حكم الاستعاذة عند الاستشهاد بآية أثناء الخطب والمواعظ والحديث ؟ محمد الطاسان
الفريق العلمي
الحمدُ لله ربِّ العالمين ، والصّلاة والسّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، نبيّنا محمّدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين ، أمّا بعد :
فكثيراً ما نسمعُ بعض الخطباء ، والوعّاظ ، والمتحدّثين ، وغيرهم يذكرون الاستعاذة قبل استشهادهم بآية من كتاب الله أثناء حديثهم ، وخطبهم خصوصاً عندما تكون الآية ، أو الآيات في آخر الحديث ويريد المتحدث أو الخطيب أن يختم بها .
وقد كنتُ أتساءل : هل لهذا العمل مستند ، وهل لذكر الاستعاذة وجهٌ هاهنا ؟
فوفقني الله تعالى للوقوف على فتيا في ورقتين لأحد العلماء المشهورين في هذه المسألة فقمت بتحقيقها وتخريج أحاديثها ووضع دراسة لها . وسوف أضع الرسالة من غير التخريج وقسماً من الدراسة هنا لأستفيد أولاً ويستفيد غيري ثانياً ، وأتمنى قبل وضعها أن يذكر الأخوة آرائهم بادي الرأي من غير كثير بحث من باب التشويق والإفادة فقد يذكر الأخوة ما لم يخطر ببالي .
وقبل الدخول في المسألة أذكر تحرير محل النزاع فأقول : لا يخلو من أراد أين يقرأ شيئاً من القرآن من ثلاثة أحوال :
الحالة الأولى : أن يكون ذلك لقصد التلاوة فهنا تشرع الاستعاذة . وهذه الحالة ليست محل البحث .
الحالة الثانية : أن يكون ذلك في قراءة الفاتحة في الصلاة ، فإن كان في أول ركعة فالاستعاذة مستحبة عند الجميع ، ويروى عن مالك أنه لا يستعيذ في المكتوبة ، وإن كان ذلك في الركعات الثانية وما بعدها ففيه خلاف ، وهذه الحالة ليست محل البحث .
الحالة الثالثة : أن لا يكون ذلك للتلاوة ، ولا في الصلاة وإنما استشهاداً في حديث ، أو موعظة ، أو خطبة ، أو سؤال عن آية ، ونحو ذلك فهذه الحالة هي محل البحث.
أما الكلام عن المسألة فالظاهر عموم قوله تعالى : ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ لكن جاء في كثير من الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة الاستشهاد بآي من القرآن أثناء الحديث والكلام دونما ذكر للاستعاذة ، وفعل النبي - ^ - من مخصصات العموم عند جمهور الأصوليين - ولم يذكر الخلاف إلا عن أفراد منهم - كما في المراجع التالية :
الإشارة في معرفة الأصول لأبي الوليد الباجي : ص 202 ، والمستصفى للغزالي : ( 2 / 106 - 109 ) ، والمحصول للرازي : ( 3 / 81 ) ، والإحكام للآمدي : ( 2 / 354 - 356 ) ، وفواتح الرحموت : ( 1 / 354 ) ، العدة لأبي يعلى : ( 2 / 573 - 578 ) ، الواضح لأبي الوفاء : ( 3 / 394 - 396 ) ، وروضة الناظر : ( 2 / 732 ) ، و المسودة : ( 1 / 295 ) ، وشرح الروضة : ( 2 / 569 ) ، وشرح الكوكب المنير : ( 3 / 371 - 373 ) ، وإرشاد الفحول : ( 2 / 689 ) .
ومن نظر نظرةً عابرة في كتاب التفسير من دواوين السنة كالصحيحين وجامع الترمذي وسنن النسائي الكبرى ومجمع الزوائد والمطالب العالية وغيرها ، لرأى من الأحاديث والآثار عدداً كثيراً ، وسأقتصر هنا على خمسة أحاديث ، وخمسة آثار عن الصحابة ، مما أخرجه الشيخان ، أو أحدهما ، من سورة الفاتحة و البقرة فقط :
أولاً : الأحاديث النبوية :
1 - ما أخرجه البخاري رقم : [ 4703 ] عن أبي سعيد بن المعلى قال : كنت أصلي في المسجد ، فدعاني رسول الله – – فلم أجبه ، فقلت : يا رسول الله ، إني كنت أصلي ، فقال : (( ألم يقل الله : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ )) ، ثم قال : (( ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد )) فذكّرته فقال : (( الحمد لله رب العالمين )) هي السبع المثاني ، والقرآن العظيم الذي أوتيته .
