خطبة : ( بلدة طيبة ورب غفور )
عبدالله البصري
بلدة طيبة ورب غفور 27/ 3/ 1447
الخطبة الأولى :
أَمَّا بَعدُ ، فَأُوصِيكُم أَيُّها النَّاسُ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ ، فَإِنَّ بها لِلعَبدِ وِقَايَةً ، وَبها تُنَالُ الولايَةُ وَالعِنَايَةُ ، وَهِيَ رِزقٌ وَغِنًى وَكِفَايَةٌ " وَلَو أَنَّ أَهلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحنَا عَلَيهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ..."
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، مِن بُقعَةٍ في غَربِ جَزِيرَةِ العَرَبِ ، شَعَّ نُورُ الإِسلامِ وَأَشرَقَت شَمسُهُ ، وَانطَلَقَ المُسلِمُونَ في سَائِرِ بِقَاعِ الأَرضِ يَفتَحُونَ البِلادَ ، وَيُخرِجُونَ النَّاسَ مِن ظُلُمَاتِ الشِّركِ إِلى نُورِ التَّوحِيدِ ، وَيَنقُلُونَهُم مِن عِبَادَةِ العِبَادِ إِلى عِبَادَةِ رَبِّ العِبَادِ ، وَمِن جَورِ الأَديَانِ إِلى عَدلِ الإِسلامِ ، وَمُنذُ أَن نَزَلَ القُرآنُ في مَكَّةَ وَالمَدِينَةِ ، وَأُرسِلَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فِيهِمَا ، وَذَانِكُمُ الحَرَمَانِ قِبلَةُ المُسلِمِينَ وَمَهوَى أَفئِدَةِ المُؤمِنِينَ ، بَارَكَ اللهُ فِيهِمَا وَأَنعَمَ عَلَيهِمَا ، فَقَصَدَهُمَا النَّاسُ مِن كُلِّ نَاحِيَةٍ ، فَاغتَنى فَقِيرُهُم وَشَبِعَ جَائِعُهُم ، وَتَعَلَّمَ جَاهِلُهُم وَأَمِنَ خَائِفُهُم ، وَبَقِيَت بِلادُ الحَرَمَينِ وَمَا زَالَت هِيَ أَعَزَّ البِلادِ وَأَحَبَّهَا لِلمُسلِمِينَ . وَكَمَا هِيَ حَالُ المُجتَمَعَاتِ حِينَ يَخبُو فِيهَا نُورُ العِلمِ وَيَنتَشِرُ الجَهلُ ، فَقَد مَرَّت بَعضُ أَجزَاءِ هَذِهِ البِلادِ قَبلَ عِدَّةِ قُرُونٍ بِسِنِينَ عِجَافٍ ، بَرَزَت فِيهَا صِرَاعَاتٌ قَبَلِيَّةٌ جَاهِلِيَّةٌ ، وَمُنَافَسَاتٌ لِلزَّعَامَةِ فَوضَوِيَّةٌ ، فَضَعُفَ الأَمنُ وَاشتَدَّ الخَوفُ ، وَعَمَّ الفَقرُ وَظَهَرَتِ الحَاجَةُ ، في صَحَارَى قَاحِلَةٍ أَو قُرًى فَقِيرَةٍ ، إِن ظَلَّ أَهلُهَا فِيهَا أَقَامُوا عَلَى شَظَفٍ وَجُوعٍ وَمَسغَبَةٍ ، وَإِن شَدُّوا الرِّحَالَ بَحثًا عَن لُقمَةِ العَيشِ تَفَرَّقُوا وَغَابُوا سَنَوَاتٍ طِوَالاً ، مَعَ أَمرَاضٍ وَأَدوَاءٍ وَأَوبِئَةٍ ، رُبَّمَا انتَشَرَت في قَريَةٍ أَو شَبَّت في نَاحِيَةٍ ، فَأَخلَت بُيُوتًا مِن أَهلِهَا ، وَأَكَلَت صِغَارًا وَكِبَارًا لم يَجِدُوا مَن يُدَاوِيهِم أَو يُؤوِيهِم ، بل حَتَّى السَّبِيلُ إِلى الحَجِّ وَزِيَارَةِ الحَرَمَينِ ، كَانَ لِوُجُودِ قُطَّاعِ الطُّرُقِ مَخُوفًا غَيرَ آمِنٍ ، الذَّاهِبُ فِيهِ كَالمَفقُودِ ، وَالعَائِدُ مِنهُ مَولُودٌ ، ثم أَذِنَ اللهُ بِاليُسرِ وَالفَرَجِ ، فَالتَمَّ الشَّملُ وَاجتَمَعَتِ الكَلِمَةُ ، وَتَبَدَّلَ الخَوفُ أَمنًا وَالجُوعُ شِبَعًا ، وَارتَفَعَ الفَقرُ وَزَالَ الوَبَاءُ ، وَحَلَّتِ العَافِيَةُ وَبُسِطَ الرَّخَاءُ ، وَعَادَ التَّشَتُّتُ اجتِمَاعًا وَالاختِلافُ تَآلُفًا ، وَالنِّزَاعُ تَلاحُمًا وَالقِتَالُ تَرَاحُمًا ، في دَولَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَتَحتَ قِيَادَةٍ وَاحِدَةٍ ، عَقِيدَةٌ صَحِيحَةٌ وَمَنهَجٌ وَسَطٌ ، وَشَرِيعَةٌ مُحَكَّمَةٌ وَحُدُودٌ مُقَامَةٌ ، وَمُجتَمَعٌ مُحَافِظٌ وَشَعَائِرُ مُعلَنَةٌ ، وَصَدَقَ اللهُ القَائِلُ : " أَوَلَم يَرَوا أَنَّا جَعَلنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِن حَولِهِم " أَلا فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، وَتَيَقَّنُوا أَنَّ أَكبَرَ نِعمَةٍ يَجِبُ عَلَى المُجتَمَعِ شُكرُهَا وَالمُحَافَظَةُ عَلَيهَا ، أَن يَتَمَسَّكَ أَهلُهُ بِعَقِيدَةِ التَّوحِيدِ وَشَرِيعَةِ الإِسلامِ ، وَيَلتَزِمُوا في مُعَامَلاتِهِم وَعِلاقَاتِهِم بما في الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، فَتُبنَي عَلَى ذَلِكَ عِلاقَةُ الرَّاعِي بِالرَّعِيَّةِ ، وَتُعرَفُ الحُقُوقُ وَتُرعَى الوَاجِبَاتُ ، وَتُنَظَّمُ شُؤُونُ الحَيَاةُ ، وَتُعمَرُ القُلُوبُ بِالمَحَبَّةِ وَالمُوَدَّةِ للهِ وَفي اللهِ ، وَيَسُودُ التَّكَافُلُ وَالتَّرَاحُمُ ، وَتُحفَظُ بِذَلِكَ نِعمَةَ اللهِ وَتَقوَى اللُّحمَةُ " الَّذِينَ آَمَنُوا وَلم يَلبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمنُ وَهُم مُهتَدُونَ " أَجَل أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، إِنَّ الاستِقَامَةَ على شَرِيعَةِ اللهِ هِيَ الَّتي تَضبِطُ المَسَارَ ، وَإِنَّ الإِيمَانَ هُوَ الَّذِي يُحَقِّقُ الأَمنَ لِلمُجتَمَعِ وَيَقِيهِ مِنَ الأَخطَارِ ، وَأَمَّا مَن تَخَلَّى عَن دِينِهِ وَكَفَرَ نِعمَةَ رَبِّهِ ، فَلا يَستَنكِرَنَّ أَن تُحِيطَ بِهِ المَخَاوِفُ مِن كُلِّ جَانِبٍ " وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم في الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دِينَهُمُ الَّذِي ارتَضَى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعدِ خَوفِهِم أَمنًا يَعبُدُونَني لا يُشرِكُونَ بي شَيئًا وَمَن كَفَرَ بَعدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ " فَاتَّقُوا اللهَ " وَاذكُرُوا إِذْ أَنتُم قَلِيلٌ مُستَضعَفُونَ في الأَرضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُم وَأَيَّدَكُم بِنَصرِهِ وَرَزَقَكُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُم تَشكُرُونَ" " وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذكُرُوا