خطبة مع الوالدين إما برُّ أو عقوق

حسين بن حمزة حسين
1447/02/21 - 2025/08/15 01:26AM
الحمد لله الذي أمر ببر الوالدين، وجعل ذلك من أعظم القربات، ونهى عن عقوقهما وجعل ذلك من أكبر الكبائر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. إخوة الإيمان: إن من أعظم الحقوق وأكبر الواجبات التي بين الناس حق الوالدين، قرنه الله جلّ جلاله بحقّه وقضى وثنّى به وحَكَم ووصّى عباده المؤمنين، قال تعالى: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾، وقال تعالى ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾، وقَالَ تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾، كَمَا قَرَنَ شُكْرَهُ بِشُكْرِ الْوَالِدَيْنِ؛ فَقَالَ تعالى: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾، وَجَعَلَ تعالى برَّ الوالدين من أَحَبِّ الأَعْمَالِ لَهُ سُبْحَانَهُ بَل وقدّمه على الجهادِ في سبيل الله، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَقْبَلَ رَجُلٌ إِلَى نَبِيِّ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ أَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ اللهِ، قَالَ: «فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ، بَلْ كِلاَهُمَا، قَالَ: «فَتَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ اللهِ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ، فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا» متفق عليه. إخوة الإيمان: ويكون برّ الوالدين، بالإحْسانِ إليهم، والقيامِ بحقُوقهم، وتَرْكِ عُقُوقِهم، وكفّ الأذى عنهم، وطاعتهم في غير معصية لله عز وجل، فلا طاعَةَ لمَخْلوقٍ في مَعْصيَةِ الخالِقِ، قال تَعالى: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)، ويُقدَّمُ رِضاهم وطاعتهم وقضاء حاجاتهم على جميع الطاعات وأنواع العبادات ما لم تكن الفرائض. إِخْوَةَ الإِيمَانِ: يَتَأَكَّدُ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ عِنْدَ بُلُوغِهِمَا أَوْ بُلُوغِ أَحَدِهِمَا سِنَّ الْكِبَرِ، فَقَدْ يَكُونُ مِنْهُمْ الْقَعِيدُ وَالْمَرِيضُ، بَلْ وَمِنْهُمْ مَنْ رُدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا، حَتَّى يَكُونَ كَالطِّفْلِ الصَّغِيرِ فَاقِدِ الأَهْلِيَّةِ، يُطْعمُ ويُسْقى طعامُه وَشَرَابُهُ، بَلْ وَتُحْمَلُ الْعَذِرَةُ مِنْ تَحْتِهِ، تَدَبَّرْ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ﴾، فَفِي كَلِمَةِ "عِنْدَكَ" إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللهَ يُرِيدُكَ قَرِيبًا مِنْ وَالِدَيْكَ عِنْدَ ضَعْفِهِمَا وَحَاجَتِهِمَا بَعْدَ مَا كَانَا أَغْنَى النَّاسِ عَنْكَ بِعَافِيَتِهِمَا، يُرِيدُكَ تَعَالَى أَنْ تَرْعَاهُمَا وَتَخْدِمَهُمَا بِنَفْسِكَ، لَا أَنْ تَتْرُكَهُمَا لِغَيْرِكَ، فَأُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ فِيهِمَا، فَهَذَا زَمَنُ الْوَفَاءِ وَرَدِّ الدَّيْنِ، لَا تَتْرُكُوهُمْ وَحْدَهُمْ، لَا تَتْرُكُوهُمْ مَعَ الْخَدَمِ دُونَ حَسِيبٍ وَلَا رَقِيبٍ، وَتَحْسَبُونَ أَنَّكُمْ وَفَّيْتُمْ حَقَّهُمْ، لَا تَتْرُكُوهُمْ يَتَأَلَّمُونَ مِنْ أَمْرَاضٍ وَإِهْمَالٍ وَأَنْتُمْ تَسْتَطِيعُونَ رَفْعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، لَا تَبْخَلُوا عَلَيْهِمْ بِأَمْوَالِكُمْ وَعَطَايَاكُمْ وَخُصُوصًا وَقْتَ الضَّرُورَةِ مِنْ عِلَاجٍ وَغِذَاءٍ، تَنَافَسُوا فِي بِرِّهِمْ وَخِدْمَتِهِمْ، تَذَكَّرُوا فَضْلَهُمْ عَلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ صِغَارًا وَكِبَارًا، وَكَمْ آثَرُوكُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَاذْكُرُوا كَمْ صَبَرُوا عَلَيْكُمْ وَضَحَّوْا مِنْ أَجْلِكُمْ، أَعْطَوْكُمْ كُلَّ أَعْمَارِهِمْ، وَوَاللهِ لَنْ تُجَازُوهُمْ حَقَّهُمْ وَلَوْ حَمَلْتُمُوهُمْ عَلَى ظُهُورِكُمْ وَجَعَلْتُمْ خُدُودَكُمْ لَهُمْ أَرْضًا وَأَبْدَانَكُمْ وِطَاءً، وَمَا نَدِمَ أَحَدٌ أسفاً وَحُزْنًا مَا نَدِمَ مُفَرِّطٌ فِي بِرِّ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا كَانَ فِي