خطبة جُمعت من عدة خطب في التحذير من الظلم في الميراث

عبدالرحمن اللهيبي
1446/07/03 - 2025/01/03 09:48AM

الحمد لله الذي أمر بالعدل والإحسان، ونهى عن الظلم والطغيان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد : فأوصيكم أيها المسلمون ونفسي بوصية الله للأولين والآخرين : وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ

عباد الله: الظلم ظلمات يوم القيامة، وقد حرم الله الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرماً، فقال في الحديث القدسي: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا".

 

ألا وإن من أشد صور الظلم التي انتشرت في مجتمعاتنا، ظلم بعض الورثة لبعضهم بعَدَم الْعَدْلِ فِي الْمِيرَاثِ ، والتحايل والمكر في قِسْمَةِ التَّرِكَاتِ، والخيانة والخديعة في الاستئثار بما تركه الميت من أموال وممتلكات ، مما تسبب فِي الْكَثِيرِ مِنَ الشقاق وَالنِّزَاعَاتِ ، بَيْنَ الإخوة والأخوات، حَتَّى بَاتَوا أَعْدَاءً مُتَنَاحِريِنَ؛ وفرقاء متنازعين ، بدلا من أن يكونوا إخوة متحابين ، وذلك كله بِسَبَبِ الظُّلْمِ العظيم ، والبغي المبين في أَكْلِ حُقُوقِ الوارثين، فَكَمْ مِنْ امْرَأَةٍ ضعيفة حُرِمَتْ مِيرَاثُهَا زمنا طويلا من السنين ، وَكَمْ مِنْ أيتام أُكِلَتْ حُقُوقُهُم فباتوا من الفقراء المساكين ، حَتَّى آلَ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ يَتَنَاحَرَ أَبْنَاءُ الْأُسْرَةِ الواحدة بَعْدَ مَوْتِ مُورِّثِهِمْ ، وتقطَّعت أَوَاصِرُ الْمَحَبَّةِ بينهم .. وقد كانوا من قبل إخوة متآلفين

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ أَكْلَ حُقُوقِ الْوَرَثَةِ لجرم عظيم ، وَذَنْبٌ كبير ، وإثم وَبِيلٌ، ولا يجرءُ عليه مؤمن يعرف ما الذي سيلقاه من العقوبة في الدنيا والآخرة { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}، وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيمِ، وَالْمَرْأَةِ) أي أُحَذِّرُ وَأُلْحِقُ الْحَرَجَ وَالْإِثْمَ بِمَنْ أَضَاعَ حَقَّ الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ ، وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ تَعَالَى لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، مِثْلُ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ) فحَرِيٌّ بمن يقع في ظلم الورثة أَنْ يَعَاجِلَهُ اللهُ بِعُقُوبِةٍ فِي الدُّنْيَا قبل الآخرة ، فتنزع منه البركة في ماله وولد وصحته ، وتُحِيطُ بِهِ البلايا والمصائب ، وتحل به الأمراض والرزايا مِنْ حَيْثُ لا يَدْرِي، مَعَ مَا يَدَّخِرُه الله لَهُ من العذاب فِي الْآخِرَةِ

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَإِنَّ لِلتَّلَاعُبِ بِالتَّرِكَاتِ وَأَكْلِ حُقُوقِ الْوَرَثَةِ صَوَرًا مُتَنَوِّعَةُ وَأَشْكَالًا مُتَعَدِّدَةً وَحِيَلًا مُلْتَوِيَةً، فَمِنْ ذَلِكَ : تَأْخِيرُ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَهَذَا خَطَأٌ جسيم، وَذِلَكَ لِأَنَّ التَّرِكَةَ تَنْتَقِلُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَيِّتِ مُبَاشَرَةً إِلَى مُلك الْوَرَثَةِ ، وَعَلَيْهِ فالَوَاجِبُ الاستعجال فِي إِحْصَاءِ الْمَالِ وتدوينه ثُمَّ قِسْمَتُهُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ ، وكلما تأخر توزيع التركة كلما تسبب في مزيد من الخلاف والنزاع ، وقد يموت بعض الورثة محروما ثم يأتي له ورثة في نصيبه فيزداد الأمر شقاقا وتعقيدا ..

