حفظ اللسان عن الغيبة والنميمة والشائعات وسائر ما لا يعني الإنسان

محمد بن عبدالله التميمي
1447/01/14 - 2025/07/09 11:11AM

الخطبة الأولى

الحمد لله الرحمن، علَّمَ القرآنَ، خَلَقَ الإنسانَ، علَّمه البيان، أحمَدُه سبحانه وهو المحمودُ بكل لسان، وأشهد ألا إله إلا الله وحده، تنزَّه عن الشريك والصاحب والأعوان، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله سيدُ ولد عدنان، صلى عليه الله ما تعاقب القمران، وبارك عليه وعلى صحابتِه أجمعين المكْرَمِين بالرضوان، وَعلى منَ تَبِعَهُم بإحسان، أما بعد:

فإنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ رَقِيبًا عَلَى سَمْعِهِ، وَبَصَرِهِ، وَلِسَانِهِ، وَيَدِهِ، وَرِجْلِهِ، وَبَطْنِهِ، حقيقٌ أنْ تكون التَّقْوَى رَقِيبُهُ، وَالْقُرْآنُ دَلِيلُهُ، وَالْخَوْفُ مَحَجَّتُهُ، وَالشَّرَفُ مَطِيَّتُهُ، وَالْوَجَلُ شِعَارُهُ، وَالصَّلَاةُ كَهْفُهُ، وَالصِّيَامُ جُنَّتُهُ، وَالصَّدَقَةُ فِكَاكُهُ، وَالصِّدْقُ وَزِيرُهُ، وَالْحَيَاءُ أَمِيرُهُ، وَرَبُّهُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ كُلِّهِ بِالْمِرْصَادِ ﴿يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾.

عبادَ الله.. إنه دليل كمال الإيمان، وحسن الإسلام، وحسن الخلق، وطهارة النّفس، وسلامةٌ للمرء من العطب، ويُثْمِرُ محبَّةَ الله، ثمّ محبّة النّاس، وسببٌ للفوز بالجنّة، والنّجاة من النّار، ودليلٌ على الحكمة، ويُجْمِعُ للإنسانِ لُبَّه، فهو أَجْمَعُ لِفِكْرِهْ، وأعونُ على عباد ربِّهِ وذِكْرِه. إنه يا عباد الله الصمتُ، وقد كان النبي ﷺ طويلُ الصمت، كثيرُ الذكر، وبذلك أمَر مَنْ لم يَقُل خيْرًا فقال ﷺ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أوْ لِيَصْمُتْ». وهكذا كان الصحابةُ رضوانُ الله عليهم، وهو طريق السلامة، قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما: «قل خيرًا تغنم، أو اسكت عن سوءٍ تسلم، وإلّا فاعلم أنّك ستندم».

عباد الله.. مَن جعل قول الله تعالى نَصْبَ عينيه فإنه سيتحفَّظ في اللفظ: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ فما يتكلم بكلمة إلَّا ومَلَكٌ يُراقِبُها حاضرٌ مهيأٌ يكتبها ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ* كِرَامًا كَاتِبِينَ* يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾.

فهم عن اللغو معرضون، وكذلك المؤمنون المفلحون، ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.

فمَن كان للسانه حافظًا وعن اللغو معرضًا، فلَنْ يُصَدِّقَ كلَّ ما يُقال، ولن يُحدِّثَ بكل ما سَمِع، وقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾، وفي الصحيح يقول النبي ﷺ : «كَفى بالمَرْءِ كَذِبًا أنْ يُحَدِّثَ بكُلِّ ما سَمِعَ»، فكيف إذا كان له قصدُ الإفساد بما يحدِّثُ به وذلك هو النميمة، في الصحيح يقول النبي ﷺ: «لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ نَمّامٌ»، فإذا كان كلامًا بما في المتكلَّمُ فيه بما يكره فهو غيبة، وإن كان بما ليس فيه مما يَكْرَهُ فهو بُهْتَان. وقد قال النبي ﷺ يومًا لأصحابه: «أَتَدْرُونَ ما الغِيبَةُ؟» قالوا: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، قالَ: «ذِكْرُكَ أخاكَ بما يَكْرَهُ». قيلَ: أفَرَأَيْتَ إنْ كانَ في أخِي ما أقُولُ؟ قالَ: «إنْ كانَ فيه ما تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ فيه فقَدْ بَهَتَّهُ». وقد توعَّد الله من يؤذي أخاه فيقول فيه ما ليس فيه، بإثمٍ عظَّمه ولم يُسَمِّه، مما يُخوِّف به عباده، فيستحقون بأذيتهم: العذابَ في الدنيا والبرزخِ والآخرة ﴿والذين يُؤذُونَ المؤمنين والمؤمناتِ بغيرِ ما اكتسبوا فقد احتمَلُوا بهتانًا وإثمًا مُبِينًا﴾ وفي عقوبتهم، قال ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: مرَّ النَّبيُّ ﷺ فسَمِعَ صَوتَ إنسانَينِ يُعذَّبانِ في قُبورِهما، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يُعَذَّبانِ، وما يُعذَّبانِ في كبيرٍ! ثمَّ قال: «بلى؛ كان أحدُهما لا يَستَتِرُ مِن بَولِه، وكان الآخَرُ يمشي بالنَّميمةِ». وفي حديث أنس رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ ﷺ قال: «لما عُرج بي مررتُ بقومٍ لهم أظفارٌ من نحاسٍ يخمشون وجوهَهم وصدورَهم! فقلتُ: من هؤلاءِ يا جبريلُ؟ قال: هؤلاءِ الذين يأكلون لحومَ الناسِ، ويقَعون في أعراضِهم».

