خطبة دروسٌ وعبر من يوم عاشوراء، وفضل صومه.

عادل بن عبد العزيز الجهني
1447/01/09 - 2025/07/04 06:20AM

خطبة دروسٌ وعبر من يوم عاشوراء، وفضل صومه.

 


عباد الله

يتكرر على المسلمين في كلِّ عام يومٌ فيه دروس وعبر، وذكريات تبعث التفاؤل في نفوس المؤمنين في حُسن المآل، وتُنزل مع تدارسه السكينة في القلوب، ويزداد معه اليقين بموعود نصر الله للمؤمنين، هذا اليوم -أيّها المسلمون- هو يوم عاشوراء وهو يوم العاشر من شهر الله المحرم، والذي يوافق هذا العام يوم غدٍ.

 


أيّها المؤمنون

إنّ الصراع بين الحق والباطل أزلي، فقد قضاه اللهُ ليكون سنّةٌ ثابتة على مدى الأزمان، والعاقل من وُعِظ بغيره.

لقد بعث موسى عليه السلام في زمانٍ كان فيه فرعون في أوجِّ طغيانه، وفي أظهر صور تكبره وغطرسة حتى أنّه وصل إلى مرحلة القتل والسبي الذي هو أشدُّ ما يكون على الأمّة المستضعَفة، قال الله عن هذا الطغيان: ﴿وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِ ٱذۡكُرُوا۟ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ إِذۡ أَنجَىٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ یَسُومُونَكُمۡ سُوۤءَ ٱلۡعَذَابِ وَیُذَبِّحُونَ أَبۡنَاۤءَكُمۡ وَیَسۡتَحۡیُونَ نِسَاۤءَكُمۡۚ وَفِی ذَ ٰ⁠لِكُم بَلَاۤءࣱ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِیمࣱ ﴾ [إبراهيم: ٦]

فكان يسعى في إفناء هذه الأمّة وإضعافها ولكنّ الله غالب على أمره ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون.

ولقد قضى اللهُ أن يمنّ على هذه الأمّة المستضعفة فنصرها من حيث لا تحتسب ج، وأهلك فرعون ومن معه ومكر بهم من حيث لا يشعرون، قال اللهُ: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ وقد فعل تعالى ذلك بهم، كما قال: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ﴾

لقد كان هلاك فرعون عجيبٌ كل العجب، ولكن لا عجب في أمر الله فهو القدير على كلِّ شيء، وهو الذي يمكر بالقوم الكافرين لا ستحقاقهم لذلك.

ولقد كان هلاك فرعون على يد هذا الرسول الكريم الذي قتل بسببه فرعون الكثير من أطفال بني إسرائيل، ولكنّ الله يجعله هو من يُربيه ويغذيه ويعتني به حتى يشب ويكبر ليكون حتفه على يديه.

لقد أهلك اللهُ فرعونَ في يوم عاشوراء، فصار ذكرى باقية لهلاك الطغاة، ونجاة المستضعفين، روى البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما قَالَ: "قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَه عَيهِ سَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ مَا هَذَا؟ قَالُوا : هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللّهُ بَنِي اِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى، قَالَ: فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ فَصَامَهُ وَأمَرَ بِصِيَامِهِ" وفي رواية مسلم «هذا يوم عظيم أنجى اللّٰه فيه موسى وقومه وغرّق فرعون وقومه".وزاد مسلم -أيضًا- في روايته: "شكراً لله تعالى فنحن نصومه" وفي رواية للبخاري: "ونحن نصومه تعظيما له" وفي رواية للبخاري أيضا: "فقال لأصحابه أنتم أحق بموسى منهم فصوموا"

عباد الله

في يوم عاشوراء عِبر ودروس للمتأملين، يتلمّسها المؤمن، ويستلهم منها العِبر.

ففي مثل هذا اليوم كان ظهور قدرة اللّٰه عَياناً لأصحاب موسى عَلَيْهِ السَّلَامُ ولأعدائهم، وهي متجدّدة كل يوم، فقد توقفت كلُّ الأمور المادية المحسوسة، وكانت خارقة فلق البحر التي جعلها اللّٰه آية باقية للعباد.

وفي مثل هذا اليوم: توقن من منزلة الإيمان ورفعة صاحبه وثقته بربه، فأصحاب موسى قالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} ولكنّ نبي اللّٰه موسى عَلَيْهِ السَّلَامُ الذي كان على يقين من قدرة ربه، وأنّه قادرٌ على أن ينجيه بسبب وبلا سبب، وبما يخالف الطبيعة وبما يوافقها لأنّه ربّ الكون وما فيه، فقال: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِىَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}

وفي مثل هذا اليوم: كان دخول أرواح آل فرعون النّار في ألم أبدي لا ينتهي، وعذاب سرمدي لا ينقضي، فأيّ مصيبة جنوها على أنفسهم، ووالله إنّي المرء ليُدركه من الخوف ما يُدركه، وهو يتذكر تلك الأروح الشريرة وهي تدخل ذلك العذاب الأبدي السرمدي ولا تخرج منها أبدا، فهم من آلاف السنين يذقون العذاب الأليم كل يوم حتى إذا كان يوم أُدخلوا أشدّ العذاب، فما أشنع ذنب الكفر، وما أفظع عاقبة أهله وسوء مآلهم.

