حفظ اللفظات
فهد السعيد
الحمد لله الذي لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، بيده الخير كله، وإليه يُرجع الأمر كله.
والصلاة والسلام على رسوله الأمين، المبلغ عن رب العالمين صلاة وسلاماً دائمين نرجوا بهما النجاةَ يوم الدين، وعلى صحابته أجمعين الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعـــد: فيا أيها المسلمون أوصيكم بتقوى الله فهي أعظمُ الذخر والنجاةُ يوم الحشر (وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون).
ها هي قوارع القرآن تزجرنا فما ننتهي، وهذه نواهيه تحذرنا فما نرعوي، وتلك أوامره بين أيدينا ناطقة شاهدة فما نأتمر!
وفي القرآن الكريم خصال حذرنا منها، وأخلاق نهانا عنها أشد النهي، وجوارح أمرنا بحفظها.
ويأتي اللسان في مُقَدَّمتها، وكلامُ الإنسان مسؤولٌ عنه صاحبُه، حتى اللفظةَ الواحدة والكلمةَ المفردة. وها هو القرآن يُحذر ويقول: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) ويقول: (ستُكتب شهادتهم ويسألون) وقال: (سنكتب ما قالوا) (كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا).
ويَرحم اللهُ أقواماً كانوا أشدَّ حرصاً على حفظ ألسنتهم عن الحرام والخوضِ في مرذول الكلام اقتداء بنبيهم صلى الله عليه وسلم.
فقد كان الواحد منهم يحاسب نفسه إذا قال: هذا يوم حار أو يوم بارد أو يوم عاصف أو يوم مغبر.
حتى قال بعضهم: والله ما تكلمت بكلمة إلا وأنا أَخْطِمُها وأزُمُّها.
وقال الآخر: ما تكلمتُ بكلمة ولا فعلت فعلاً إلا أَعددت لذلك جوابا بين يديّ اللهِ تعالى.
أمَّا الصحابةُ الكرام فكانوا أشدَّ من ذلك، فهذا صدِّيق الأمة أبو بكر يقول وهو يمسك لسانه: هذا أوردني الموارد!
بل كانوا يرون حفظَ اللسان من جميل الأدب وأحسن العمل.
جاء عن قُسِّ بنِ سَاعِدَة وهو خطيب العرب أنه اجتمع ذاتَ يوم وهو وأكثمُ بن صَيفي حكيمِ العرب فقال أحدهما للآخر: كم وجدتَ في ابنِ آدم من عُيوب؟ قال: هي أكثر من أن تُحصى، وقد وَجَدتُ خَصْلةً إذا استعملها سترت عيوبَه... وهي حفظ اللسان.
وللهِ ما قال الشاعر:
احْفظْ لسانَك لا تَقولُ فَتُبتلى
إنَّ البلاءَ مُوكَّلٌ بالمنطق
يحاسبون أنفسهم على مثقال الذرة، ويَعُدُّون حركاتهم ويراقبون سكناتهم فكانوا في غاية الحرص، ممتثلين القرآن الكريم ولزموا هديَ نبيهم المقتفى الذي قال: (مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ) أخرجه البخاري.
وقال حين سُئل عن أكثر ما يُدخل الناسَ النارَ؟ (قال: الفم والفرج) أخرجه الترمذي: وقال: حديث صحيح غريب. وحسن إسناده الألباني.
وحين سأله معاذ رضي الله عنه عن العمل الذي يدخله الجنة ويباعده عن النار؟ فأخبره برأس الأمرِ وعَمُودِه وذِروةِ سَنَامه، ثم قال: (إَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَالَ: فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ فَقَالَ: «اكْفُفْ عليك هذا» ، فقلت: يا رسول اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ قَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ قَالَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ) أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وصححه الألباني.
وكان السلفُ يقولون: "كَلَامُ ابْنِ آدم كُلُّه عَلَيْهِ لَا لَهُ إِلَّا مَا كَانَ من أَمر بِمَعْرُوف أَو نهي عَن مُنكر أَو ذكرَ الله".
وفي الحديث عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا، -تَعْنِي قَصِيرَةً- فَقَالَ: (لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ)" أي: خالطتة مخالطةً يتغير بها طعمُه وريحه لشدة نَتنها وقبحها. أخرجه أبو داود وصححه الألباني.
أيها المسلمون: إن مزالق اللسان ليست في الغيبة فقط، وإذا أردت أن تعرف ذلك فانظر ما جاء عن رسول الله لما قال رجل: "واللهِ لا يغفر الله لفلان"، فقال الله عز وجل: (من ذا الذي يتألى عليَّ أني لا أغفر لفلان؟ قد غفرتُ له وأَحْبَطتُ عملّك) أخرجه مسلم.
قال ابنُ القيم: "ومن العجب أنّ الإنسان يهون عليه التحفظ والاحترازُ من أكل الحرام والظلمِ والزنا والسرقةِ وشربِ الخمر، ومن النظرِ المحرّم وغيرِ ذلك، ويصعبُ عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى ترى الرجلَ يشار إليه بالدين والزهد والعبادة وهو يتكلّم بالكلمات من سخط الله، لا يُلقي لها بالًا، يزِلّ بالكلمة الواحدة منها أبعدَ مما بين المشرق والمغرب، وكم ترى من رجل متورعِّ عن الفواحش والظلم، ولسانُه يَفْري في أعراض الأحياء والأموات، ولا يبالي ما يقول".
فتأمل يا رعاك الله في هذا العابد الذي عبد اللهَ ما شاء أن يعبدَه وبكلمة واحدة أحبطت عمله كلَّه، فماذا عسى أحدنا أن يقول عن نفسه، ونحن نتهاون في كلامٍ ونحسبُه هيناً وهو عند الله عظيم!