كما توعَّد اللهُ جلَّ جلالُه: المغتابَ والطعّانَ في الناس، فَيَهْمِزُ بفعله ويَلْمِزُ بقوله، قال اللهُ جلَّ ذِكْرُه: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ﴾ كما قبَّح عزَّ وجلَّ حالَ المغتابِ في خَوضِهِ في عِرْضِ أخيه بشَبَهِهِ بآكل لحمِ أخيه، كما نهى سبحانه عن سائر ما يؤذي المسلمين أو يُفْسِدُ ذاتَ البَيْن، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾.

قال لقمان لابنه: «يا بُنَيَّ أُوصيك بخِلال، إِنْ تَمسَّكْتَ بِهِنَّ لم تَزَلْ سيدًا: ابْسُطْ خُلُقَكَ للقريب والبعيد، وأَمْسِكْ جَهْلَكَ عن الكريم واللئيم، واحفظ إخوانك، وَصِلْ أقاربك، وآمِنْهُم مِنْ قَبُولِ قولِ ساعٍ أو سماعِ باغٍ يُريدُ فسادَكَ، ويَرُومُ خِدَاعَك، ولْيَكُنْ إخوانُك مَنْ إذا فارقتَهم وفارقوك لَمْ تَعِبْهُمْ ولم يَعِيْبُوْك». وقال الحسن البصري: «من نَمَّ لك نَمَّ عليك» وهذا إشارةٌ منه رحمه الله إلى أنَّ النمامَ يَنَْبَغِي أنْ يُبْغَضَ ولا يُؤتَمَنْ، ولا يُوثَق بِصَدَاقَتِه.

قال الحافظ ابن حجر: (وكلُّ مَن حُمِلَتْ إليه النميمة .. فعليه ستة أمور:

الأول: أنْ لا يُصَدِّقَه..

الثاني: أن ينهاه عن ذلك وينصح له، ويُقَبِّحَ عليه فعله..

الثالث: أن يبغضه في الله تعالى.

الرابع: ألَّا تظن بأخيك الغائب السوء..

الخامس: أنْ لا يَحمِلَكَ ما حُكِيَ لَكَ على التجسس والبحث..

السادس: أنْ لا ترضى لنفسك ما نَهَيْتَ النَّمَّامَ عنه ولا تَحكِي نَمِيْمَتَه؛ فتكون به نمامًا ومغتابًا، وقد تكون قد أَتيت، ما عنه نَهيت).

بارك الله لي ولكم في الذكر الحكيم، وسنةِ النبيِّ الكريم، ووفَّقَنا لحفظ اللسان، ومسالمةِ أهل الإيمان، والسلامةِ من البغي والإثم والعدوان، وأسأل الله لي ولكم ولسائر المسلمين العفو والغُفران.


الخطبة الثانية

الحمد لله أحقُّ من ذُكِر، وأحقُّ من عُبِد، وأحقُّ من حُمِد، وأولى من شُكِر، وأجودُ من سُئِل، أشهد ألا إله إلا الله وحده، وأشهد أنَّ محمدًا رسوله وعبدُه، صلى الله وسلم عليه، تسليمًا كثيرا. أما بعد:

فإن الله قد حذَّر من السماع للمغتاب والنمام فقال: ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾، فكيف إذا كان يتعلق بأمرِ العامة ومصالحِ المسلمين. فالواجب التَّحَفَّظُ من الشائعات، وعدم الخوضِ فيما لا فائدة فيه من الكلام والمغالطات، فإنَّ ذلك دخولٌ فيما لا يَعني المرءَ، بأنْ تتعلَّق عنايتُه بمَا لَا يَخُصُّهُ وَيلْزمهُ فليس مقصودًا له ومطلوبًا، وقد قال النَّبِيُّ ﷺ: «مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ»، قال عمر بنُ عبدالعزيز رحمه الله: «من عدَّ كلامه من عمله، قلَّ كلامُه إلا فيما يعنيه»، وقال الحسنُ رحمه الله: «مِنْ علامة إعراض الله تعالى عن العبد أنْ يَجعَلَ شُغْلَهُ فيما لا يَعنِيْه». وذلك عباد الله من أجلِّ العملِ الذي يُرجى معه حُسن الختام والفوز والإكرام، دُخِل على أبي دُجانةَ رضي الله عنه في مرضِ موته وكان وجهه يَتَهَلَّلُ فقيل له في ذلك. فقال: «ما من عملي شيءٌ أوثقُ عندي من اثنتين: كنتُ لا أتكلّمُ فيما لا يعنيني، وكان قلبي للمسلمين سليمًا».

وصلوا وسلموا عباد الله على مَن أَمرَكُمْ بالصَّلاةِ والسَّلام عليه الله، وقد بَدَأَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْملك العلَّام، وصلَّت مَلَائكَتُه عَلَيْهِ وهم الأصفياءُ الْكِرَام، فقال ذو الجَلَالِ وَالْإِكْرَام: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَه يُصَلُّونَ على النَّبِي يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا صَلُّوْا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.

المرفقات

1752048604_حفظ اللسان عن الغيبة والنميمة وسائر ما لا يعني الإنسان.docx

1752048605_حفظ اللسان عن الغيبة والنميمة وسائر ما لا يعني الإنسان.pdf

المشاهدات 245 | التعليقات 0