وَمِنْ أَسْبَابِ النِّزَاعِ فِي الْمِيرَاثِ: تمكين الأب لأَحَدِ أَبْنَائِهِ في التصرف المطلق بأَمْلَاكِهِ ، وَرُبَّمَا أَخْفَى هَذَا الابْنُ فيما بعد بَعْضَ الْأَمْوَالِ والممتلكات إِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ الْأُمَنَاءِ ، أَوْ رُبَّمَا تحايل في الاستئثار بها أو تحويل بعض الإيرادات لحسابه أو نقل بعض الأصول إلى ممتلكاته ، أو عدم الأمانة في تدوين الحسابات أَوْ رُبَّمَا أَخْفَى بَعْضَ الصُّكُوكِ وَالْمُسْتَنَدَاتِ فَتْرةً طَويلَةً لاسْتِغْلَالِ بَعْضِ الْعَقَارَاتِ والانتفاع بها أو بإيجارها، وَقَدْ يُوجَدُ من بين الورثة قُصَّرٌ يَعِيشُونَ فَقْرًا، فيعتاشون على صَدَقَاتِ الْمُحْسِنِينَ مع أن نصيبهم من التَّرِكَة يُغْنِيهِمْ

وَمِنْ صور الظلم وأَسْبَابِ النِّزَاعِ فِي الْمِيرَاثِ : إِلْجَاءُ بَعْضِ الْوَرَثَةِ لِيَتَنَازَلَوا عَنْ بَعْضِ حَقِّهِم بأنواع من الضغط والخداع والحيل ، وقد يضطر المحتاجون مِنْهِمْ للتنازل والقبول

وَمِنْ صور الظلم وأَسْبَابِ النِّزَاعِ فِي الْمِيرَاثِ : أن يقوم بَعْضُ الوَرَثَةِ، مِمَّنْ وسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ، بطلب إِقَامَةِ أَوْقَاف لبعض عقارات المورث ، أَو بناء مساجد أو تَقْدِيْمِ صَدَقَاتٍ عَنْه، في الوقت الذي قد يكون فيه بعض الورثة فقيرا محتاجا ، فَيَأْخُذَ أَمْوَالَهُم، بِسيف الحَيَاءِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ، بَلْ هُوَ مِنَ الظُلْمِ، وَإِنْ كَانَ وَلَابُدَّ فَاعِلاً، فَلَا يطلب منهم هَذَا إِلَّا بَعْدَ تَقْسِيْمُ المِيْرَاثِ عليهم ، وَإِعْطَاءِ كُلَّ ذِيْ حَقٍّ حَقَّهُ، ثم بعد ذلك يعرض عليهم طلب التبرع منهم كَمُقْتَرَحٍ لهم ، وَكُلّ يُخْرِجُهَا بما تَجُودُ بِهِ نَفْسَهُ.

وَمِنْ صور الظلم وأَسْبَابِ النِّزَاعِ فِي الْمِيرَاثِ : أن يستخدم بعض الورثة سلطة الأُمِّ عَلَى أخوته، بِأَنْ يَتَنَازَلُوا عَنْ بعض نَصِيْبِهِم ، أو يَسْتَغِلُّ أحدهم قُوَّةَ عِلَاقَتِهِ مَعْ وَالِدَتِهِ، فَيُسَيْطِرُ عَلَى المَنْزِلِ، وَيَعِيْشَ هُوَ وَأَوْلَادُهُ مَعْ وَالِدَتِهِمْ فِيْ هَذَا البَيْتِ، مُبَرِّرَاً ذَلِكَ بِحَاجَةِ وَالِدَتِهِ ، وَلَو كَانَ صادقًا فِيْ بِرِّهِ، لِدَفْعِ لَهُمْ إِيْجَارُ بَقَائِهِ وَأَولَادهِ، وَقَدْ تَكُونُ بَعْضِ المُتَزَوِجَاتِ أَو المُتَزَوِجِينَ مِنَ الوَرَثَةِ، مِنْ أَحْوَجِ النَّاسِ إِلَى نَصِيْبهُم مِنْ هَذَا البَيْتِ، أَوْ عَلَى الأَقَلِ من ثَمَن إِيْجَاره.. ولكنهم يُحرمون من حقهم ونصيبهم من خلال استغلال عاطفتهم وإحراجهم

وَمِنْ صور الظلم وأَسْبَابِ النِّزَاعِ فِي الْمِيرَاثِ: أن يميل المتصرف في الميراث لِإِخْوَتِهِ الْأَشِقَّاءِ، ويهضم في المقابل حقوق إِخْوَتِه وَأَخْوَاتِهِ مِنَ الزَّوْجَةِ الثَّانِيَةِ

وَكل هَذَا من الجرم العظيم والظُلْم المبين

فيا من استولَى على ميراثِ الأيامَى واليتامَى، وغرَّه صِغَرُهم وعجزُهم.. تبَّت يداكَ، وخابَ مسعاك، ودامَ شَقاك.

