خطبة جمعة للدكتور / عبد الله بلقاسم (وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن)
أحمد بن علي الغامدي
(الخطبة الأولى)
الحمدُ لله، ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾، ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا﴾، ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۚ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
أشهد أن لا إله الا الله شهادةَ المعترِفِ بنعمه المُقِرِّ لفضله، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، وأشهد أنه إمامُ الحامدين وقدوةُ الشاكرين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الميامين، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. أما بعد:
فأوصيكم عبادَ الله ونفسي بتقوى الله جل وعلا، فاتقوا الله ﴿وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ ۖ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.
أيها المسلمون، يقول الله عز وجل: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾، هذا حديثُ أهل الجنة والنعيم، يقولون: "الحمد لله"، فحمدُ الله وشكرُه نعيمٌ في ذاته، فمَن رزقَه اللهُ حمدًا وشكرًا فقد رزقَه نعيمًا عاجلًا مِن نعيم الجنة قبل الممات، نعيمٌ حقًّا أن يرزق اللهُ الإنسانَ الشعورَ بالنعم والاعترافَ بها، أن يحس بما يغمرُه الله به من الفضل والنعمةِ والإحسان، أن يلتفت بعيون البصيرة إليها، أن يكون يقظًا لعالَم الثرواتِ التي تفيض عليه في كل طرْفةِ عين، في جسده، في قلبه، في ثيابه، في بيته، في أهله وولده، في كل شأن من شؤونه.
عباد الله :ولما كانت وظيفة الشكر سببًا لسعادة الإنسان في الدارين، توعد إبليسُ آدمَ وذريتَه أخبر الله عنه، قال الله عز وجل عن إبليس: ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾.
إنَّ الشيطانَ جادٌّ في إطفاء الشعور بالنعم في قلوبنا، وفي إيقاف ألسنتنا وجوارحنا عن حمد ربنا جلَّ وعلا.
جادٌّ في ضخِّ الأفكار الرديئة التي تشوّه مشهد النعم في حياتنا، ويا لَلْخسارةِ! لقد حقَّقَ إبليسُ مراده في كثير مِن الخَلْق، قال تعالى: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾.
ومِن كيد الشيطان أنه يوهم الإنسان ألا يشكرَ نعمةً إلا إذا تكاملَتْ كلُّ النعم، فلو فَقَدَ شيئًا واحدًا في حياته أَطْفَأَ أنوارَ النعم الأخرى، ولو مرض منه عضوٌ نسي ملايين الخلايا التي تتحرك في جسده بنعمة الله.
ولو نقص ماله نسي أنَّ ما معه -وإن كان قليلًا- فهو نعمةٌ هو عاجزٌ عن شكرها أصلًا. قال الله تعالى: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾.
عيونٌ لا ترى حولَها إلا المشاهدَ البائسةَ والمناظرَ المُحْزِنَةَ، وهي في الوقت نفسِه تتخطى كلَّ شيء جميل يَحُفُّ بها من كل اتجاه.
ومِن كيد الشيطان أن يوهم الإنسان أنَّ التوقفَ عن الشكر وأنَّ السخطَ والتذمرَ والتشكيَ سيخفِّفُ عنه مشاعرَه وآلامَه مِن نقص نِعَمِه، وهو إنما يدفعُه ليفقدَ المزيدَ منها.
فكلما غفل الإنسان عن شكر نعمة ربه تجدُه دائمَ التذمرِ والسخطِ من الحياة الخاصة والعامة، وقد نسي أنَّ كلَّ لقمة يأكلُها فهي نعمةٌ يجب شكرُها، وكلَّ لحظةِ أمْنٍ تمرُّ به فهي نعمةٌ مسؤولٌ عنها، وكلَّ طريقٍ سهلٍ يسلكُه، وكلَّ لباسٍ يلبسُه، وكلَّ دارٍ يسكنُها، فهي مِن نعم الله التي يجبُ شكرُها، ويجبُ حمدُ الله عليها.
