خطبة العيد: يوم الحقوق
د. سلطان بن حباب الجعيد
الحمدُ للهِ الذي امْتَنَّ على أُمَّةٍ محمدٍ صلّى اللهُ عليه وسلَّم بأوفى النِّعَمِ وأعظمِها؛ بأنْ هداها للإسلامِ، وبعثَ إليها خيرَ الأنامِ عليه الصلاةُ والسلام، وأنزلَ عليها القرآنَ، الذي لم يَزَلْ يتتابعُ نُزولُهُ عليهم، مُتدرِّجًا بهم في مَدارِجِ الكمالِ، حتّى استَتَمَّ نُزولُهُ، فاستَتَمَّتْ بذلك النِّعمةُ عليهم، فأنزلَ في يومِ عرفةَ في حجَّةِ الوداعِ مُمتنًّا على هذه الأُمَّةِ قولَهُ تعالى:
﴿اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتي وَرَضيتُ لَكُمُ الإِسلامَ دينًا﴾ [المائدة: ٣].
فالحمدُ للهِ على تمامِ النِّعمةِ، والحمدُ للهِ على فضلِه وامْتِنانِه، حمدًا يَليقُ بجلالِه وعظيمِ سُلطانِه.
والصلاةُ والسَّلامُ على صَفِيِّهِ وخليلِهِ، أتقى النَّاسِ وأبرِّهِم، الذي اصطفاهُ ربُّه، ليُبلِّغَ لهم هذا الدِّينَ العظيم، فلم يَزَلْ يتلقّى صنوفَ الأذى والتعنُّتَ، حتّى أظهرَ اللهُ دينَه، فدخلَ النّاسُ في دينِ اللهِ أفواجًا، فكانَ لهم داعيًا ومُبَشِّرًا ونذيرًا.
أمّا بعدُ:
اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ…
أيّها النّاسُ: وقفَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلَّم في مثلِ هذا اليومِ موقفًا عظيمًا، خَطَبَ فيهِ النّاسَ، فقرَّرَ لهم الحقوقَ، وعظَّمَ من شأنِها، وحرَّمَها.
فقال كما ورد في البخاريِّ وغيره:
(أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. قَالَ: أَلَيْسَ ذُو الحِجَّةِ؟ قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. قَالَ: أَلَيْسَ البَلْدَةَ؟ قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. قَالَ: أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ).
إنَّ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلَّم بحكمتِهِ البالغة، لا يطرُقُ في مثلِ هذا اليومِ العظيم، الذي يَجتمعُ فيه النّاسُ ليسمعوا منه؛ إلَّا موضوعًا ذا خَطَرٍ وأهمِّيَّةٍ كبيرة.
فهذا اليومُ لنا أن نُسَمِّيَهُ يومَ الحقوقِ، التي أرسى الإسلامُ قواعدَها، وفصَّلَ في أحكامِها، وقاتلَ من أجلِها، وأثَّمَ، وتوعَّدَ بالعقابِ في الدنيا والآخرةِ مَنِ انتهكَها، واستطالَ عليها، وبَخَسَ النّاسَ حقوقَهم.
فكان هذا اليومُ بعدَ هذا الكفاحِ الطويل، هو يومَ إعلانِ الحقوقِ على رؤوسِ الإشهادِ.
اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ…
أيُّها الإخوةُ: جاءَ الإسلامُ ليُعرِّفَ بالحقوقِ ويُعطيَ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فبدأ بأعظمِ حقٍّ على الإطلاقِ، وهو حقُّ اللهِ، بأن يعبدَه الناسُ ولا يُشرِكوا به شيئًا، ويُطيعوه ولا يَعصوه، ويَحكموا شَرعَه ولا يُخالفوه.
عن مُعاذِ بنِ جبلٍ رضي اللهُ عنه قال:
كنتُ رَدِيفَ النَّبيِّ صلّى اللهُ عليه وسلَّم على حمارٍ، فقال لي:
«يا مُعاذُ، أتدري ما حَقُّ اللهِ على العِبادِ، وما حَقُّ العِبادِ على اللهِ؟»
قُلتُ: اللهُ ورَسولُه أعلمُ.