حَاجَتِهِ وَفَرَّطَ حَتَّى ذَهَبَ وَمَاتَ إخوةَ الإيمانِ: أيُّها الأبناءُ والبناتُ المتزوِّجونَ، لا تُدخِلوا آباءَكُم في مَشاكِلِكُم وخِلافاتِكُم فيما بَيْنَكُم وبينَ زَوجاتِكُم وأهْلِيكُم إلَّا في الضَّرورةِ القُصوى، مُتيقِّنِينَ فائدةَ تَدخُّلِهِم، لا تكونوا سببا فس غمّهم ونكدهم بنقل الأخبار التي تغمُّهم وتنكّد عليهم لا دخْل لهم فيها، لا تَرْفَعُوا أَصواتَكُم لأيِّ سَبَبٍ كان بحُضورِ أَبَوَيْكُم أو أَحَدِهِم، وخُصوصًا وقتَ الخِصامِ، فيَنْزِلُ الأَسَى والأَسَفُ في قُلوبِهِم، ويَنْزِلُ غَضَبُ اللهِ عَلَيْكُم لِعُقوقِكُم، ومِنَ الأَبناءِ - هَداهمُ اللهُ- مَن جَعَلَ بَيْتَ الأَبَوَيْنِ حَضانةً لِأَبْنائِهِ كُلَّما غَضِبَ مِن زَوجَتِهِ أو خَرَجَ مِن مَنزِلِهِ، ترَك أَبناءَهُ في بَيْتِ أَبَوَيْهِ، وكَأَنَّ المَسؤوليَّةَ على والِدَيْهِ، وواللهِ إنَّ ذلكَ مِنَ العُقوقِ إذا كان مِن غَيْرِ رِضاهُم وتَحميلُهُم فَوْقَ طاقَاتِهِم، واعلَمُوا أنَّ بَيْتَ العائِلَةِ الَّذي يَجْمَعُ الأبناءَ والبناتِ والأحفادَ، هو بَيْتُ الوالِدَيْنِ، فأعِينُوهُم وقتَ الزِّيارةِ، واحْذَرُوا أنْ تُتْعِبُوهُم وتُكَلِّفُوا عَلَيْهِم، واجْعَلُوا البَيْتَ فَرْحَةً بجَميلِ الكَلامِ وحُسْنِ اللِّقاءِ، ولا تَجْعَلُوهُ تَرْحَةً فتَرْتَفِعُ الأصواتُ بالمَشاكِلِ والخِلافاتِ أمامَ الوالِدَيْنِ، لا تجادلوهم وتؤذُوهم بجدالكم، ولا تَكونُوا أنتم سَبَبَ شَقائِهِم وأَذاهِم، وأَعِينُوهُم في تَرْبِيَةِ إخوانِكُم الصِّغارِ، وقُومُوا بشُؤونِهِم، وأَشْعِرُوهُم بِبِرِّكُم، فَهُمْ يُحِبُّونَكُم ويُحِبُّونَ أَبناءَكُم، فأَعِينُوهُم ويَسِّرُوا عَلَيْهِم، وأَكْثِرُوا مِن شُكْرِهِم والدُّعاءِ لَهُم وذِكْرِ فَضْلِهِم، فمَن لا يَشْكُرِ النّاسَ لا يَشْكُرِ اللهَ. –....أقول...
الخطبة الثانية: أيُّهَا الآبَاءُ، أَعِينُوا أَبْنَاءَكُمْ عَلَى بِرِّكُمْ، وَاغْرِسُوا البرّ فِي قُلُوبِهِمْ، بِأَفْعَالِكُمْ قَبْلَ أَقْوَالِكُمْ، فَكُونُوا أَنْتُمْ بَارِّينَ بِآبَائِكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنَ الآبَاءِ مَنْ يَصْعُبُ بِرُّهُ وَكَسْبُ رِضَاهُ، غَلِيظُ الطَّبْعِ، سَرِيعُ الغَضَبِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ، فالبرّ الآن مِنْ أَشَدِّ وأصعب أَنْوَاعِ البِرِّ، وَالصَّبْرُ عَلَيْهِ وَاحْتِسَابُ الأَجْرِ أَعْظَمُ مُوَاسَاةٍ لِلْبَارِّ. وَلْيَتَذَكَّرْ مَنْ يَبُرّ وَالِدَيْهِ وهذا طبْعُهم أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَت الخِدْمَةُ أَشَدَّ تَعَبًا، كَانَ الأَجْرُ أَعْظَمَ وَالثَّوَابُ أَجْزَلَ، وَهَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ؟ وَرُبَّمَا يَكُونُ هذا البرّ هُوَ البَابَ الَّذِي تَدْخُلُونَ مِنْهُ إِلَى الجَنَّةِ، وَصَبْرُكُمْ سَبَبًا لِفَتْحِ أَبْوَابٍ مِنَ الرِّزْقِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ. وَاسْأَلُوا البَارِّينَ كَمْ فَرَّجَ اللهُ عَنْهُمْ هَمًّا، وَبَسَطَ لَهُمْ رِزْقًا. قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾. فَالْبِرُّ شَأْنُهُ عَظِيمٌ إِذَا أَخْلَصَ فِيهِ العَبْدُ لِلهِ، فَفِيهِ مَغْفِرَةُ الذُّنُوبِ، وَدُخُولُ الجَنَّةِ. قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ. قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الكِبَرِ، أَحَدَهُمَا، أَوْ كِلَيْهِمَا، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. جَعَلَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ أَهْلِ البِرِّ وَالإِحْسَانِ، وَأَطَالَ أَعْمَارَ آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، وَرَحِمَ مَنْ مات منهم، وَأَسْكَنَهُم فَسِيحَ الجِنَانِ. وَاعْلَمُوا أَنَّ بِرَّ الوَالِدَيْنِ لَا يَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِمَا، بَلْ يَتَوَاصَلُ بِالدُّعَاءِ لَهُمَا، وَالصَّدَقَةِ عَنْهُمَا، وَصِلَةِ رَحِمِهِمَا، وَالإِحْسَانِ إِلَى صَدِيقِهِمَا، وَمِنْ أَبَرِّ البِرِّ صِلَةُ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ.
المشاهدات 436 | التعليقات 0