عباد الله: صَفَّ النبيُّ ﷺ أصحابَه يومَ أُحُدٍ بعد استشهادِ سبعين منهم، سبعون من الصحابة قد ضُرِّجَت في الأرض دماؤُهم، وقُطِّعَت أجسادُهم، وهم أقاربُه وأحبَّاؤُه، ومع ذلك صفَّ الصحابةَ خلفَه قائلًا لهم: «استَوُوا حتى أُثنِيَ على ربي عزّ وجلَّ»، ثم قال ﷺ: «اللهم لك الحمدُ كلُّه، اللهم لا قابضَ لما بسطتَ، ولا مُقَرِّبَ لما باعدتَ، ولا مُباعِدَ لما قرَّبتَ، ولا مُعطِيَ لما منعْتَ، ولا مانعَ لما أَعطيتَ» إلى آخر ما دعا به ﷺ.
حمِدَ اللهَ رغمَ قربِ الجراح وكثرةِ الآلام، وشدةِ المصائب والبلاء.
الحمدُ لله، الحمدُ لله تملأ الميزان، املأْ بها ميزانَك، املأْ حياتَك بشكر ربك.
في كل ذرَّةٍ منك نعمة، في كل لحظةٍ منك نعمة، في كل ماضيك نعمة، في حاضرك نعمة، في دينك نعمة، في دنياك نعمة، نعمٌ عاجلةٌ وآجلةٌ.
اِحْمَد اللهَ تبارك وتعالى بالحمدِ الدائم والمستمر، قُلْها، قل: الحمد لله، الحمدُ لله.
قُلْها في صحتك وألمك، قُلْها في غناك وفقرك، قُلْها في ليلك ونهارك، قُلْها في راحتك وتعبك، قُلْها مع أحبتك وفي غربتك، قُلْها في جَمْعِكَ وفراقك، قُلْها في فرحك وحزنك.
الحمدُ لله تملأ الميزان، سبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض. الحمدُ لله رب العالمين.
كُنْ من الحامدين الذين بشَّرَهم اللهُ بالفوز العظيم ﴿وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
اُذْكُرْ نعمةَ الله عليك بلا توقُّفٍ، ذَكِّر بها أهلَك وأطفالَك، وعائلتَك وأصدقاءَك، واغمُرْ بها مجالِسَك.
إنَّ اللهَ يُحِبُّ الحمد، ويحبُّك إذا حَمِدتَّه، ويزيدُك ويسعدُك.
ساعِدْ مَن تحب ليرى نعمةَ الله عليه، ساعد المريضَ ليرى نعمةَ الله عليه في بقية جوارحه، ساعد الفقيرَ ليرى نعمةَ الله عليه في صحته.
تذكروا أيها المؤمنون أعظمَ نعمةٍ أنعمَ الله بها عليكم، هي نعمةُ التوحيد، نعمة "لا إله الا الله".
وقولوا: الحمد لله، فالحمدُ لله تملأ الميزان، والحمدُ لله رب العالمين.
(الخطبة الثانية)
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد:
فاتقوا الله حقَّ التقوى، واحذروا غضب ربكم، فإن أجسادكم على النار لا تقوى.
واعلموا أن الله تعالى أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنَّى فيه بملائكته فقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
الَّلهُمَّ اجْعَلْنَا مِمنْ خَافَكَ وَاتَّقَاكَ، اللَّهُمَّ اهْدِنا فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنا فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنا فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِنا فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنَا شَرَّ مَا قْضَيْتَ، إِنَّهُ لا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ.
اللهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادَك الصالحين، اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين.
اللهم فرج هم المهمومين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم برحمتك الأموات من المسلمين.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم وفق ولي أمر المسلمين لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة التي تعينه على الخير وتدله إليه، يا سميع الدعاء.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
وصلِّ اللهمَّ وسلِّمْ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
المرفقات
1750862829_وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن.docx