قال: «حَقُّ اللهِ على العِبادِ أن يَعبدوه ولا يُشرِكوا به شيئًا، وحَقُّ العِبادِ على اللهِ ألَّا يُعذِّبَ مَن لا يُشرِكُ به شيئًا».
إنه التوحيدُ، الذي من أجله أُرسِلَ الرُّسلُ عليهمُ الصَّلاةُ والسَّلام، ومن أجلِه قامَ سوقُ الجنَّةِ والنَّار، وبه أهلَّ النَّبيُّ عليه السَّلامُ بحجِّه، كما قال جابرٌ رضي اللهُ عنه في صفةِ حجِّ النَّبيِّ.
التوحيدُ الذي كلُّ شعيرةٍ في الحجِّ، أو ذِكرٍ، أو دُعاءٍ، يُذكِّرُنا به؛ يُذكِّرُنا بأن لا نَدعوَ إلَّا اللهَ، ولا نَخافَ إلَّا هو، ولا نَستغيثَ إلَّا به، ولا نَنحرَ، ونُصلِّي، ونَطوفَ، ونَنذُرَ، إلَّا له سُبحانهُ وتعالى.
ثم ثنَّى بحقِّ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو أعظمُ الحقوقِ بعدَ حقِّ اللهِ، بأن يُحبَّ، ويُصدَّقَ، ويُتَّبعَ، ويُطاعَ، ويُنصَرَ.
كيف لا؟! وقد أمرَ اللهُ بكلِّ ذلك فقال:
﴿قُل أَطيعُوا اللَّهَ وَأَطيعُوا الرَّسولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّما عَلَيهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيكُم ما حُمِّلتُم وَإِن تُطيعوهُ تَهتَدوا وَما عَلَى الرَّسولِ إِلَّا البَلاغُ المُبينُ﴾ [النور: ٥٤].
وقال:
﴿وَما آتاكُمُ الرَّسولُ فَخُذوهُ وَما نَهاكُم عَنهُ فَانتَهوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَديدُ العِقابِ﴾ [الحشر: ٧].
وقال:
﴿قُل إِن كُنتُم تُحِبّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعوني يُحبِبكُمُ اللَّهُ وَيَغفِر لَكُم ذُنوبَكُم وَاللَّهُ غَفورٌ رَحيمٌ﴾ [آل عمران: ٣١].
فأيُّ جنايةٍ على حقِّ الرَّسولِ، أعظمُ ممَّن يُفرِّقُ بين طاعةِ اللهِ وطاعتِه، ويقولُ: “يَكفينا كتابُ الله”، ثم يَرفُضُ سُنَّتَه، التي بذلَ الأئمَّةُ الكِبارُ طيلةَ القرونِ الماضية، الجهودَ الكبيرةَ في تنقيحِها وتصحيحِها، وفقَ معاييرَ وشروطٍ في غايةِ الدِّقَّةِ والموضوعيَّةِ والعِلميَّة.
لِيَرموا بمثلِ هذه الدَّعاوى الباطلةِ بالكلامِ جُزافًا، دونَ فحصٍ وتدقيقٍ، وبأحكامٍ عامَّةٍ لا يَعتَرِفُ بها المنهجُ العِلميُّ، ولا المنطقُ السَّليم.
والغرضُ منها هو تشكيكُ النَّاسِ في مصادرِ دينِهم، وهدمُ الرُّكنِ الثاني من أركانِ التلقِّي، وهو السُّنَّة، فينهدمُ بذلك الدِّين.
وقد حذَّرَ النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من مثلِ هذه الانحرافاتِ الخطيرة، فقال:
“لا أُلْفِيَنَّ أحدَكُم مُتَّكِئًا على أريكتِهِ، يأتِيهِ أمرٌ ممَّا أمرتُ بهِ أو نهيتُ عنهُ، فيقولُ: لا أدري، ما وجدْنا في كتابِ اللهِ اتَّبعناهُ”.
