خطبة : ( المؤمن حالٌّ مرتحل )
عبدالله البصري
المؤمن حال مرتحل 17/ 12/ 1446
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم أَيُّهَا النَّاسُ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، تَتَابَعُ مَوَاسِمُ الطَّاعَاتِ عَلَى عِبَادِ اللهِ ، لِيَنَالُوا مِنهَا مَا يَنَالُونَ مِنَ الحَسَنَاتِ ، يَأتي رَمَضَانُ ثُمَّ سِتُّ شَوَّالٍ ، وَتَدخُلُ عَشرُ ذِي الحَجَّةِ وَفِيهَا يَومُ النَّحرِ ، ثُمَّ تَتلُو يَومَ النَّحرِ أَيَّامُ التَّشرِيقِ ، يَصُومُ المُسلِمُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَقُومُونَ ، وَيُزَكُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَيَبذُلُونَ ، وَيَحُجُّ مِنهُم مَن يَحُجُّ وَيُضَحِّي مَن يُضَحِّي ، وَيَذكُرُونَ اللهَ وَيُكَبِّرُونَ وَيَدعُونَ ، وَيُقَدِّمُونَ مَا يُقَدِّمُونَ ، مُتَحَرِّينَ في كُلِّ ذَلِكَ الإِخلاصَ للهِ تَعَالى وَحدَهُ ، وَالمُتَابَعَةَ لِرَسُولِهِ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ ، فَهَل يَتَوَقَّفُونَ بَعدَ ذَلِكَ حَتَّى يَدخُلَ رَمَضَانُ القَادِمُ ؟! هَل يَنطَلِقُونَ في دُنيَاهُم وَيَسبَحُونَ في بُحُورِ الغَفلَةِ ؟!
الفُتُورُ مِن طَبِيعَةِ البَشَرِ ، وَقَد يَضعُفُ مِنَ النَّاسِ مَن يَضعُفُ وَيَتَرَاجَعُ مَن يَتَرَاجَعُ ، أَمَّا مَا يَنبَغِي أَن يَكُونَ عَلَيهِ المُؤمِنُ فَوَجهٌ آخَرُ وَشُعُورٌ مُغَايِرٌ وَتَفكِيرٌ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيهِ أَكثَرُ مَن في الأَرضِ ، إِذْ إِنَّ كُلَّ حَيَاتِهِ مَوسِمٌ لِلعِبَادَةِ ، وَكُلُّ فُرصَةٍ تَسنَحُ لَهُ فَهِيَ مَكسَبٌ لِفِعلِ الطَّاعَةِ ، وَبَينَ يَدَيهِ مِنَ المَوَاسِمِ المُؤَقَّتَةِ وَالمَفتُوحَةِ مَا يُمكِنُهُ بِاستِثمَارِهَا أَن يَربَحَ آلافَ الحَسَنَاتِ وَيَنَالَ رَفِيعَ الدَّرَجَاتِ ، وَتُمحَى عَنهُ الخَطَايَا وَتُكَفَّرُ السَّيِّئَاتُ ، وَيَنتَشِلَ بِهِ نَفسَهُ مِنَ الهُبُوطِ في الدَّرَكَاتِ ، فَالصَّلَوَاتُ الخَمسُ مَوَاسِمُ مُتَكَرِّرَةٌ في اليَومِ وَاللَّيلَةِ ، وَمَحَطَّاتُ تَزَوُّدٍ لا يَجُوزُ تَجَاوُزُهَا ، وَنَوَافِلُ الصَّلَوَاتِ كَالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ وَصَلاةِ الضُّحَى وَقِيَامِ اللَّيلِ وَالوِترِ ، وَنَوَافِلُ الصِّيَامِ كَالأَيَّامِ البِيضِ وَالاثنَينِ وَالخَمِيسِ وَيَومِ عَاشُورَاءَ ، كُلُّهَا مَنَابِعُ لِلتَّرَوِّي ، وَالصَّدَقَاتُ بَابٌ وَاسِعٌ مَفتُوحٌ عَلَى مِصرَاعَيهِ ، لا يُغلَقُ لِقِلَّةِ ذَاتِ يَدٍ ، وَلا يَمنَعُ مِن وُلُوجِهِ ضِيقُ حَالٍ ، وَقِرَاءَةُ القُرآنِ وَالذِّكرُ نَهرٌ عَذبٌ زُلالٌ ، يَرِدُهُ العَبدُ قَائِمًا وَقَاعِدًا وَعَلَى جَنبٍ ، وَالاستِغفَارُ مَمحَاةٌ لِلذُّنُوبِ وَنَقَاءٌ وَصَفَاءٌ ، وَبِرُّ الوَالِدَينِ وَصِلَةُ الأَرحَامِ وَإِكرَامُ الجِيرَانِ ، وَحُسنُ الأَخلاقِ وَطِيبُ التَّعَامُلِ وَالإِحسَانُ إِلى