2 - ما أخرجه البخاري رقم : [ 4479 ] عن أبي هريرة ، عن النبي قال: (( قيل لبني إسرائيل : ﴿ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّةٌ ﴾ . فدخلوا يزحفون على أستاههم ، فبدلوا ، وقالوا : حطة ، حبة في شعرة )) .
3 - ما أخرجه البخاري رقم : [ 4485 ] عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله - - : (( لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا : ﴿ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا ﴾ الآية ) .
4 - ما أخرجه البخاري رقم : [ 4487 ] عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله : (( يدعى نوح يوم القيامة ، فيقول : لبيك وسعديك يا رب ، فيقول : هل بلّغت ؟ فيقول : نعم ، فيقال لأمته : هل بلّغكم ؟ فيقولون : ما أتانا من نذير ، فيقول : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد وأمته ، فيشهدون أنه قد بلغ : ﴿ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ . فذلك قوله جل ذكره: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ )) . والوسط : العدل .
5 - ما أخرجه البخاري رقم : [ 4537 ] عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : (( نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال : ﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ )) .
ثانياً : الآثار عن الصحابة :
1 - ما أخرجه البخاري رقم : [ 4481 ] عن ابن عباسقال: قال عمر : أقرؤنا أُبَيّ ، وأقضانا عليٌّ ، وإنا لندع من قول أُبَي ، وذاك أن أُبيّاً يقول : لا أدع شيئاً سمعته من رسول الله ، وقد قال الله تعالى :
﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا ﴾ .
2 - ما أخرجه البخاري عن أنس قال: قال عمر : وافقت الله في ثلاث ، أو وافقني ربي في ثلاث ، قلت : يا رسول الله ! لَوِ اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، وقلت : يا رسول الله ! يدخل عليك البَرُّ والفاجر ، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ، فأنزل الله آية الحجاب ، قال : وبلغني معاتبة النبي بعض نسائه ، فدخلت عليهن ، قلت : إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيراً منكن ، حتى أتيت إحدى نسائه ، قالت : يا عمر ! أما في رسول الله ما يعظ نساءه ، حتى تعظهن أنت ؟ فأنزل الله : ﴿ عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ ﴾ . الآية .
3 - ما أخرجه البخاري رقم : [ 4486 ] عن البراء : أن رسول الله صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً ، أو سبعة عشر شهراً ، وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبَلَ البيت ، وأنه صلى ، أو صلاها ، صلاة العصر وصلى معه قوم ، فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون ، قال : أشهد بالله ، لقد صليت مع النبي قِبَلَ مكة ، فداروا كما هم قِبَل البيت ، وكان الذي مات على القبلة قبل أن تُحَوّل قِبَلَ البيت رجال قتلوا ، لم ندر ما نقول فيهم ، فأنزل الله : ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ .
4 - ما أخرجه البخاري رقم : [ 4495 ] عن هشام بن عروة ، عن أبيه أنه قال : قلت لعائشة زوج النبي و، وأنا يومئذ حديث السن : أرأيت قول الله
: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ . فما أرى على أحد شيئاً أن لا يطوف بهما ؟ فقالت عائشة : كلا ، لو كانت كما تقول ، كانت : فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ، إنما أُنزلت هذه الآية في الأنصار ، كانوا يهلون لمناة ، وكانت مناة حذو قديد ، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة ، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله عن ذلك ، فأنزل الله : ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ .
5 - ما أخرجه البخاري رقم : [ 4496 ] عن عاصم بن سليمان قال : سألت أنس بن مالك عن الصفا والمروة ؟ فقال : كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية ، فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما ، فأنزل الله تعالى : ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ .
( القذاذة في تحقيق محل الاستعاذة )
الحمد لله ، وسلام على عباده الذين اصطفى .