وفي مثل هذا اليوم توقنُ أنّ اللّٰه ناصر أوليائه -ولو بعد حين-، فلا تستعجل الأقدار وإنّما انظر للعواقب الحسنة لها، فموسى عَلَيْهِ السَّلَامُ يُنصر بعد سنوات من الآلام والاضطهاد.

وفي مثل هذا اليوم تعرف فضل الإيمان، وشؤم الكفر، فيُكتب اللهُ للمؤمنين لسان صدق في الدنيا وحسن المآل في جنّات النعيم في الآخرة، أمّا فرعون وقومه فأتبِعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين المخذولين المعذَبين.

وفي مثل هذا اليوم كان نهاية فرعون بشَرْقة ماء ليكون أذل ما يكون، فكلُّ مغرور مستكبر على ربه لا يساوي عند الله شيئًا، ولكنّ اللهُ يُؤخر عذاب مثل هؤلاء لحِكم لا تُدرك العقول إلا بعضها.

وفي مثل هذا اليوم تتعرّف على شيء من حكم اللّٰه في أقداره، فيتأخر النصر لموسى عَلَيْهِ السَّلَامُ حتى يقع كاملاً موفوراً، فإن تأخرت لك بعض المطالب فستأتيك -بإذن الله- كأكمل ما يكون، فاصبر فلا يُقدّر اللهُ لك إلا خيرًا.

وفي مثل هذا اليوم تتذكر أنّ تدبير الله فوق كلَّ تدبير، فطريقة هلاك فرعون ونجاة موسى كانت بأمور لا تُقاس بالأسباب الحسية ولا بالعقول البشرية.

فلا تقيس أفعاله -سبحانه- بأفعال البشر، أو بما يمليه عليك عقلك البسيط، فإنّ هذا من أكبر معضلات أهل عصرنا، ومِنْ سلِم منها سلم وعوفي.

في مثل هذا اليوم بدأت صفحة جديدة لبني إسرائيل بإكرام اللّٰه لهم، وإنجائهم من عدوهم، ولكنّهم نكصوا على أعقابهم، فخذلهم اللّٰه بسبب ذنوبهم، وعاقبهم في الدنيا والآخرة، فليحذر المؤمن من الذنوب والمعاصي والتعدّي على حرمات اللّٰه ومخالفة أمره.

عباد الله

دروس يوم عاشوراء لا تنتهي ولا تنقضي لكل متأمّل ومتبصِّر، فاللهم ارزقنا البصيرة والاعتبار.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، وطوبى للمستغفرين.

 


الخطبة الثانية/

عباد الله

كان النبي صَلَّ الَهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتحرى صيام يوم عاشوراء لما له من المكانة

في الشريعة، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسِ رضي اللهُ عنهما قال: "ما رَأَيْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَتَحَرَّى صِيَامَ يَومٍ فَضَّلَهُ علَى غيرِهِ إلَّا هذا اليَومَ؛ يَومَ عَاشُورَاءَ، وهذا الشَّهْرَ. يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ" رواه البخاري.

فانظر كيف يحكي ابنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما حال النّبيّ صلّى اللهُ عليه وسلم مع صيام عاشوراء، وأنَّه ما رَأه يَقصِدُ ويُبالِغُ في طَلبِ صِيامِ يومٍ فضله على غيره ظاهر إلَّا يومَ عاشوراءَ، وما ذاك إلا لفضيلته وميزته عن سائر صيام الأيّام الفاضلة، وقد جاء في فضله مارواه أبو قَتَادَة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: "صِيَامُ يَومِ عَاشُورَاءَ، أَحتَسِبُ عَلَى اللهِ أَن يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبلَهُ" أخرجه الإمام مسلم.

فانظر لهذا الفضل العظيم لصيام هذا اليوم المبارك، فصيامه يُكفّر ذنوب عامٍ مضى، وهذا من فضل الله، وكمال رحمته، وسعة جوده.

ساعات معدودات يصومها العبد فتكون سببًا لتكفير خطايا عام، وقبل أيام صام المسلمون يوم عرفة والذي يُكفّر ذنوب عامين، وكلُّ هذا من تتابع الفضل على العباد، فتعرّضوا -رحمني الله وإيّاكم لهذه الرحمات-، ولا تفوّتوا هذه الفضائل، فالمحروم من حُرمها وفرّط فيها وتكاسل عنها.

 


ألا وصلوا وسلموا على نبينا محمد النبي الكريم فقد أمركم الله بذلك في كتابه الكريم، فأتمروا بأمره، ففي اتباعه الفلاح والخير وحسن العاقبة والمآل.

المشاهدات 657 | التعليقات 0