الخَلقِ وَقَضَاءُ حَاجَاتِهِم وَتَفرِيجُ كُرُبَاتِهِم ، وَعِمَارَةُ بُيُوتِ اللهِ حِسِّيًّا وَمَعنَوِيًّا وَتَنظِيفُهَا وَتَطيِيبُهَا وَالعِنَايَةُ بِهَا ، وَالمُسَاهَمَةُ في بَرَامِجِ الدَّعوَةِ وَالخَيرِ وَدَعمُ مَشرُوعَاتِ البِرِّ ، وَالأَمرُ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيُ عَنِ المُنكَرِ ، وَإِيصَالُ البِرِّ وَكَفُّ الأَذَى ، وَالبَشَاشَةُ وَالبِشرُ وَطَلاقَةُ الوَجهِ ، وَرَدُّ السَّلامِ وَإِجَابَةُ الدَّعوَةِ وَزِيَارَةُ الإِخوَةِ ، وَعِيَادَةُ المَرضَى وَاتِّبَاعُ الجَنَائِزِ ، وَتَشمِيتُ العَاطِسِ وَكَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ لِجَبرِ خَاطِرٍ ، كُلُّ هَذِهِ وَأَمثَالُهَا هِيَ أَبوَابٌ لِلخَيرِ وَفُرَصٌ التَّزَوُّدِ . وَلا وَاللهِ مَا بَينَ العَبدِ وَأَن يَنَالَ الأُجُورَ وَيَكتَسِبَ الحَسَنَاتِ ، إِلاَّ نِيَّةٌ صَالِحَةٌ وَعَزمٌ وَجِدُّ ، وَاحتِسَابُ أَجرٍ وَاغتِنَامُ عُمُرٍ ، وَتَجوِيدُ عَمَلٍ وَمُحَاسَبَةُ نَفسٍ ، وَإِعَادَةُ نَظَرٍ في قَادِمٍ وَمَقدُومٍ عَلَيهِ مِن قَبرٍ وَحَشرٍ وَحِسَابٍ ، وَثَوَابٍ في جَنَّةٍ وَعِقَابٍ في نَارٍ ، مَن عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفسِهِ ، وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِن خَيرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللهِ هُوَ خَيرًا وَأَعظَمَ أَجرًا ، أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَلْنَحذَرِ التَّسوِيفَ وَالتَّأجِيلَ وَالمُمَاطَلَةَ وَالتَّلَفُّتَ ، وَالجُبنَ وَالبُخلَ وَالكَسَلَ وَالتَّرَدُّدَ ، وَلْنُقدِمْ وَلا نُحجِمْ ، وَلْنَبذُلْ وَلا نَبخَلْ ، وَلْنُعطِ وَلا نَمنَعْ ، وَلْنُسَاهِمْ وَلا نَشِحَّ ، وَلْنُشَارِكْ وَلا نَستَأثِرْ ، فَكُلُّ عَمَلِ خَيرٍ صَغُرَ أَو كَبُرَ فَهُوَ بِأَجرِهِ " وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثمِ وَالعُدوَانِ " " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ" " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اركَعُوا وَاسجُدُوا وَاعبُدُوا رَبَّكُم وَافعَلُوا الخَيرَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ . وَجَاهِدُوا في اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجتَبَاكُم وَمَا جَعَلَ عَلَيكُم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُم إِبرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسلِمِينَ مِن قَبلُ وَفي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيكُم وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَولاكُم فَنِعمَ المَولى وَنِعمَ النَّصِيرُ "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ حَقَّ التَّقوَى ، وَتَمَسَّكُوا مِنَ الإِسلامِ بِالعُروَةِ الوُثقَى " وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا "
