حديث إلى القمر

حديث إلى القمر

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله. أما بعد:

 عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } ([1])

عباد الله نظرت إلى القمر وقد تربع كبد السماء بجماله البدري الأخاذ فأحببت أن أشرككم فيما دار بيني وبينه من حوار.

يا أيها القمر الذي سكن السماء         وأبيت إلا أن تحلق في الفضاء

يا من وهبت الأرض نورك سارياً     ووهبت كل الخلق أسرار الضياء

وحملت أخبار الدنى عبر العصور    قم حدث الدنيا حديث الأوفياء

اسرد من التاريخ بعض حديثهم       فلعل في أخبارهم بعض الدواء

اسرد حديث رسولنا ورفاقه        فحديثهم يا بدر إكسير الشفاء

يا أيها القمر حدثنا القرآن أنك آية من آيات الله عز وجل تدل على عظيم قدرته وسلطانه {آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ}، جعلك الله نوراً للأرض نعرف بك عدد السنين والحساب قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ([2]) فجعلتنا يا قمر نلهج لله بالشكر والثناء معرفة عدد السنين والحساب وما ترتب على ذلك من المنافع التي لا تحصى.

يا أيها القمر أخبرني القرآن عنك أن تسجد لله عبودية وخضوعاً له وتذللاً {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } [الحج: 18]

فعلمتنا درساً بليغاً أن نكون عباداً لله وأن نكثر من السجود له وأن نحافظ الصلاة في أوقاتها، وكأني حين أنظر إليك ألمح في وجهاً عتاباً حاراً لكل من ضيع الصلاة وقطع صلته بالله، وحرم نفسه من لذة السجود لله، واعجباً القمر يديم السجود لله وبعضنا نفرط في الصلاة!

قرأت خبرك وخبر الشمس في رؤيا يوسف عليه السلام: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] فلما تبين تعبير الرؤيا علمتنا درساً عظيماً في الحياة؛ أن الأم والأب هما شمسنا وقمرنا، فكما أن الكون لا يستغني عن الشمس والقمر وإذا فقدهما خربت الحياة، فالأبوان هما شمس حياتنا وقمرها إن فقدنا برهما فسدت حياتنا.

عباد الله علينا أن نسأل أنفسنا: هل استشعرنا أن الأبوين هما شمس حياتي وقمرها؟ هل شعرنا بالحزن على تقصيرنا في حقهما، هل أقبلنا عليهما بشوق وحب وبر وإحسان لنتدارك ما سلف من تقصيرنا؟

اللهم ارزقنا برهما وارحمهما كما ربيانا صغيرا.

يا أيها القمر تذكرت رسولنا محمد صلى الله عليه سلم عندما طلب منه قومه آية على صدق رسالته فكان انشقاك هو الآية التي ألجم بها رسولنا كفار قريش، عن أنس قال: ( إن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما ). متفق عليه

وعن ابن مسعود قال: ( انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين: فرقة فوق الجبل وفرقة دونه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشهدوا» . متفق عليه

فتعلمنا منك حب محمد صلى الله عليه وسلم ونصرته وحب سنته والسعي في نشرها والتعريف بها.

يا أيها القمر تذكرت رسولنا محمد صلى الله عليه سلم وعائشة رضي الله عنها إلى جواره وقد أخذ بيدها ليحذرها من شرور الليل إذا أقبل فيشير إليك قائلاً:( استعيذي بالله من هذا، فإنه الغاسق إذا وقب " رواه الترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.

فعلمتنا يا قمر أن نحذر من الشرور والفتن وأن نستعيذ بالله منها وأن نسعى جاهدين في التفتيش عن مواطن الخير والفوز بها.