وقع السؤال عما يقع من الناس كثيراً إذا أرادوا إيراد آية قالوا : قال الله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ويذكرون الآية ، هل ( بعد ) هذه جائزة قبل الاستعاذة أم لا ؟ وهل أصاب في ذلك أو أخطأ ؟
فأقول : الذي ظهر لي من حيث النقل ، والاستدلال أن الصواب أن يقول : قال الله تعالى ويذكر الآية ، ولا يذكر الاستعاذة ، فهذا هو الثابت في الأحاديث والآثار من فعل النبي – – والصحابة ، والتابعين فمن بعدهم .
1 / أخرج أحمد ، والبخاري ، ومسلم ، والنسائي ، عن أنس – – قال : قال أبو طلحة : " يا رسول الله ! إن الله يقول : ﴿ َلن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ وإن أحب أموالي إليَّ بيرحاء ... )) الحديث .
2 / وأخرج عبد بن حميد ، والبزار عن حمزة بن عبد الله بن عمر قال : قال عبد الله بن عمر - -: " حضرتني هذه الآية : ﴿ لن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ فذكرت ما أعطاني الله فلم أجد أحب إلي من جارية لي رومية فأعتقتها ".
3 / وأخرج ابن المنذر عن نافع قال : " كان ابن عمر- - يشتري السكر فيتصدق به فيقول له لو اشتريت لهم بثمنه طعاماً ما كان أنفع لهم ؟
فيقول إني أعرف الذي تقولون ، ولكني سمعت الله يقول : ﴿ لن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ وإن ابن عمر يحب السكر ".
4 / وأخرج الترمذي عن عليٍ - - قال : قال رسول الله - - :
من ملك زاداً ، أو راحلة ولم يحج بيت الله فلا يضره مات يهودياً ، أو نصرانياً ، وذلك بأن الله قال : ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴾.
5 / وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس رفع الحديث إلى النبي - - إن الله قضى على نفسه أنه من آمن به هداه ، ومن وثق به أنجاه ، قال الربيع : وتصديق ذلك في كتاب الله : وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ .
6 / وأخرج ابن أبي حاتم عن سماك ابن الوليد أنه سأل ابن عباس- - ما تقول في سلطان علينا يظلموننا ويعتدون علينا في صدقاتنا ، أفلا نمنعهم ؟
قال : لا ، الجماعة الجماعة ، إنما هلكت الأمم الخالية بتفرقها ، أما سمعت قول الله : ﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ ﴾.
7 / وأخرج أبو يعلى عن أنس – – ، عن النبي – – قال : (( لا تستضيئوا بنار المشركين )) ، قال الحسن : وتصديق ذلك في كتاب الله : ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ ﴾.
8 / وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عمرو -

والأحاديث في ذلك أكثر من أن تحصر فالصواب الاقتصار على إيراد الآية من غير استعاذة اتباعاً للوارد في ذلك فإن الباب باب
( اتباع ) ، والاستعاذة المأمور بها في قوله تعالى : ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ ..﴾ إنما هي عند قراءة القرآن للتلاوة ، أما إيراد آية ما منه للاحتجاج ، والاستدلال على حكم فلا .
وأيضاً فإن قوله : ( قال الله تعالى بعد أعوذ بالله ) تركيب لا معنى له ، وليس فيه متعلق للظرف وإن قدر تعليقه بقال ففيه الفساد الآتي ، وإن قال : ( قال الله أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) وذكر الآية ففيه من الفساد جعل الاستعاذة مقولاً لله وليست من قوله ، وإن قدم الاستعاذة ثم عقبها بقوله : قال الله وذكر الآية فهو أنسب من الصورتين غير أنه خلاف الوارد ، وخلاف المعهود من وصل آخر الاستعاذة بأول المقروء من غير تخلل فاصل ، ولا شك أن الفرق بين قراءة القرآن للتلاوة وبين إيراد آية منه للاحتجاج جليٌ واضح . والله أعلم.
أ.هـ كلام السيوطي .
وهذا تلخيص أحوال من يذكر الاستعاذة عند الاستشهاد بآية من كتاب الله :
لا يخلو من أراد أن يذكر الاستعاذة قبل الاستشهاد بآية من كتاب الله في حديث ، أو موعظة ، أو خطبة من ثلاثة أحوال :
الحالة الأولى : أن يقول هكذا : قال الله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .
الحالة الثانية : أن يقول هكذا : قال الله تعالى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .
الحالة الثالثة : أن يقول هكذا : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم يذكر الآية .
وهذه الحالات بعضها أسوأ من بعض كما نبه على هذا السيوطي في الرسالة السابقة .