خطبة : ( الرؤى والأحلام بين الصدق والأوهام )
عبدالله البصري
الرؤى والأحلام بين الصدق والأوهام 24/ 7/ 1446
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم أَيُّهَا النَّاسُ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، النَّفسُ البَشَرِيَّةُ مَخلُوقٌ غَائِبٌ ، لَهَا عَجَائِبُ وَغَرَائِبُ ، وَلَهَا خَبَايَا وَأَسرَارٌ ، وَتَدُورُ بِهَا خَوَاطِرُ مُتَنَوِّعَةٌ وَأَفكَارٌ ، وَوَرَاءَ هَوَاجِسِهَا أَنبَاءٌ وَأَخبَارٌ ، وَلَهَا مَعَ هَذَا إِقبَالٌ وَإِدبَارٌ ، وَأَحَادِيثُ في اليَقظَةِ قَد تَتَوَاصَلُ عَلَيهَا في اللَّيلِ مَعَ النَّهَارِ ، فَيَكُونُ لَهَا في العَالَمِ الآخَرِ إِبحَارٌ ، وَمِن ثَمَّ تَعرِضُ لِصَاحِبِهَا في مَنَامِهِ رُؤًى وَيَعِيشُ في أَحلامٍ ، وَتَقَعُ لَهُ حَوَادِثُ وَأُمُورٌ قَد تَكُونُ مِن أَثَرِ وَاقِعِهِ الَّذِي يَعِيشُهُ في يَقظَتِهِ وَيَتَرَدَّدُ في نَفسِهِ ، وَقَد تَكُونُ ضَربًا مِنَ الخَيَالاتِ وَالعَجَائِبِ الَّتي قَد تَسُرُّهُ أَو تُحزِنُهُ ، وَقَد تَكُونُ غَيرَ ذَلِكَ مِمَّا يُبَشِّرُهُ اللهُ بِهِ أَو يُنذِرُهُ ، نَعَم أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ المَرءَ في نَومِهِ يَرَى أُمُورًا وَتَعرِضُ لَهُ عَجَائِبُ ، وَيَنتَقِلُ وَهُوَ في فِرَاشِهِ إِلى عَالَمٍ آخَرَ وَحَيَاةٍ مُغَايِرَةٍ ، فَيَرَى نَفسَهُ وَهُوَ يَطِيرُ في الهَوَاءِ أَو يَغُوصُ في المَاءِ ، أَو يَرَى أَشيَاءً غَيرَ مُنتَظِمَةٍ وَلا مَعقُولَةٍ ، فَيَصحُو بَعدَ ذَلِكَ إِمَّا مُتَّسِعَ الخاطِرِ فَرِحًا مَسرُورًا ، وَإِمَّا ضَائِقَ الصَّدرِ مُتَكَدِّرًا مَرعُوبًا ، وَهَذِهِ الأُمُورُ الَّتي تَعرِضُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا في الغَالِبِ ، تُسَمَّى الرُّؤَى أَوِ الأَحلامَ ، وَقَد تُسَمَّى بِغَيرِ ذَلِكَ ، عَن عَوفِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ عَن رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " الرُّؤيا ثَلاثَةٌ : مِنهَا تَهوِيلٌ مِنَ الشَّيطَانِ لِيَحزُنَ ابنَ آدَمَ ، وَمِنهَا مَا يَهُمُّ بِهِ الرَّجُلُ في يَقَظَتِهِ فَرَآهُ في مَنَامِهِ ، وَمِنهَا جُزءٌ مِن سِتَّةٍ وَأَربَعِينَ جُزءًا مِنَ النُّبُوَّةِ " رَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ . هَذِهِ هِيَ أَنوَاعُ مَا يَرَاهُ المَرءُ في نَومِهِ ، وَلِكُلِّ نَوعٍ مِن هَذِهِ الأَنوَاعِ تَصَرُّفٌ مُنَاسِبٌ يَتَّخِذُهُ الرَّائِي تُجَاهَهُ ، فَأَمَّا الرُّؤيَا الَّتي هِيَ مِنَ اللهِ سُبحَانَهُ فَهِيَ كَمَا في الحَدِيثِ جُزءٌ مِن سِتَّةٍ وَأَربَعِينَ جُزءًا مِنَ النُّبُوَّةِ ، وَهَذِهِ إِمَّا أَن تَكُونَ بِشَارَةً وَإِمَّا أَن تَكُونَ نَذَارَةً ، وَهِيَ لا تَكَادُ تَكذِبُ وَخَاصَّةً في آخِرِ الزَّمَانِ ، وَعَلَى المَرءِ أَلاَّ يُحَاوِلَ تَفسِيرَهَا إِذَا كَانَ يَجهَلُ ، وَأَلاَّ يُبدِيَهَا وَيُظهِرَهَا إِلاَّ لِعَالِمٍ نَاصِحٍ يُفَسِّرُهَا تَفسِيرًا صَحِيحًا ، إِذْ إِنَّهَا تَقَعُ في الغَالِبِ عَلَى أَوَّلِ تَفسِيرٍ ، وَأَمَّا الرُّؤيَا الَّتي هِيَ مِن حَدِيثِ النَّفسِ ، فَلَيسَ عَلَى مَن رَآهَا شَيءٌ يَنبَغِي أَن يَتَّخِذَهُ ، بَل عَلَيهِ أَن يَتَجَاهَلَهَا وَلا يَشغَلَ بَالَهُ بِهَا ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ الَّتي هِيَ مِنَ الشَّيطَانِ ، وَهِيَ الَّتي تُفزِعُ الرَّائِيَ وَتُرَوِّعُهُ ، فَقَد وَجَّهَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مَن رَآهَا أَن يَتفُلَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ، وَأَن يَتَعَوَّذَ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ وَمِن شَرِّهَا ، ثم لا يُحَدِّثَ بِهَا أَحَدًا مِنَ النَّاسِ ، فَإِنَّهَا بِذَلِكَ لا تَضُرُّهُ ، في الصَّحِيحَينِ عَن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا اقتَرَبَ الزَّمَانُ لم تَكَد تَكذِبُ رُؤيَا المُؤمِنِ ، وَرُؤيَا المُؤمِنِ جُزءٌ مِن سِتَّةٍ وَأَربَعِينَ جُزءًا مِنَ النُّبُوَّةِ ، وَمَا كَانَ مِنَ النُّبُوَّةِ فَإِنَّهُ لا يَكذِبُ " وَعِندَ البُخَارِيِّ عَن أَبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " لم يَبقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلاَّ المُبَشِّرَاتُ " قَالُوا : وَمَا المُبَشِّرَاتُ ؟ قَالَ : " الرُّؤيَا الصَّالِحَةُ " وَزَادَ مَالِكٌ بِرِوَايَةِ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ : " يَرَاهَا الرَّجُلُ المُسلِمُ أَو تُرَى لَهُ " وَفي الصَّحِيحَينِ عَن عَبدِاللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ : كَانَ الرَّجُلُ في حَيَاةِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَى رُؤيَا قَصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ، فَتَمَنَّيتُ أَنْ أَرَى رُؤيَا فَأَقُصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ، وَكُنتُ غُلامًا شَابًّا وَكُنتُ أَنَامُ في المَسجِدِ عَلَى عَهدِ رَسُولِ اللهِ ، فَرَأَيتُ في النَّومِ كَأَنَّ مَلَكَينِ أَخَذَانِي ، فَذَهَبَا بِي إِلى النَّارِ فَإِذَا هِيَ مَطوِيَّةٌ كَطَيِّ البِئرِ ، وَإِذَا لَهَا قَرنَانِ ، وَإِذَا فِيهَا أُنَاسٌ قَد عَرَفتُهُم ، فَجَعَلتُ أَقُولُ : أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ النَّارِ . قَالَ : فَلَقِيَنَا مَلَكٌ آخَرُ فَقَالَ لي : لم تُرَعْ ، فَقَصَصتُهَا عَلَى حَفصَةَ فَقَصَّتْهَا حَفصَةُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : " نِعْمَ الرَّجُلُ عَبدُاللهِ لَو كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيلِ " فَكَانَ بَعدُ لا يَنَامُ مِنَ اللَّيلِ إِلاَّ قَلِيلاً . وَفي الصَّحِيحَينِ عَن أَبي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " الرُّؤيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللهِ ، وَالحُلْمُ مِنَ الشَّيطَانِ ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُم مَا يُحِبُّ فَلا يُحَدِّثُ بِهِ إِلاَّ مَن يُحِبُّ ، وَإِذَا رَأَى مَا يَكرَهُ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِن شَرِّهَا وَمِن شَرِّ الشَّيطَانِ ، وَلْيَتْفُلْ ثَلاثًا وَلا يُحَدِّثْ بِهَا أَحَدًا ؛ فَإِنَّهَا لَن تَضُرَّهُ " وَفي صَحِيحِ مُسلِمٍ عَن جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ : جَاءَ أَعرَابيٌّ إِلى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، رَأَيتُ في المَنَامِ كَأَنَّ رَأسِي ضُرِبَ فَتَدَحرَجَ فَاشْتَدَدْتُ عَلَى أَثَرِهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لِلأَعرَابِيِّ : " لا تُحَدِّثِ النَّاسَ بِتَلَعُّبِ الشَّيطَانِ بِكَ في مَنَامِكَ " الحَدِيثَ . أَلا فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَاصدُقُوا في حَدِيثِكُم تَصدُقْ رُؤيَاكُم ، وَاحذَرُوا مِنَ الكَذِبِ في الرُّؤَى وَادِّعَائِهَا مَهمَا يَكُنِ القَصدُ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِن أَعظَمِ الفِرَى ، قَالَ نَبِيُّكُم عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : " إِذَا اقَتَرَبَ الزَّمَانُ لم تَكَدْ رُؤيَا الرَّجُلِ المُسلِمِ تَكذِبُ ، وَأَصدَقُهُم رُؤيَا أَصدَقُهُم حَدِيثًا " رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ . وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " مَن تَحَلَّمَ بِحُلْمٍ لم يَرَهُ ، كُلِّفَ أَن يَعقِدَ بَينَ شَعِيرَتَينِ وَلَن يَفعَلَ " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " مِن أَفرَى الفِرَى أَن يُرِيَ الرَّجُلُ عَينَيهِ مَا لم تَرَيَا " رَوَاهُمَا البُخَارِيُّ .
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاعلَمُوا أَنَّهُ قَد ظَهَرَ في زَمَانِنَا وَمَا زَالَ يَظهَرُ في القَنَوَاتِ وَأَجهِزَةِ التَّوَاصُلِ أُنَاسٌ شَغَلُوا أَنفُسَهُم وَشَغَلُوا الآخَرِينَ بِالرُّؤَى ، استِقَبَالاً لَهَا وَاهتِمَامًا بِهَا ، وَتَحلِيلاً لِرُمُوزِهَا وَمُبَالَغَةً في تَفسِيرِهَا ، وَقَد يُتَجَاوَزُ أَحَدُهُم مَا يَجِبُ مِنِ اعتِقَادِ أَنَّ تَفسِيرَهُ ظَنِيٌّ وَلَيسَ قَطعِيًّا ، إِلى أَن يَدَّعِيَ صِحَّةَ تَفسِيرِهِ ، وَقَد يُبَالِغُ فَيَجزِمُ بِوُقُوعِ مَا قَالَ كَمَا هُوَ ، وَقَد يُصَادِفُ لأَحَدِهِم أَن يَقَعَ تَفسِيرُهُ مَرَّةً أَو مَرَّتَينِ كَمَا قَالَ ، فَيَغتَرُّ بِهِ العَامَّةُ ، وَخَاصَّةً النِّسَاءَ وَأَشبَاهَهُنَّ مِنَ المُتَعَلِّقِينَ بِالأَوهَامِ ، فَيَكُونُ أَولَئِكَ مُشَجِّعِينَ لِذَلِكَ المَغرُورِ ، فَيَزدَادُ ثِقَةً في نَفسِهِ وَيُعَبِّرُ وَكَأَنَّهُ عَلَى يَقِينٍ ، وَقَد يَحصُلُ مِن جَرَّاءِ ذَلِكَ مُشكِلاتٌ في الأُسَرِ أَو في المُجتَمَعِ ، فَتُوغَرُ صُدُورٌ وَتُثَارُ الشَّحنَاءُ وَالبَغضَاءُ ، وَتُزرَعُ العَدَاوَاتُ بَينَ الأَقَارِبِ وَالأَصدِقَاءِ ، وَقَد يَتَمَادَى بَعضُهُم في التَّعبِيرِ حَتى يَستَعِينَ بِالجِنِّ في ذَلِكَ ، وَبَعضُهُم يَجعَلُهُ وَسِيلَةَ تَكَسُّبٍ وَاستِغلالٍ لِلضُّعفَاءِ ، أَو لإِيقَاعِ النَّاسِ في الوَسَاوِسِ وَالأَوهَامِ وَالخَوفِ مِنَ المُستَقبَلِ ؛ وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ مَوقِفَ المُسلِمِ في الرُّؤَى يَجِبُ أَن يَكُونَ وَسَطًا ، فَلا يُعَظِّمَهَا وَيُسرِفَ في تَعبِيرِهَا وَيَبنِيَ عَلَيهَا مَوَاقِفَ وَأَحكَامًا وَتَصَرُّفَاتٍ وَرِضًا وَغَضَبًا ، وَلا يَكُونَ أَيضًا في الطَّرَفِ الآخَرِ الَّذِي لا يَعبَأُ بِالرُّؤَى وَلا يُفَرِّقُ بَينَ أَنوَاعِهَا ، وَلا يَهتَمُّ بِالسُّؤَالِ عَمَّا حَسُنَ مِنهَا ، بَل يَتَوَسَّطُ كَمَا هُوَ فِعلُ العُقَلاءِ ، مُؤمِنًا مَوقِنًا أَنَّ الرُّؤَى لَن تُغَيِّرَ مِن أَقدَارِ اللهِ شَيئًا ، وَلَن تُقَدِّمَ أَجَلاً أَو تُؤَخِّرَهُ ، أَو تَأتِيَ بِرِزقٍ أَو تَصرِفَهُ ، وَلَيسَت مِقيَاسًا لِسَعَادَةٍ أَو شَقَاءٍ ، أَو بِنَاءِ أَحكَامٍ أَو تَنَبُّؤٍ بِقَطعِيَّاتٍ في المُستَقبَلِ لا يَعلَمُهَا إِلاَّ اللهُ ، أَوِ ادِّعَاءِ فَضَائِلَ لَعَمَلٍ أَو إِحدَاثِ عِبَادَةٍ مِمَّا لم يَأذَنْ بِهِ اللهُ وَرَسُولِهِ .
المرفقات
1737660927_الرؤى والأحلام بين الصدق والأوهام.docx
1737660928_الرؤى والأحلام بين الصدق والأوهام.pdf