[أخرجه الترمذي وأبو داود]
وقال:
“ألَا هلْ عسى رجلٌ يَبلُغُه الحديثُ عنِّي، وهوَ مُتَّكِئٌ على أريكتِهِ، فيقولُ: بيننا وبينَكم كتابُ اللهِ، فما وجدنا فيهِ حلالًا استحللناهُ، وما وجدنا فيهِ حرامًا حرَّمناهُ، وإنَّ ما حرَّمَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كمَا حرَّمَ اللهُ”.
[أخرجه أحمد]
ولا شكَّ أنَّ هذا من أمورِ الغيبِ، التي علَّمَ اللهُ نبيَّه إيَّاها.
فحالُهم كما وصفَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فالاتِّكاءُ على الأريكةِ يُوحي بكثيرٍ من صفاتِهم؛ فهم أهلُ بطالةٍ وبَلادة، فلا يُعرَفُ لهم تصانيفُ علميَّة، ولا منهجٌ علميٌّ مُنضبطٌ في قَبولِهم ورَدِّهم، ولا أحكامٌ تفصيليَّةٌ على كلِّ حديثٍ بعينِه، ليُقيموا البرهانَ على ردِّه، كما فعلَ أئمَّةُ الحديثِ عبرَ القُرون.
ثم هو يُوحي أيضًا بأنَّ من صفاتِهم: الرَّدُّ الذي لا يقومُ على حجَّةٍ وبُرهان، بل هو تكذيبٌ لذاتِ التَّكذيب، وهو دورٌ بليدٌ يُحسنُه كلُّ أحد.
وكما أنَّ تصديقَ كلِّ شيءٍ بلا برهانٍ يُذهِبُ بالعقلِ إلى تصديقِ الخرافات، فكذلك التكذيبُ بلا برهانٍ يُذهِبُ بالعقلِ إلى تكذيبِ الحقائق؛ فهما وجهانِ لعملةٍ واحدة، فالمُصَدِّقُ لكلِّ شيءٍ كالمُكذِّبِ لكلِّ شيء.
ومنهجُ الإسلامِ الواضحُ، هو أنْ على المرءِ ألَّا يُصدِّقَ إلَّا بحجَّة، ولا يُكذِّبَ إلَّا بحجَّة، وإلَّا زاغَ المرءُ وانحرَفَ عن الصِّراطِ المُستقيم.
اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ ..
ثمَّ تَتابَعَ بيانُ الحقوقِ بعد ذلك، فحقُّ الوالدينِ البِرُّ والإحسانُ، وحقُّ الجارِ كذلك، وحقُّ الأقاربِ الصِّلةُ، وحقُّ الزوجِ الطاعةُ وحفظُه في بيتِه ومالِه وعِرضِه، وحقُّ الزوجةِ النَّفقةُ وحُسنُ المُعاشرةِ والكلمةُ الطيِّبة، وحقُّ الأولادِ التربيةُ وحُسنُ التعليمِ، وحقُّ الحاكمِ الطاعةُ في المعروفِ، وحقُّ الرعيَّةِ أداءُ الحقوقِ لهم، وعدمُ ظلمِهم وبَخسِهم، وحقُّ المسلمِ على المسلمِ عُمومًا، أن لا يعتديَ أحدٌ منهم على الآخر، في مالِه أو عِرضِه أو نفسِه أو سمعتِه.
ومن حقِّ المسلمِ على المسلمِ، أيضًا، ما جاء في الحديث:
“حقُّ المسلمِ على المسلمِ ستٌّ: إذا لقيتَه فسلِّمْ عليه، وإذا دعاكَ فأَجِبْه، وإذا استنصحَكَ فانصحْه، وإذا عطسَ فحمِدَ اللهَ فسمِّتْه، وإذا مرضَ فعُدْه، وإذا ماتَ فاتَّبِعْه”.
أيُّها الناسُ، إنَّ استقرارَ المجتمعاتِ منوطٌ بحمايةِ الحقوقِ ومراعاتِها، فهي ذاتُ شأنٍ خطير، ولذلك حذَّرَ الإسلامُ من آفاتٍ تعصِفُ بالحقوقِ وتُضيِّعُها، وتُخِلُّ بميزانِ تعاطيها.
ومن ذلك أنْ يَعرِفَ الواحدُ منَّا حقَّه على الآخرين، فيُطالِبَ به، ويُلحَّ في طلبِه، ثمَّ هو يُماطِلُ في أداءِ ما عليه، وهو الذي حذَّرَ منه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقوله:
“إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ حرَّمَ عليكم: عُقوقَ الأمهاتِ، ووأدَ البناتِ، ومَنعًا وهاتِ، وكرِهَ لكم ثلاثًا: قيلَ وقالَ، وكثرةَ السؤالِ، وإضاعةَ المالِ”.
فإنَّك اليومَ إذا أرخيتَ سمعَك لشكوى الناسِ، فإنَّك تجدُ الجميعَ يَشتكي؛ فالزوجُ يشتكي، والزوجةُ تشتكي، والجارُ يشتكي، والقريبُ يشتكي، والصديقُ يشتكي. ولكن يا تُرى ممَّا يَشتكون؟! إنَّهم يَشتكون من ذاتِ ما يُمارسونَه على الآخرين، ولكن دونَ شعورٍ منهم.
أيُّها الإخوةُ والأخواتُ، إنَّنا في كلِّ علاقةٍ نعيشُها، نحن في الحقيقةِ طرفٌ في عقدٍ؛ فالزوجيَّةُ عقدٌ، والصداقةُ عقدٌ، والقرابةُ والجِيرةُ عقدٌ. وما معنى أن نَصِفَها بالعقود؟! أيْ: إنَّها كأيِّ عقدٍ له شروطٌ وحقوقٌ على طرفَي العقد. فكما تعتقدُ أنَّ لك حقوقًا على الآخرين، فكذلك لهم حقوقٌ عليك. فقبل أن تُطالِبَ بالذي لك، أدِّ ما عليك، وإلَّا اختلَّ ميزانُ الحقِّ والعَدلِ، وأُهدِرتْ بذلك كثيرٌ من الحقوق.
اللهُ أكبرُ…
أيُّها الإخوةُ، ومن الآفاتِ التي تعصِفُ بالحقوقِ: إهدارُها في وقتِ الخُصوماتِ والعداواتِ، واستخدامُها أدواتٍ للضَّغطِ وتصفيةِ الحسابات. ولا يُحافظُ على الحقوقِ ويُراعيها في وقتِ العداوةِ والخصومةِ إلَّا الشَّريفُ من الرِّجالِ والنِّساء، وهو خُلُقٌ كريمٌ، حثَّ عليه الإسلامُ وأرشدَ إليه.
فتأمَّلْ كيفَ يَحثُّ اللهُ على الإحسانِ إلى الوالدينِ، حتَّى مع مُجاهدتِهما لابنِهما بالكفرِ:
﴿وَإِن جاهَداكَ عَلى أَن تُشرِكَ بي ما لَيسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ فَلا تُطِعهُما وَصاحِبهُما فِي الدُّنيا مَعروفًا وَاتَّبِع سَبيلَ مَن أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرجِعُكُم فَأُنَبِّئُكُم بِما كُنتُم تَعمَلونَ﴾ [لقمان: ١٥].
وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: “أدِّ الأمانةَ لمن ائتَمنَك، ولا تَخُنْ مَن خانَك”
[أخرجه أبو داود والتِّرمذي].