يا أيها القمر َأنظر إليك وأتذكر جواب الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رضي الله عنها حين سأله رجل: أَكَانَ وَجْهُ رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مِثْلَ السَّيْفِ؟ قَالَ: (لَا بَلْ مِثْلَ الْقَمَرِ) رواه البخاري فنتذكرك برؤيتك وجه رسول الله ويتجدد في قلوبنا معاني الحب والشوق إلى لقياه صلى الله عليه وسلم، اللهم ارزقنا محبته والشوق إلى لقائه والتأسي به والورود على حوضه لنشرب منه شربتاً لا نظمأ بعدها أبداً بمنك وكرمك يا حي يا قيوم.  

الخطبة الثانية:

الحمد لله عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ واشهد الا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد ان حمد عبده ورسوله أما بعد:

عباد الله ويستمر حديثي إلى القمر نراك أيها القمر فتذكرنا فضل العلماء حينما ضرب بك النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً للعلماء، فعن أبي الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ". رواه أحمد والترمذي وأبو داود وحسنه الألباني، فتعلمنا توقير العلماء ومحبتهم والذب عن أعراضهم، والصدور عن فتواهم.

يا أيها القمر تهل علينا في بداية كل شهر فأنظر إليك واتذكر أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَأَى الْهِلالَ، قَالَ: " اللهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْيُمْنِ وَالْإِيمَانِ، وَالسَّلامَةِ وَالْإِسْلامِ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ " رواه ابن حبان وصححه الألباني. فنقول هذا الذكر عندما تهل علينا كل شهر مستبشرين بقدومك.

يا أيها القمر رأيتك فتذكرت حديث علي رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:" مَا مِنَ الْقُلُوبِ قَلْبٌ إِلَّا وَلَهُ سَحَابَةٌ كَسَحَابَةِ الْقَمَرِ بَيْنَمَا الْقَمَرُ مُضِيءٌ إِذْ عَلَتْهُ سَحَابَةٌ فَأَظْلَمَ إِذْ تَجَلَّتْ عَنْهُ فَأَضَاءَ وَبَيْنَمَا الرَّجُلُ يُحَدِّثُ إِذْ عَلَتْهُ سَحَابَةٌ فَنَسِيَ إِذْ تَجَلَّتْ عَنْهُ فَذَكَرَهُ " رواه أبو نعيم وحسنه الألباني، فعلمتنا أن نعتني بقلوبنا ونحذر عليها من الفتن التي تعرض لها حتى تبقى بيضاء نقية ونحن نلهج بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك، اللهم يا مقلب القلوب، ثبت قلوبنا على دينك.

يا أيها القمر تذكرنا رؤيتك حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن المؤمن في قبره لفي روضة خضراء ويرحب له قبره سبعون ذراعا وينور له كالقمر ليلة البدر ) رواه ابن حبان وحسنه الألباني، فيحثنا ذلك أن على التزود بالصالحات لينور الله قبورنا بعد الرحيل عن الدنيا.

يا أيها القمر تذكرنا رؤيتك حديث أبي هريرة  رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر ثم الذين يلونهم كأشد كوكب دري في السماء إضاءة قلوبهم على قلب رجل واحد لا اختلاف بينهم ولا تباغض لكل امرئ منهم زوجتان من الحور العين يرى مخ سوقهن من وراء العظم واللحم من الحسن يسبحون الله بكرة وعشيا لا يسقمون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتفلون ولا يتمخطون آنيتهم الذهب والفضة وأمشاطهم الذهب ووقود مجامرهم الألوة ورشحهم المسك على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء ). رواه مسلم. فتشتاق نفوسنا لجنة الله ونطمع أن نكون من أهلها.

يا ايها القمر نراك وقد تجليت بدراً تملأ السماء جمالاً فنتذكر حديث جرير بن عبد الله حين قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا» ثم قرأ (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) متفق عليه، فتعلمنا الشوق إلى لقاء ربنا ومحبته والفوز بالنظر إلى وجهه الكريم، اللهم ارزقنا لذة النظر إلى وجهك الكريم يا حي يا قيوم .

([1])  [آل عمران : 102].
([2])