نِعمَةَ اللهِ عَلَيكُم إِذْ كُنتُم أَعدَاءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوَانًا وَكُنتُم عَلَى شَفَا حُفرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِنهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُم آيَاتِهِ لَعَلَّكُم تَهتَدُونَ . وَلتَكُن مِنكُم أُمَّةٌ يَدعُونَ إِلى الخَيرِ وَيَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ . وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاختَلَفُوا مِن بَعدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُم عَذَابٌ عَظِيمٌ "
الخطبة الثانية :
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ، وَاحمَدُوهُ وَاشكُرُوهُ ، وَاعلَمُوا أَنَّ الوَلاءَ وَصِدقَ الانتِمَاءِ ، وَالوَطَنِيَّةَ الحَقِيقِيَّةَ إِنَّمَا هِيَ في صِدقِ التَّمَسُّكِ بِالدِّينِ ، وَبِنَاءِ الوَلاءِ عَلَيهِ لا عَلَى مَصَالِحِ الدُّنيَا وَأَهوَاءِ النُّفُوسِ ، وَإِنَّ حُبَّ الأَوطَانِ يَكُونُ بِحِمَايَتِهَا مِنَ العَابِثِينَ ، الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَن تَنزِلَ بِهَا العُقُوبَاتُ ، بِإِغرَاقِ أَهلِهَا بِالمَعَاصِي وَالمُنكَرَاتِ وَالشَّهَوَاتِ ، فَاللهَ اللهَ بِالاستِقَامَةِ عَلَى الطَّاعَاتِ وَعِمَارَةِ المَسَاجِدِ بِالصَّلاةِ ، وَالبُعدِ عَنِ المُخَالَفَاتِ وَاجتِنَابِ السَّيِّئَاتِ ، وَلْنُرِبِّ الأَجيَالَ عَلَى المَعنَى الحَقِيقِيِّ لِلمُوَاطَنَةِ ، بِإِبعَادِهِم عَنِ الدِّعَايَاتِ المُضَلِّلَةِ ، الَّتي تَسُوقُهُم إِلى الفِتَنِ وَتَجُرُّهُم إِلى خَرَابِ البِلادِ وَفَسَادِ العِبَادِ ، لِنُحَصِّنِ الأَفكَارَ مِنَ الهَجَمَاتِ التِّقنِيَّةِ الَّتي جَعَلَت تُسَمِّمُ العُقُولَ وَتَسرِقُهَا ، وَتَحرِفُ السُّلُوكَ وَتَجرِفُ الأَخلاقَ ، وَحَذَارِ حَذَارِ مِن كُفرِ النِّعَمِ بِأَيِّ شَكلٍ كَانَ ، فَإِنَّ كُفرَ النِّعَمِ مُؤذِنٌ بِزَوَالِهَا وَاضمِحلالِهَا " لَقَد كانَ لِسَبَإٍ في مَسكَنِهِم آيَةٌ جَنَّتانِ عَن يَمينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِن رِزقِ رَبِّكُم وَاشكُروا لَهُ بَلدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفورٌ . فَأَعرَضوا فَأَرسَلنا عَلَيهِم سَيلَ العَرِمِ وَبَدَّلناهُم بِجَنَّتَيهِم جَنَّتَينِ ذَواتَي أُكُلٍ خَمطٍ وَأَثلٍ وَشَيءٍ مِن سِدرٍ قَليلٍ . ذلِكَ جَزَيناهُم بِما كَفَروا وَهَل نُجازي إِلاَّ الكَفورَ " "وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُم لَئِن شَكَرتُم لأَزِيدَنَّكُم وَلَئِن كَفَرتُم إِنَّ عَذَابي لَشَدِيدٌ "
المرفقات
1758204328_بلدة طيبة ورب غفور.docx
1758204329_بلدة طيبة ورب غفور.pdf