خبيئة العمل الصالح 4/11/1446
خالد الشايع
الخطبة الأولى:
( خبيئة العمل الصالح )
أما بعد فيا أيها الناس : لقد شرع الله لنا دينا قيما ملة أبينا إبراهيم عليه السلام كما قال سبحانه ( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ )
وبين لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم شرائع الدين ، وأمرنا بالإخلاص لله في العمل ، فلا نشرك بالله أحدا ، وحذرنا من الرياء ، وهو العمل لغير وجه الله ، فمن عمل عملا لغير الله فعمله مردود عليه ، أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم ( قال اللهُ تعالَى : أنا أغْنَى الشُّركاءِ عنِ الشِّركِ ، مَنْ عمِلَ عملًا أشركَ فيه معِيَ غيري تركتُهُ وشِركَهُ )
ولما كان الأمر بهذه الخطورة ، وجب على العبد أن يخلص في عمله حتى لا يحبط ، فقد يقع العبد في شيء من محبطات الأعمال وهو لا يشعر ، ولذا استحب أهل العلم أن يخفي العبد عمله عن الناس ، فلا يخبر به إلا لمصلحة ، كما قال سبحانه ( إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ )
ولقد حرص السلف رحمهم الله على ذلك الأمر ، حتى كان لهم خبيئة عمل ، لا يعلم بها أحد من الخلق ، حتى المقربين من الناس ، كالزوجة والوالدين ، خالصة لله وحده لا يستطيع الشيطان أن يصل إليها وهي في الخفاء ، ولهذا تجد الشيطان يحرص على أن تتكلم بها أو تخبر بها ، لينقلها من السر للعلانية ، وبهدها يستطيع أن يخرجها من العلن إلى الرياء .
عباد الله : أخفوا أعمالكم الصالحة ، كما تخفون سيئاتكم ، اخزنوها في حرز من الشيطان ، فهو حريص على أن لا تعملوا صالحا ، فإن عملتم الصالحات ، شد من قوته ليحبط ذلك العمل .
الخبيئة الصالحة : هي عبادة السرّ والخفاء؛ أي التي يؤدّيها العبد في خلوته بينه وبين ربّه جلّ وعلا، وهي زادٌ للإنسان في آخرته،
ولا تكون إلّا من العبد الذي فاض حبّ الله -عزّ وجلّ- في قلبه، حتى وصل إلى مرحلة إنكار نفسه وإخفاء عمله،
ويبتغي العبد من الخبيئة التجرّد إلى الله سبحانه؛ ليقبل عمله، وتعدّ دليلاً على صدق العبد وإخلاصه لله عزّ وجلّ،
وفيها علامةٌ على محبّة الله تعالى، ولها أثرٌ بالغٌ على الإيمان به؛ إذ إنّ المنافقين لا يستطيعون القيام بها، ولا يتقنها إلّا مؤمنٌ صادقٌ،
وللخبيئة جملةٌ من الفضائل والثمرات؛ فهي سببٌ في إعانة العبد على الثبات في المحن والشدائد،
والبعد عن الرياء والسمعة، كما أنّها تكون أكثر أجراً وأعظم أثراً، وهي رصيدٌ للعبد في وقت الأزمات، ووسيلةٌ لطهارة القلب وصلاحه.
أيها الأحبة : إذا قرأتم سيرة العظماء من هذه الأمة تجدون لهم خبيئة عمل لم تعلم إلا بعد موتهم ، نمر على بعضها لنقتدي بهم .
فمن ذلك قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة ، نجاهم الله بخبيئة عملهم ، كما مرت قصتهم علينا في الجمعة قبل الماضية .
ومن ذلك قصة زين العابدين علي بن الحسين ، ذكر الذهبي رحمه الله أنه كان يبخل ، فلما مات وجدو في ظهره أثناء الغسل آثار حمل أكياس الدقيق ، وبعد فترة افتقر مائة بيت من بيوت المدينة كان يقوتهم بالليل وهم لا يشعرون يحمل لبيوتهم أكياس الدقيق وهو متلثم ويضعها عند بابهم وينصرف ، فلما مات انقطعت فعرفوا أنها منه .
قال الحسن البصري، في وصفه لمَن أدركهم من الصحابة والتابعين: "ولقد أدركنا أقوامًا ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر، فيكون علانية أبدًا".
وهذا "ابن المبارك" رحمه الله يقول: "ما رأيت أحدًا ارتفع مثل مالك بن أنس"؛ أي: لما له من المحبة والهيبة في قلوب الناس، ليس له كثير صلاة ولا صيام، إلا أن تكون السريرة ، يعني خبيئة العمل .
و قال أبو حازم: "اكتم حسناتك أشد مما تكتم سيئاتك".
ويقول وهب بن منبه -رحمه الله تعالى-: "يَا بُنَيَّ، أَخْلِصْ طَاعَةَ اللهِ بِسَرِيرَةٍ نَاصِحَةٍ يُصَدِّقُ اللهُ فِيهَا فِعْلَكَ فِي الْعَلَانِيَةِ، فَإِنَّ مَنْ فَعَلَ خَيْرًا ثُمَّ أَسَرّهُ إلى اللهِ فَقَدْ أَصَابَ مَوْضِعَهُ، وَأَبْلَغَهُ قَرَارَهُ، وَإِنَّ مَنْ أَسَرَّ عَمَلًا صَالِحًا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا اللهُ فَقَدِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ حَسْبُهُ، وَاسْتَوْدَعَهُ حَفِيظًا لَا يُضَيِّعُ أَجْرَهُ، فَلَا تَخَافَنَّ عَلَى عَمَلٍ".
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "الذنوب الخفيات أسباب الانتكاسات، وعبادة الخفاء أصل الثبات".
اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل ، أقول قولي هذا ....
الخطبة الثانية
أما بعد فيا أيها الناس : ومن خبايا العمل الصالح البكاء من خشية الله خاليا ، فمن الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه .
ومنها الصدقة ، ففي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، رجل تصدق بصدقة ، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه .
فخفايا العمل الصالح كثيرة ، ولا يشترط أن تكون كبيرة القدر ، المهم أن تكون لله وفي الخفاء ، وتكتمها ، فالبعض يعمل السر في الخفاء ثم لا يلبث أن يحدث به الناس ، والأشر من ذلك تصوير العمل الصالح ، وبثه عبر قنوات التواصل ، فأين الإخلاص ، فلقد قتلت خبايا الأعمال الصالحة على عتبات البثوث والانتر نت والله المستعان .
ومن أمثلة الخبيئة ، صلاة النافلة في جوف الليل، قال تعالى: ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 16، 17].
ومنها قراءة شيء من القرآن سرا ففي صحيح مسلم من حديث أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه...)).
ومنها الصدقة الخفية التي لا يعلم بها إلا الله، قال تعالى: ﴿ إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [البقرة: 271]،
ومنها صيام يوم لله ، جاء في ترجمة داود بن أبي هند رحمه الله وكان من التابعين ، أنه صام أربعين سنة لا يعلم به أهله ، يعمل بزازا ، فيذهب في الصباح بفطوره ويتصدق به في الطريق وإذا رجع تعشى مع أهله ، أين هذا ممن إذا صام علم به أهل المشرق والمغرب .
ومنها الذكر والدعاء: وهذه العبادة سهلة وبسيطة، تستطيع أن تجعل لك وردا من الأذكار بينك وبين الله ، ولا يعلم بك أحد
ومنها عيادة مريض ، و إذا استطعت أن تقوم بقضاء دين عن مدينين أو مساعدة أيتام.
ومنها العفة عن الحرام ، فهي عبادة تكون بين العبد وربه وهي من خبيئات الأعمال .
والخلاصة أكثر من عمل السر فهو خبيئة عمل ، قد تحتاجها في الدينا أو الآخرة .
اللهم أصلح سرائرنا ، وارزقنا الإخلاص في القول والعمل .
المرفقات
1746112017_خبيئة العمل الصالح.docx
1746112018_خبيئة العمل الصالح.pdf