خطبة عِبر وعظات أول جمعة عام 1447
حسين بن حمزة حسين
1447/01/01 - 2025/06/26 15:36PM
الحمد لله مُقلِّبِ الليلِ والنهار، ومصرِّفِ الأيامِ والأعمار، يُحيي ويميت، وإليه المرجع والمآل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد، إخوة الإيمان: طُويت صفحة عام، ونستقبل عامًا جديدًا، مضى عام كبير بأحداثه، عظيم بتقلّباته، فكم من حبيبٍ وغالٍ كان بيننا واليوم غاب، وكم من صغير أصبح شاباًّ، والشّابُّ شاب، وكم من شائبٍ ضعُفت قوته، ووهنَت عضلاته، وبان أثرُ طول العمر على وجهه وبدنه وعقله، سَنَةٌ مضت على هذا العالم، فكم من دولٍ سقطت، وراياتٍ ارتفعت، وكم من نارٍ اشتعلت وسكَنَت، وكم من دماءٍ أُريقت، ونفوسٍ أُزهقت، وأموالٍ فُقدت، كم من مآسٍ رأيناها، وفواجعٍ سمعناها، لكن رغم كل ذلك، فإن الله هو المدبّر، الحكيم في قضائه، الرحيم في ابتلائه، العليم بما مضى وما هو آتٍ. مرّت سنة كاملة، ونحن في نعم لا تُعدّ ولا تُحصى، من حولنا حروب وأوجاع ومجاعات، ونحن في أمن وإيمان، وستر وأمان، أفلا نشكر؟ أفلا نرجع إلى الله؟ فإن بالشكر تدوم النعم، وبالكفر ذهابها، قال تعالى (وإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) إخوة الإيمان: ها نحن نطوي عامًا من أعمارنا، عامًا مضى بكل ما فيه، أفراحه وأتراحه، ضحكاته ودموعه، أيامه ولياليه، ولن يعود أبداً، مرّ العام ونحن نغدو ونروح، في شُغْلٍ في أمور دنيانا ناسين متناسين أن الزمن يمضي بأعمارنا إلى آجالنا، نسكن الدور والقصور وسنرحل عنها إلى القبور، وسنقيم بدار ظلام لا نور فيها إلا نور الإيمان، دار موحشة ضيّقة لا سعة فيها إلا بما قدمنا من أعمال صالحات، والموت يأتي فجأة، بلا موعد، بلا إذن، لا يقبل اعتذاراً ولا تأجيل، ثم تُفتح الجنازة، يُوضع الجسد، يُغطّى الوجه، يُنادى بالصلاة، ثم يُسحب الإنسان بعيدًا عن الدنيا، إلى أول منازل الآخرة!، ستُحمل على الأكتاف، سيغسّلك وينزلك إلى قبرك أحب الناس إليك، تأمّل يا عبد الله: حين تموت، سيغسّلك أحبّ الناس إليك، ذاك الذي كنت لا تطيق أن يبتعد عنك، ويُؤذيك أن تُمسّه إبرة، هو نفسه من سيقبّل رأسك، وسيُقلّبك بيديه على لوح الغُسل وفاءً لك، ويصب الماء على جسدك البارد، ويُمرر الكفن فوق أطرافك وفاءً بحقّك وإكراماً لك، سيحملك إلى قبرك من كنتَ ترجوه لشدائد الدنيا، سينزلك إلى ظلمة الحفرة، ويضع عليك التراب، وتتنهّدُ روحه عليك بالبكاء، لكنه سيرحل، سيرحل، ويتركك وحدك، في دار لا أُنس فيها ولا ونيس، إلا ما قدّمت لنفسك في دنياك من عمل وقال تعالى﴿ وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ فيا من أخرّ التوبة، وركن إلى الشهوات، وخدعه طول الأمل، أرجع إلى الله قبل أن تُرجَع إليه، وابكِ على نفسك ما دمت حيًا، فسيأتي يوم لا تُمهل فيه ، والله، لو علمتَ متى يأتي أجلك، لبكيْت على كل لحظة ضاعت منك في لهوٍ أو معصية! ﴿وَجَآءَتْ سَكْرَةُ ٱلْمَوْتِ بِٱلْحَقِّ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾. الخطبة الثانية: انظروا إلى أولئك المرضى، من شارفوا الموت، في المستشفيات في قسم العناية المركّزة، على الأسرة البيضاء، بين ألمٍ وأنينٍ وصمْت، أجسادهم موصولة بالأجهزة من كل جانب، أنفاسهم تُقاس بالأرقام، ونبضاتهُم مراقَبَةٌ كأنها على حافة الرحيل، يحاربون الموت بأمل ضعيف، يحاربونه بنظرة رجاء، بدعوة أم، بدمعة قريب، بصدقةٍ ودواء، لكن لا أحد منهم يملك القرار… الأمر كله بيد الله، ونِعم بالله، أخي بالله، ماذا لو كُتب لأحدهم النجاة؟، ماذا لو عادت إليه العافية؟ ماذا سيفعل؟ هل سيعود لما كان عليه من غفلة ولهو؟، أم سيُسابق إلى التوبة والرجوع إلى الله عز وجلّ، فهل تنتظر المرض حتى تعرف قيمة التوبة؟ أم تنتظر الرحيل؟، قال تعالى ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) إن المؤمن لا يودّع أيامه بالحسرة فقط، بل بالمحاسبة، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:(حاسِبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن تُوزن عليكم)، لا تكن من الذين قال الله فيهم ( ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)، وقال رسول الله ﷺ: “اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك.” [رواه الحاكم]. اللهم لا تجعلنا من الغافلين، اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، ولا تقبضنا إلا وأنت راضٍ عنّا، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر، والفوز بالجنة، والنجاة من النار