ويا مَن استولَى على ميراث الإناث، وأغراهُ ضعفُهنَّ وسُكوتُهنَّ وحياؤُهنَّ ..

بالله .. كيف طابَت نفسُك أن تستولِيَ على أموال إخوتك من الضعفة والعيال، لتُلجئهم إلى الفقر والعوز والضَّياع؟!

ويلٌ لك وويلٌ عليك، فاتَّقِ الله مولاك.. قبل أن يحِلَّ بك الخِزْيُ والهلاك، وخُذ الأمرَ بأمانة وتقوى، وأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه ، ولا تظلِم بالتسويفِ والإبطاءَ ؛ فإن الآفاتِ تعرِض، والموانِعَ تمنَع، والموتُ يأتي بغتَة والقبر صندق العمل ، والمرء مرتهن يوم القيامة بما عمل..

أقول قولي هذا ..

 

 

 

 

 

 

 

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عباد الله وَاحْذَرُوا مِنَ التَحَايُلِ فِي قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ وَأَكْلِ أَمْوَالِ الْوَرَثَةِ بِالْبَاطِلِ، واعلموا أن مِمَّا يَدفَعُ النِّزَاعَ بَينَ الوَرَثَة: الخَوفُ مِنَ العُقُوبَةِ والهَلَكَةِ، لِـمَنْ تَعَدَّى على الإرث والتَّرِكَةِ! فإن الله تعالى قال في آخر آيات الموارِيث من سُورة النساء: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ )

ومِمَّا يَقْطَعُ النِّزَاعَ بَينَ الوَرَثَة: أَنْ يُوَثِّقَ الأبُ (في أَثنَاءِ حَيَاتِهِ): جميعَ الحُقُوقِ الَّتي لَهُ وعليه، وأن يكون جميعُ أبنائه على بينة من ذلك ، وأن لا يعطي الأب لأحدهم مطلق التصرف في ماله أو يجعله وصيا لوحده على ممتلكاته ، كما يجب على الأب أن يكتب وصيته مفصلة بكل وضوح مبينا فيها جميع أمواله وممتلكاته وأن يشهدهم عليها ، حفظا للحقوق ، وحرصا على أخوة أبنائه ، وحتى لا يتنازعوا من بعده ، فَكَمْ من أخوة قُطِعَتْ؟! وَكَمْ من روابط تَمَزَّقَتْ؟ بسبب تقصير الأب في توثيق ممتلكاته ..

فاتقوا الله أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ واعلموا أن قِسمةَ الميراث شريعةٌ نازِلة، وفريضةٌ عادلة، ومن احتالَ عليها ، أو أجحفَ في تقسيمِها ، أو أخفَى أصولَها وأعيانَها، أو غيَّبَ وثائقها ومستنداتها، أو استأثرَ بالتصرُّف فيها، أو ماطلَ في قسمتِها، ورام استِغلالها، أو ألجأَ بعض الورثة إلى التنازُل عن جزء من حقه ونصيبه، فقد تعدَّى حُكمَ الله وفريضتَه ، وليعلم حينها أن مِيرَاثَ الدُّنيَا بِأَجْمَعِهَا؛ لا يُسَاوِي لَحظَةً واحدةً في نَارِ جَهَنَّم!

ومَا الدُّنيَا والله بِبَاقِيَةٍ لأَحَدٍ وَلَو طَالَت ، وَلا المَالُ بِنَافِعٍ مَن أَخَذَهُ مِن غَيرِ حِلِّهِ وَلَو كَثُرَ

وَإِنَّ مِن وَرَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا مَوتًا وَقَبرًا وَحَشرًا ، وَجَزَاءً وحسابا ، وَثَوَابًا وعِقَابًا ، فَلْيَقِفْ كل منا عِندَ حَدِّهِ ، وَلْيَكتَفِ بِنصيبه وحَقِّهِ ، وَلْيَعدِلْ وَلا يَظلِمْ ، فَإِنَّ الظُّلمَ ظُلُمَاتٌ يَومَ القِيَامَةِ ..

فَاللَّهُمَّ إِنَّا نَسأَلُكَ أَن تُبَصِّرَنَا بِالحَقِّ الذي علينا ، وَأن تُعِينَنَا عَلَى أَدَائِهِ ، وَأَن تَكفِيَنَا بِحَلالِكَ عَن حَرَامِكَ ، وَأَن تُغنِيَنَا بِفَضلِكَ عَمَّن سِوَاكَ

هذا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ، وَسَيِّدِ الأَبْرَارِ؛ كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، فَقَالَ سبحانه : إِنَّ اللَّه وملَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا

المشاهدات 708 | التعليقات 0