِصَّةٍ، بَلْ هُوَ مَنْهَجٌ نَسْتَخْرِجُ دُرُوسًا تَرْبَوِيَّةً هَائِلَةً نَحْتَاجُهَا الْيَوْمَ فِي حَيَاتِنَا الشَّخْصِيَّةِ، وَالسِّيَاسِيَّةِ، وَالِاقْتِصَادِيَّةِ، وَالتَّرْبَوِيَّةِ.

نَتَعَلَّمُ .. الْحَذَرَ مِنَ الْخِيَانَةِ مَهْمَا كَانَتِ الْعِشْرَةُ، فَالْإِسْلَامُ لَا يَرْضَىٰ بِالْخِيَانَةِ حَتَّىٰ وَلَوْ كَانَتْ مِنَ الْجَارِ أَوِ الْحَلِيفِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَبْدَأْ أَحَدًا بِعَدَاوَةٍ، لَكِنَّهُ لَمْ يَسْكُتْ عَنْ غَدْرِهِمْ. وَالرَّسُولُ ﷺ لَمْ يَنْفَعِلْ! بَلْ تَعَامَلَ بِأَعْلَىٰ دَرَجَاتِ الْهُدُوءِ وَالْحِكْمَةِ. وَهَذَا دَرْسٌ لِأَيِّ مَسْؤُولٍ أَوْ مُرَبٍّ: أَنْ تَتَعَامَلَ مَعَ الْأَزْمَةِ بِعَقْلٍ لَا بِعَصَبِيَّةٍ.

نَتَعَلَّمُ الْإِدَارَةَ الْحَكِيمَةَ لِلْأَزْمَاتِ، فَالنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَلْجَأْ لِلْعُنْفِ أَوَّلًا، بَلْ فَرَضَ حِصَارًا اقْتِصَادِيًّا، وَهَذَا يُعَلِّمُنَا أَنَّ الْبَدَائِلَ مَوْجُودَةٌ، وَأَنَّ الرَّدَّ لَا يَكُونُ دَائِمًا بِالسَّيْفِ.

نَتَعَلَّمُ دُرُوسًا فِي الْعَدَالَةِ حَتَّىٰ مَعَ الْأَعْدَاءِ، فَالنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَأْخُذْ أَمْوَالَهُمْ كُلَّهَا، وَلَمْ يُهَجِّرْهُمْ دُونَ أَمْتِعَتِهِمْ، بَلْ سَمَحَ لَهُمْ بِحَمْلِ مَا اسْتَطَاعُوا، وَأَمَرَ أَلَّا يُقْتَلَ مِنْهُمْ أَحَدٌ.

نَتَعَلَّمُ أَنَّ السِّيَادَةَ لَا تُبْنَىٰ بِاللِّيْنِ الْمُطْلَقِ. الرَّحْمَةُ نَعَمْ، وَلَٰكِنْ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِالْحَزْمِ، تَكُونُ فَاعِلَةً. فَالنَّبِيُّ ﷺ عَلَّمَنَا أَنَّ الْقِيَادَةَ لَا تَعْنِي التَّسَاهُلَ، بَلِ التَّوَازُنَ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْهَيْبَةِ.

لِيَعْلَمِ الْعَالَمُ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ قَائِدَ دَوْلَةٍ، مُفَاوِضًا، مُدَبِّرًا، لَا مُجَرَّدَ وَاعِظٍ، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ يُعَلِّمُنَا كَيْفَ نُدِيرُ الْأَزْمَاتِ لَا كَيْفَ نَهْرُبُ مِنْهَا.

اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا نُورَ الْبَصِيرَةِ، وَفِي قَرَارَاتِنَا حِكْمَةَ الْقِيَادَةِ، وَفِي أَعْمَالِنَا رَحْمَةً وَعَدْلًا.

اللَّهُمَّ احْفَظْ أُمَّتَنَا مِنَ الْخَوَنَةِ وَالْعُمَلَاءِ، وَاجْعَلْ فِينَا مَنْ يَقْتَدِي بِسَيِّدِ الْحُكَمَاءِ، نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.

اللَّهُمَّ بَارِكْ فِي اقْتِصَادِنَا، وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَىٰ مَنْ عَادَانَا.

وَصَلِّ اللَّهُمَّ وَسَلِّمْ عَلَىٰ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَىٰ آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

 

المشاهدات 813 | التعليقات 0