حقوق الوالدين
عبدالرحمن سليمان المصري
حقوق الوالدين
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أمر بالبرِّ وأداء الحقوق ، ونهى عن الشرك والفسوق والعقوق ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا ، أما بعد أوصيكم ونفسي
بتقوى الله تعالى فهي وصية الله للأولين والآخرين قال تعالى ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾
عباد الله : بر الوالدين من أعظم الحقوق وأوجبها ، وأجل القرب وأحبها إلى الله تعالى ، ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ الإسراء :22 ، قرن الله شكرهما بشكره ﴿ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ لقمان : 14 ،
وربط رضاهما برضاه، وسخطهما بسخطه ، قال صلى الله عليه وسلم:" رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدِ ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ " رواه الترمذي وصححه الألباني.
بر الوالدين من أحب الأعمال إلى الله تعالى ، مقدم على الجهاد ، ذِروة سَنام الإسلام ، وقد أَقْبَلَ رَجُلٌ إِلَى نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ ، أَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنَ اللهِ، قَالَ: «فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ» ، قَالَ: نَعَمْ ،
بَلْ كِلَاهُمَا ، قَالَ: «فَتَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنَ اللهِ » قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا " رواه مسلم.
وسَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم ا فَقَالَ: إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَغْزُوَ الرُّومَ ، وَإِنَّ أَبَوَايَ يَمْنَعَانِي، قَالَ: «أَطِعْ أَبَوَيْكَ ، فَإِنَّ الرُّومَ سَتَجِدُ مَنْ يَغْزُوهَا غَيْرَكَ» رواه أحمد بسند صحيح.
عباد الله : بر الوالدين من أسباب رفع البلاء وإجابة الدعاء، كما في قصة أصحاب الغار ، وهو سبب لتكفير الذنوب والسيئات ، قال رجلٌ ، يا رسول الله : إِنِّي أَذْنَبْتُ ذَنْبًا كَبِيرًا، فَهَلْ لِي تَوْبَةٌ، فَقَالَ لَهُ " أَلَكَ وَالِدَانِ؟ " قَالَ: لَا، قَالَ: " فَلَكَ
خَالَةٌ؟ "، قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: " فَبِرَّهَا إِذًا "رواه أحمد بسند صحيح.
وهو سبب لزيادة العمر ، والبسط في الرزق ، قال صلى الله عليه وسلم :"مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ، وَأَنْ يُزَادَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، فَلْيَبَرَّ وَالِدَيْهِ ، وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ "رواه أحمد بسند صحيح.
عباد الله : وقد أوجب الله تعالى الإحسان للوالدين ، ولو كانا كافرين ، قال تعالى ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ لقمان : 14
عبادَ اللهِ: بِرُّ الوالدينِ يكون بطاعتهما بالمعروف ، والرفق بهما، والإحسان إليهما، وإدخال السرور عليهما ، "ارجع إليهما ، فأضحكهما كما أبكيتهما "، ويكون بحُسن المصاحبة، وجميل المعاملة، وطيب الحديث ، فيتخيَّر لهم من الحديث
أعذبه، ومن الخلُق أطيبه، ومن الأدب أرفعه ، فلهم الحق الأعلى والنصيب الأوفى ، " مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ؟ قَالَ: «أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أَبُوكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ " رواه مسلم.
عباد الله : إن تنافس الأبناء والبنات على هذا الأجر العظيم ، والمسابقة في خدمة الوالدين ، خاصة في حال الكبر ، وضعف القوة ، وقلة الحيلة ، من خلال رعايتهم، وتفقد حاجاتهم ، والعناية بصحتهم ، ومتابعة تناولهم للأدوية ،
ومرافقتهم عند زيارة الطبيب ، هو من مظاهر البرِّ في المجتمع المسلم، ﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي
صَغِيرًا ﴾ الإسراء : 14
عباد الله : وإذا كان بر الوالدين في حياتهما ، قد جمع من الخير أكمله، ومن الإحسان أجمله، فإن الاستمرار على ذلك بعد وفاتهما أكمل وأجمل ، فهو استمرارا للوفاء ؛ وذلك بالإكثار من الدعاء لهما والاستغفار لهما ، والصدقة عنهما،
وإنفاذ وصيتهما ، وأداء ديْنهما ، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما ، وإكرام صديقهما
﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ، وسلم تسليما كثيرا ، أما بعد :
عباد الله: برُّ الوالدين دعا إليه الأنبياء عليهم السلام ، وتخلق به الصالحون الأتقياء ، وهو من شيم الكرام ، ودليل الفضل والكمال ، وهو من أسباب دخول الجنان ، فالوالد ، قال عنه صلى الله عليه وسلم : " أَوْسَطُ أَبْوَابِ الجَنَّةِ ، فَإِنْ شِئْتَ
فَأَضِعْ ذَلِكَ البَابَ أَوْ احْفَظْهُ " رواه الترمذي وصححه ، وقال عن الوالدة "الزمها ، فإن الجنة تحت رجليها " رواه النسائي وحسنه الألباني .
عباد الله: وكما أن الفضل الكبير ، والأجر العظيم في بر الوالدين ، فقد جاء الوعيد الشديد، والخسران المبين على عقوقهما ، فالعقوق من كبائر الذنوب ، ومستحق للعنة الله وسخطه ، وموجب لتعجيل العقوبة ، والحرمان من دخول الجنة ،
قال صلى الله عليه وسلم : "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، ثلاثا، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وجلس وكان متكئا، فقال ألا وقول الزور قال: فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت " رواه البخاري ، فالعقوق قرين
الشرك ، كما أن البر قرين التوحيد .
وقال صلى الله عليه وسلم : " اثْنانِ يُعَجِّلُهُما الله فِي الدُّنْيا: البَغْيُ وعُقُوقُ الوالدين " صححه الألباني في صحيح الجامع .
وقال صلى الله عليه وسلم : " رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ»، قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ:" مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ، أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ " رواه مسلم.
عباد الله : إن من صور العقوق ؛ عدم طاعة الوالدين ، والغلظة في تعاملهما ، والعُبُوسُ في وجههما ، وحِدَّةِ النظر إليهما ، ورفع الصوت عليهما ، وإدخال الحزن عليهما بالقول والفعل، وترك الإنفاق عليهما ، وتلويث سمعتهما ، وعدم
الاكتراث بوجوده معهما ، والتسبب بسبهما ، وإيثار الزوجة والأبناء والأصدقاء عليهما .
عباد الله: ليتذكر المؤمن الجميل السابق ، والإحسان المتواصل من الوالدين ، فهما سبب الوجود ، وبرهما من كمال الإيمان ، وحسن الإسلام ، ومن أعظم الأمور المقربة إلى الملك العلَّام ، فالبرُّ وفاءٌ وقربة ، وسبب للسعادة في الحال
والمآل ، ونجاة من المخاوف والمهالك ، وبابٌ من أبواب الجنة، قال تعالى: ﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴾ ، اللهم وفقنا لبر والدينا أحياء وأمواتا ، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين .
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه ، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
المرفقات
1755138394_2بر الوالدين خطبة جمعة.docx
1755138395_2بر الوالدين خطبة جمعة.pdf