خطبة واعظة للشيخ المعلِّمي -رحمه الله-
محمد بن عبدالله التميمي
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي بيَّن الحلالَ مِنَ الحرام، وأَوْضَحَ لِعِبَادِهِ سَبِيْلَ النُّور من الظلام؛ فأمَرَ وزَجَر، وبشَّر وحذَّر؛ ومازَ الحقَّ من الباطل، وأقامَ الحجةَ على كلِّ عاقل. وأشهد ألَّا إله إلَّا الله وحده لا شريك له. جلَّ عن النقائص والرذائل، وتنزَّهَ عن الآباء والبنين والحلائل. شرَعَ لنا الدينَ فبيَّن طريقَيه، وأقامَ الأدلَّةَ لِفريقَيه. وأشهد أن سيِّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه. أرسَلَهُ رحمةً للعالمين، وإرشادًا للجاهلين، فأبلغَ الرسالة، وأوضحَ الدِّلالة، وأزالَ الجهالة، وبيَّن الهدى من الضلالة، فنطق بالحجة، ونهَجَ المحجَّة. وشرَعَ الدين وأرشد إليه، وبيَّن الغيَّ وحذَّر منه. فلم يُبقِ عذرًا لمعتذِر، ولا حجَّةً لمحتجِر. اللهم فصلِّ وسلِّمْ على هذا النبيِّ الكريم، الهادي إلى صِراطِكَ المستقيم، سيِّدنا محمد وعلى آله وعلى أصحابه الذين [هم] نجومُ الاهتداء، وأعلامُ الاقتداء، والرُّجومُ على ذوي الاعتداء. اخترتَهم لصحبته، ورَضِيْتَهم لِنُصْرَتِه، وخَصَصْتَهم بإعانة الدين وجهاد المفسدين. وعلى أتباعهم من العلماء العاملين. أما بعد عبادَ الله:
فأوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، وحفظِ حدودِ الله، ومراعاةِ حقوقِ الله، وتوخِّي رضا الله، وتجنُّبِ معاصي الله.
عبادَ الله، إنَّ تقوى الله هي الجُنَّةُ الواقية، والعُدَّة الوافية، والذَّخِيرَةُ الكافية، والحِكْمَةُ الشافية، وسببُ العفوِ والعافية. وإنَّ معصيةَ الله هي الداءُ العُضالُ، والمؤدِّيةُ إلى مهالك الأهوال.
ألا، وإنَّ حبَّ الدنيا هو الدَّاهية الدَّهْياء، والداء العَياء؛ فإيَّاكم من المعاصي، وعليكم بالتقوى، تنجوا من السعير، وتفوزوا بجنَّة المأوى.
ابنَ آدم، إلى متى لا تزال مكبًّا على الذنوب، غارقًا في أمواج العيوب، سابحًا في بحار الغفلة، كأنك قد تيقَّنتَ الخلود، أم تيقَّنتَ أنَّك بعد الموت تعود!
ألم تعلم ما في جهنَّمَ ذاتِ الوَقود، من السلاسل والقُيود، وما فيها من الحيَّات والعقارب السُّود، بعد أنْ تَلْقَى مِنْ عَذابِ القبرِ أَهْوَالًا، ومِنْ حالِ البرزخِ أوجالًا، فلعلك عند الحساب لا تطيق مقالًا، ولا تَجِدُ في المقام مجالًا، بعد أنْ تَعْلَمَ ما كنتَ عليه زُورًا ومُحالًا؛ فمن الذي يقوم عنك جدالًا، أم مَن الذي يقضي عنك ولو عِقالًا؟
هيهات هيهات للنجاة يومئذ إلا بخالصِ الأعمال، وحَسَنِ الأحوال، وصفاءِ القلوب، وقلةِ الذنوب.