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، المُؤمِنُ حَالٌّ مُرتَحِلٌ ، وَهُوَ في حَيَاتِهِ مُسَافِرٌ إِلى رَبِّهِ ، لا يَصِلُ إِلى مَحَطَّةٍ فَيَتَوَقَّفُ فِيهَا ، إِلاَّ وَقفَةَ مُسَافِرٍ لِرَاحَةٍ يَسِيرَةٍ وَتَزَوُّدٍ لإِتمَامِ سَفَرِهِ ، أَجَل أَيُّهَا الإِخوَةُ ، لَيسَ في الدُّنيَا تَوَقُّفٌ أَبَدًا ، وَلَيسَ لِعَمَلِ المُؤمِنِ نِهَايَةٌ دُونَ المَوتِ ، قَالَ سُبحَانَهُ : " وَاعبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ اليَقِينُ " وَقَالَ تَعَالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُسلِمُونَ " وَمِن رَحمَةِ اللهِ إِنَّ النِّيَّةَ الطَّيِّبَةَ وَاحتِسَابَ الأَجرِ في كُلِّ خَطوَةٍ يَخطُوهَا المُسلِمُ ، هِيَ لَهُ أَجرٌ وَغَنِيمَةٌ وَرِبحٌ ، حَتَّى وَإِن كَانَت مِن أَعمَالِ الدُّنيَا أَو حَاجَاتِ النَّاسِ اليَسِيرَةِ الَّتي تَنفَعُهُم ، بَل وَحَتَّى بَعضُ شَهَوَاتِ النُّفُوسِ الَّتي أَحَلَّهَا اللهِ ، فَإِنَّ لِلعَبدِ في إِتيَانِهَا أَجرًا إِذَا استَغنَى بِهَا عَنِ الحَرَامِ ، عَن أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ بِكُلِّ تَسبِيحَةٍ صَدَقَةً ، وَكُلُّ تَكبِيرَةٍ صَدَقَةٌ ، وَكُلُّ تَحمِيدَةٍ صَدَقَةٌ ، وَكُلُّ تَهلِيلَةٍ صَدَقَةٌ ، وَأَمرٌ بِالمَعرُوفِ صَدَقَةٌ ، وَنَهيٌ عَنِ المُنكَرِ صَدَقَةٌ ، وَفي بُضعِ أَحَدِكُم صَدَقَةٌ " قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَيَأتي أَحَدُنَا شَهوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجرٌ ؟! قَالَ : " أَرَأَيتُم لَو وَضَعَهَا في حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيهِ فِيهِ وِزرٌ ؟! فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا في الحَلالِ كَانَ لَهُ أَجرٌ " رَوَاهُ مُسلِمٌ . وَفي الصَّحِيحَينِ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِسَعدِ بنِ أَبي وَقَّاصٍ : " وَإِنَّكَ لَن تُنفِقَ نَفَقَةً تَبتَغِي بِهَا وَجهَ اللهِ إِلاَّ أُجِرتَ بِهَا حَتَّى مَا تَجعَلُ في في امرَأَتِكَ " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : " تَبَسُّمُكَ في وَجهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ ، وَأَمرُكَ بِالمَعرُوفِ وَنَهيُكَ عَنِ المُنكَرِ صَدَقَةٌ ، وَإِرشَادُكَ الرَّجُلَ في أَرضِ الضَّلالِ لَكَ صَدَقَةٌ ، وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ البَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ ، وَإِمَاطَتُكَ الحَجَرَ وَالشَّوكَةَ وَالعَظمَ عَنِ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ ، وَإِفرَاغُكَ مِن دَلوِكَ في دَلوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ " رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ .
المرفقات
1749637441_المؤمن حال مرتحل.docx
1749637441_المؤمن حال مرتحل.pdf
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق