خطبة القناعة كنز لا يفنى
حسين بن حمزة حسين
1447/02/15 - 2025/08/09 11:59AM
الحمد لله الذي جعل الغنى في القناعةَ، والفقر في الطمع والجشع، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الإنسان وابتلاه، وشرع له من الدين ما يُصلِح دنياه وأخراه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا..... إخوة الإيمان: نحنُ الَّذين نزرعُ سعادتَنا وشقاءَنا بأنفسِنا، مفاهيمُ ومَداركُ بُذورُ تلكَ الزُّروع، أرضُها عُقولُنا وقُلوبُنا، ثِمارُها وجَنَاهَا سَعدُنا وشَقَانا، ومِن تِلكَ المفاهيم: القَنَاعَة، فالقناعةُ كنزٌ عظيمٌ، يُغني عن كُنوزِ الأرضِ، يُغني عن مُلكِ الملوكِ، بل عنِ الدُّنيا وما فيها من كُنوزٍ وأملاك، بالقناعةِ يغنَى القلبُ، فنؤمِنُ أنَّ الأرزاقَ مكتوبةٌ مقسومةٌ، والآجالَ محدودةٌ، وتعلَمُ أنَّ ما أصابَكَ لم يَكُن ليُخطِئَكَ، وما أخطأَكَ لم يَكُن ليُصيبَكَ، فَتَطمئنُّ القلوبُ، وتأنَسُ النفوسُ، وتَرتاحُ الأرواح، عن أنسِ بنِ مالكٍ رضيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: "مَن كانتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ، جعلَ اللهُ غِنَاهُ في قلبِه، وجَمَعَ له شَملَه، وأتَتْهُ الدُّنيا وهي راغِمةٌ، ومن كانتِ الدُّنيا هَمَّهُ، جعلَ اللهُ فَقرَهُ بينَ عينَيه، وفرَّقَ عليه شَملَه، ولم يأتِهِ من الدُّنيا إلا ما قُدِّرَ له" (صحَّحه الألباني في الصحيحة)، وعن أبي ذرٍّ رضيَ اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ ﷺ قال: "يا أبا ذرّ، أتَرى كثرةَ المالِ هو الغنى؟" قلتُ: نعم، قال: "وترى أنَّ قلَّةَ المالِ هو الفقر؟"، قلتُ: نعم يا رسولَ الله، قال: "ليس كذلك، إنما الغِنى غِنى القلب، والفقرُ فقرُ القلب"(صحَّحه الألباني في الصحيحة)، وَعَدَ اللهُ أهلَ القناعةِ بالحياةِ الطَّيِّبةِ في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، قال عبداللهُ بنُ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما: "الحياةُ الطَّيِّبةُ هي القناعةُ"، فَـاقنَعْ بما أعطاكَ ورزقَكَ اللهُ من أمورِ الدُّنيا وزينتِها: من عافيةٍ، وزوجةٍ، ووَلَدٍ، ومالٍ، ومسكنٍ، ومركبٍ، وملبسٍ، وجاه... إخوة الإيمان: ما أجملَ القَناعَةَ! من تحلَّى بها اغتَنَى واعتزَّ وارتفع، ومن تخلَّى عنها افتَقَر وذلَّ وهان، القَناعَةُ لباسُ الأشرافِ المُتَّقين، قال صلى الله عليه وسلَّم: "شَرَفُ المؤمنِ قيامُه باللَّيل، وعِزُّه استغناؤه عن الناس" صححه الألباني، وقال ﷺ: "طُوبى لِمَن أسلم، وكان رِزقُه كَفافًا، وقَنَّعَهُ الله". وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه، عن النبي ﷺ أنه قال: "إنَّ اللهَ يقول: يا ابنَ آدمَ، تفرَّغ لعبادتي، أملأ صدرَكَ غنًى، وأسدَّ فقرَكَ، وإلا تفعل، ملأتُ يدَكَ شُغلًا، ولم أسدَّ فقرَكَ" (صحَّحه الألباني). وكان من دعائِه ﷺ: "اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ بكَ من قلبٍ لا يخشعُ، ومن دعاءٍ لا يُسمعُ، ومن نفسٍ لا تشبعُ، ومن علمٍ لا ينفعُ، أعوذُ بكَ من هؤلاءِ الأربع". ما ضَعُفَ الدِّينُ في قلوبِ أهلِ الإيمان، إلَّا من مُزاحَمةِ الدُّنيا له، بغيرِ التَّداوي والتَّشافي بالقَناعَة. فالقَناعَةُ شِفاءُ الصُّدور من الهمومِ والغُمومِ والأمراضِ الناتجةِ من التنافسِ على الدُّنيا وحُطامِها. قال رسولُ اللهِ ﷺ: "واللهِ ما الفقرُ أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبسَطَ الدنيا عليكم، كما بُسِطَت على من كانَ قبلكم، فَتَنافَسُوها كما تَنافَسُوها، وتهلكَكم كما أَهلَكَتْهم". أغنى اللهُ قلوبَنا، ووقانا الطَّمَعَ والبَطَرَ والجَشَع.
الخطبة الثانية :
كان ﷺ أعظمَ الناسِ قَناعَةً في هذه الدُّنيا، وكان من دعائه ﷺ: "اللَّهُمَّ اجعل رزقَ آلِ محمَّدٍ قوتًا"، فكان أوسعَ الناسِ صدرًا، وأطيبَهم عيشًا، وأسخَى الناسِ يدًا، وأرضَى الناسِ قلبًا. نام على حصيرٍ، وقد أثَّر في جنبِه، فقال له أصحابُه: لو اتَّخذنا لكَ وِطاءً؟ فقال ﷺ: "مالي وللدنيا؟! ما أنا إلَّا كراكبٍ استظلَّ تحت ظلِّ شجرة، ثم راح وتركَها". وربَّى ﷺ أصحابَه على الزهدِ والقَناعَة، فأوصى أبا هريرةَ فقال: "يا أبا هريرة، كن ورِعًا تكن أعبدَ الناس، وكن قَنُوعًا تكن أشكرَ الناس، وارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس". وقال ﷺ: "عليكم بالقَناعَة، فإنَّ القَناعَةَ مالٌ لا يَنفد" (رواه الترمذي). وعن أبي هريرةَ: "خِيارُ المؤمنينَ القانِع، وشِرارُهم الطَّامِع". قال بعضُ العلماء: إذا طلبتَ العِزَّ، فاطلبه بالطَّاعَة، وإذا أردتَ الغِنى، فاطلبه بالقَناعَة. فمَن أطاع اللهَ عزَّه، ومَن لَزِمَ القَناعَة زالَ فقرُه. وقال عليٌّ رضي الله عنه: "الطَّمَعُ رِقٌّ مؤبَّد"، أي دائم. وعن عبد الله بن الحُصين رضي الله عنه أن رسولَ الله ﷺ قال: "مَن أصبحَ منكم آمنًا في سِربِه، معافًى في بدنِه، عنده قوتُ يومِه، فكأنما حِيزت له الدنيا بحذافيرها" (رواه الترمذي). وعن سهلِ بنِ سعدٍ رضي الله عنه، قال ﷺ: "أتاني جبريلُ فقال: يا محمد، عشْ ما شئتَ فإنك ميِّت، وأحبِبْ من أحببتَ فإنك مُفارقه، واعملْ ما شئتَ فإنك مجزيٌّ به، واعلم أن شرفَ المؤمنِ قيامُه بالليل، وعزَّهُ استغناؤه عن الناس". صدق من قال هـي القنـاعة لا تـرضى بهــا بـدلا فيهــا النعيـم وفيهــا راحـة البـدنِ انظـر لمـن ملــك الدنيـا بأجمـعـها هـل راح منها بغيــر القطـن والكفـنِ