وفي حديثٍ عظيم رواه بِلَالُ بْنُ الْحَارِثِ الْمُزَنِيُّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، يَكْتُبُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا عَلَيْهِ سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " قَالَ: فَكَانَ عَلْقَمَةُ أحد رواة الحديث يَقُولُ: " كَمْ مِنْ كَلَامٍ قَدْ مَنَعَنِيهِ حَدِيثُ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ ".
فانظر رحمك الله إلى هذا الوعيد الشديد، وانظر إلى أثر هذا الحديث على من رواه وأثر فيه حتى أنه منع نفسه من كثير من الكلام خشية أن يقع في الإثم.
أيها المسلمون: قد يصعب على النفس أن تلزمها الصمت، أو أن تُمسك بزمام لسانها وهي ترى وتشاهد من يتحدثون بملء أفواههم، وفي المجالس يحلو الحديث، لكنه إذا أدرك ما للصمت من عواقبَ حميدةٍ سَهُل عليه أن يُمسكَ لسانَه. بل إن الصمت أَرقى وسيلةٍ وأفضلُ طريقةٍ للرد على كثير من الكلام، ولن تُعاقبَ متبجحاً فجَّاً سيئاُ بمثل السكوت.
إذا سَبّني نَذْلٌ تَزَايدتُ رِفعةً
و ما العَيبُ إلا أَنْ أكونَ مُسَابُبه
وفي الحديث: (مَن صَمَتَ نجا) أخرجه أحمد والترمذي، وصححه الألباني.
وقال عمرو بن العاص: "الكلام كالدواء إنْ أقْلَلْتَ منه نَفَع، وإنْ أَكثرت منه قتل".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله لي ولكم من الزلل والخطأ فاستغفروه إنه غفور رحيم.
الحمد الله الذي أوضح لنا السبيل، وحَفظ علينا كتابَه وسننَ رسوله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
ثم أما بعد: اعلموا أيها المسلمون أن حفظ اللسان بأنْ لا تَخرجَ من فيك لفظةُ ضائعةُ، بل لا يتكلمُ المسلم إلا فيما يرجو فيه الربحَ والزيادةَ في دِينه، فإذا أَراد أنْ يتكلم نَظَر: هل فيها ربحٌ وفائدةٌ أم لا؟ فإن لم يكن فيها رِبح فالسلامة في الصمت.
إنَّ للسَّان لَدَغاتٌ وله فَلَتَاتٌ تُعبر عن مكنون قلب صاحبه، وكما قيل: "القلوبُ كالقدور تَغْلي بما فيها وألسنتُها مَغاريفُها"، فأما المسلم الأَريبُ الذي اقْتَفَى القرآنَ والسنة فإنه: يأخذُ من الكلام أحسنَه ومن الحديث أَخْصَره، ومن العبارات أجَملَها وأَهْذَبها حتى تَخْرجَ كلمةَ طيبة، ورُبَّ كلمةٍ قالت لصاحبها دعني، وخيرُ الكلام ما قلَّ ودَلَّ ولم يَطُلْ فيُمل، والكلمة الطيبة صدقة.
ما أكثر الذين يتناولون أَعراض الناس وينهشون فيها ويتساهلون في الحديث عن الآخرين وعن عيوبهم وهيئاتهم وكلامهم، وربما أدى بهم الاستخفافُ بما حرَّم اللهُ أنْ يفتعلوا لهم مَعَايبَ ويَصنعوا لهم أخطاء (بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ) أخرجه مسلم.
ما أكثر الذين يتحدثون في أعراض العلماء والولاة والمسؤولين وكأنهم سيُصلحون الأرض ومَن عليها، أو كأن الله سائلُهم عن غيرهم لا عن أنفسهم!
ويأتي السؤال: لماذا هذا التساهل في أعراض الآخرين؟
ينبغي أن يُعلم أن هذا الكلام لا يَصدرُ إلا من نفسٍ مريضةٍ ناقصةٍ تريدُ أنْ تُكمل نَقْصَها على حساب الآخرين، وبعضُ الناسِ يَحْمِلُه على ذلك محبةُ الاستئثار بالحديث في المجالس ومحاولةَ لفت الأنظار إليه، فيتجاسر على أعراض الآخرين دون خجل أو حياء من الله.
وبعضُهم يتجرأ على ذلك تَشفياً من غيره وحَطَّاً من قَدْرِه وغَيرتَه منه فينتقدُه ويذمُّه باسْم النقد الهادفِ وبيان الحال، وما ذلك أرادَ، واللهُ يعلم سِره ونجواه.
يا أَخْ الإسلام: حين تجرح شخصاً أو تذمه، أو تنتقصه أو تزدريه فلا تظنَّ أن الأمر قد انتهى في ذلك المجلس الذي حَضرته! إن مِن ورائِكَ محكمة في الآخرة، والقاضي فيها هو رب العالمين الذي يعلم خبايا الصدور ومنطوقَ السطور القائل: (ستُكتب شهادتهم ويُسألون).
إن من مقتضيات الديانة ومن حقوق الإخوة أن تدافع عن عرض أخيك وتصون كرامته، والنصح لهذا المتقول أن يتقي الله، وبهذا تُصان الأعراض ونرتقي بمجالسنا، ونسمو بأحاديثنا، ويتلقن أجيالنُا آداب المجالس.
اللهم احفظ ألسنتنا عن الحرام، وصُنها عن السيئ من الكلام، واجعلها شاهدة لنا لا علينا.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الرضى والغضب، ونسألك حبك وحب العمل الصالح الذي يقربنا إلى حبك.
اللهم وفقنا لتقواك واجعلنا نخشاك كأنا نراك.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئنا سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين.
المرفقات
1747792374_حفظ اللفظات.pdf
1747792437_حفظ اللفظات.docx