فكم جُعِلَ الأطفالُ والنفقةُ وسيلةَ حربٍ بين الزوجينِ إذا اختلَفوا، وكم جُنِيَ على الصِّلةِ بين الأقاربِ لِخِلافٍ نشبَ بينهم، وكيفَ استُبدِلَ الإحسانُ إلى الجارِ بالأذيَّةِ إذا دبَّت بينهم البغضاء، وكم جفا الصديقُ صديقَه لأدنى خلافٍ بينهم.
فأصبحَ الخلافُ -الذي لا يُفسِدُ للودِّ قضيَّةً كما يُقال- مُفسِدًا لكلِّ الودِّ.
إنَّ عدمَ اتِّقاءِ هذه الآفاتِ وغيرها، يُخِلُّ بمعادلةِ التَّعاطي مع الحقوقِ بين أطرافِ المجتمعِ، فيقودُ ذلك إلى كثيرٍ من مظاهرِ العداوةِ والبغضاءِ والنُّفرة، بل وربَّما التَّناحرُ والتَّقاتل، فيسودُ الظُّلمُ بدلَ العدلِ، والفوضى بدلَ الطُّمأنينةِ، والفسادُ بدلَ الصَّلاح، وهو ما حذَّرَ منه النبيُّ عليه السَّلامُ في خُطبتِه في هذا اليومِ وخَتَمها به، فقال: “لا تَرجِعوا بعدي كفَّارًا يَضرِبُ بعضُكم رقابَ بعضٍ”.
أقولُ قولي هذا..
الثانية:
اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ …
أيَّتُها الأخواتُ الكريماتُ، إنَّ حقَّ المرأةِ في الإسلامِ عظيمٌ، شَرَّفَها وكَلَّفَها، وممّا يدلُّ عليه في مثلِ مناسبتِنا هذه، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم في خطبته في الحجِّ، خَصَّ حقَّهنَّ بالذكرِ، وحذَّرَ من انتهاكِه، وحثَّ على الرِّفقِ بهنَّ.
وممّا يجبُ أن يعلمَ، أن احتقارَ المرأةِ عقيدةٌ جاهليةٌ، لم تسلَم منها أمةٌ من الأممِ، وكان من مظاهرِ احتقارِ المرأةِ قديمًا، وأدَها وهي حيّةٌ.
فحاربَ الإسلامُ هذه الأفكارَ الجاهليةَ، وقضى عليها، ولكن الغريبَ أن احتقارَ المرأةِ لا يزال هو المسيطرُ، وليس ذلك في المجتمعاتِ المتخلّفةِ فقط، بل هو ثقافةُ الغربِ المتمدّنِ المتغلّبِ. وهذا الاحتقارُ يظهرُ في فكرةِ مساواتِها بالرجلِ بشكلٍ مطلقٍ، فإنَّ هذه الفكرةَ الغربيةَ التصدير، قائمةٌ ومرتكزةٌ على احتقارِ المرأةِ، إذ مفادُها أن ليسَ للمرأةِ بطبيعتِها التي خلقها اللهُ عليها أيُّ قيمةٍ، حتى تكونَ كالرجلِ. فإذا كان الجاهليُّ الأوَّلُ يتخلّصُ من عارِ الأنوثةِ بوأدِها في الترابِ، فإنَّ جاهليَّ هذا الزمانِ يتخلّصُ من الأنوثةِ بوأدِها في الرجلِ.
فأنتجَ ذلك كائناتٍ ممسوخةً ومسترجلةً، لا همَّ لها إلا مزاحمةُ الرجلِ في كلِّ ما يخصُّه، ومُحاكاته في كلِّ ما يقومُ به.
الإسلامُ له نظرتُه المُغايرةُ لذلك تمامًا، فهو يُقرِّرُ أنَّ المرأةَ تكمنُ قيمتُها في ذاتِها، دون أن تضطرَّ لمقارنةِ نفسِها بالرجلِ، ويحثُّها على الاعتدادِ بكيانِها ودورها الطبيعيِّ دون خجلٍ وحياءٍ، وحدَّد لها دورًا مهمًّا وحيويًّا، يحتاجُه الرجلُ ولا يحسنه، كما أن للرجلِ دورًا مهمًّا تحتاجُه المرأةُ ولا تحسنه، وهو ما يقودُ إلى علاقةٍ تكامليةٍ يشعرُ كلُّ منهما بأهميةِ الآخرِ في حياتِه.
بخلافِ علاقةِ الرجلِ بالمرأةِ، وفقَ نظرةِ الغربِ، فإنَّها علاقةٌ قائمةٌ على الصراعِ والتنافسِ والعداوةِ والبغضاءِ.
يقولُ اللهُ تعالى محذِّرًا من مثلِ هذهِ المسالكِ، وحاثًّا كلَّ جنسٍ أن يبقى في حدودِ جنسهِ، ويقومَ بدوره الطبيعيِّ، ولا يتطلع إلا ما وراءَ ذلك، وإلّا اختلَّ النظامُ ووقعَ الفسادُ وخُلِفتِ الفطرةُ:
﴿وَلَا تَتَمَنَّوا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ ۚ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ ۚ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [النساء: ٣٢]
وقال عليه السلام: “لَعَنَ اللهُ المُتَشَبِّهِينَ بِالنِّسَاءِ مِنَ الرِّجَالِ، وَالمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ”.
وليس ذلك فقط في الزيِّ والكلامِ والمشي بل حتى في الدورِ المنوطِ بكلِّ منهما.
فإياكِ أن تبحَثي عن قيمتِكِ خارجَ إطارِ أنوثتِكِ التي جَبَلَكِ اللهُ عليها، وإياكِ أن تَزدري دورَكِ العظيمَ في تربيةِ النشءِ وصيانتهِم، والقيامِ بحقِّ البيتِ والأسرةِ، فإنكِ إن فعلتِ هذا، بسببِ مقارنةِ نفسِكِ بالرجلِ، فقد عظَّمتِ الرجلَ من حيثُ ظَنَنتِ أنك تَزدرينَه، واحتقرتِ الأنوثةَ من حيثُ ظَنَنتِ أنك تُعظِّمينها.
اللهُ أكبرُ…
أيُّها الإخوةُ، وإنَّ من أعظمِ الأعمالِ في هذا اليومِ وما بعدَه من أيامِ التشريقِ، نحرُ الأضاحي تقرُّبًا إلى اللهِ، تأسِّيًا بخليلِ الرحمنِ إبراهيمَ وابنهِ محمدٍ، عليهما الصلاةُ والسلامُ.
ويجب أن تتوفَّر فيها الشروطُ المعتبرةُ:
• أن تكون من بهيمةِ الأنعامِ وهي الإبلُ والبقرُ والغنمُ.
• أن تبلغ السنَّ المحدَّدَ، وهو خمسُ سنينَ في الإبلِ، وسنتان للبقرِ، وسنةٌ للمعزِّ، ونصفُ سنةٍ للضأنِ.
• أن تكون خاليةً من العيوبِ: وهي العوراءُ البينُ عورها، والعرجاءُ البينُ عرجها، والمريضةُ البينُ مرضها، والهزالُ المُزيلُ للمخِّ، لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم حين سُئلَ ماذا يتقي من الضحايا فأشار بيده وقال: «أربعًا: العرجاءَ البينَ ضلعها، والعوراءَ البينَ عورها، والمريضةَ البينَ مرضها، والعجفاءَ التي لا تنقى».
رواه مالك في الموطأ من حديث البراء بن عازب.
• أن يُضحى بها في الوقتِ المحدَّد شرعًا، وهو من بعد الصلاة من يوم العيد إلى غروب شمس آخر أيام التشريق، فتكون أيام الذبح أربعةَ أيام.
أيُّها الناسُ، افرحوا بعيدِكم، واستمتعوا بما أحلَّ لكم من بهيمةِ الأنعامِ، فكلوا واشربوا واطعموا الفقيرَ والمسكينَ، واشكروا اللهَ على ما هدَاكم.
اللهمَّ …
المرفقات
1749120574_خطبة عيد الأضحى.docx