حتَّامَ تسوِّف بالتوبة، وتَعِدُ نفسَك بالأوبة، وأنت لا تَجْهَلُ أنَّ الموتَ مُفاجيك، ومسوِّفُك مُداجيك؟ كم مسوِّفٍ قَبْلَكَ فَاجَأَهُ الفَواتُ، وسَبَقَتْهُ الوَفات وضاقت عن نَجَاتِهِ الأوقات، وتَقَاصَرَتْ عن آماله الساعات؛ فأصبَحَ رَهِينَ رَمْسِه، يعَضُّ على يديه ندَمًا على نفسه!
وكم مغترٍّ بدنياه، مستَرٍّ بمَحْياه، مسوِّفٍ بِمَتَابِه، مبعِّدٍ لمآبِه، تَقْلِبُه الدنيا جنبًا على جنب سكرانًا، ويخادعه الشيطان آنًا فآنًا؛ فما أيقَظَه إلا بغتةُ الأجل، وانقطاعُ الأمل، وانبتاتُ العمل؛ فحلَّ به الندَمُ، بعد زوال القَدَم.
[ قال النبيُّ ﷺ: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ»]
فالعاقلُ مَنْ حاسَبَ نفسَه، واغتنم خَمْسَه، ولاحَظَ رَمْسَه؛ فكان لنفسه صديقًا، لا يسعى إلا في نفعها، ولا يهمُّه غيرُ رفعها، يطرَحُ هواه إلى ما أمر به الله. فمن كان كذلك فاز بالنعيم المقيم، وأمِنَ شرَّ الجحيم.
فليس العاقل من سعى [في] تكثيرِ ماله، وتحسينِ ثيابه، وترغيد أكله وشرابه، وتحليةِ شبابه. كلَّا، والله، وإنما العاقلُ من آثرَ الباقي على الفاني، والدائمَ على المنقطع، والفاضلَ على المفضول، والخيرَ على الشرِّ، ودارَ المقرِّ على دار الممرِّ، ومكانَ الإقامة على طرق السفر.
وأيُّ عاقل يسعى في عمارةِ ما لا يقيم فيه، ويترك ما يقيم فيه؟ وأيُّ مُميِّزٍ يُزخرفُ طريقًا هو مارٌّ فيها وراحلٌ عنها، ويترك دارَ إقامته خرابًا؟ وإنما ذلك من الجنون، وأعقَلُ الناسِ الزاهدون.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله ﷺ بمنكبي، فقال: «كُنْ في الدنيا كأنَّك غريبٌ أو عابرُ سبيل». وكان ابن عمر يقول: «إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء. وخُذْ من صحتك لسقمك، ومن حياتك لموتك». أخرجه البخاري.
ألا، وإن أبلغَ واعظٍ، وأعظمَ زاجرٍ، وأعصمَ ناهٍ وآمرٍ= كلامٌ لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (٩) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
وفَّقني الله وإياكم للاهتداء بهديه، والاقتداء بنبيِّه، والاعتصام بوحيه؛ وغمَرَنا بعفوه ورضوانه، ورحمته وغفرانه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه جميعًا، إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلَقَ الجنَّ والإنسَ لِيعبُدوه، وتعرَّف لهم لِيقصِدُوه، أحمده سبحانه وتعالى وأشكره على جزيل الفضل والإنعام، وأتوبُ إليه وأستغفرُه من جميع الذنوب والآثام. وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ سيِّدَنا محمدًا عبدُه ونبيُّه، بالهدى ودين الحق أرسَلَه. اللهمَّ فصلِّ وسلِّم على رسولك مولانا محمدٍ خيرِ إنسان، وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار والتابعين لهم بإحسان. أما بعد، عبادَ الله:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله كما أوصاكم، وانتهُوا عما عنه نهاكم. وبادِروا آجالَكم بأعمالِكم، واقطعوا آمالَكم بتوقُّع آجالِكم. [واعلموا أنَّ] مَنْ أحبَّ دنياه أضرَّ بآخرته، ومن أحبَّ آخرته أضَرَّ بدنياه، فآثِرُوا ما يبقى على ما يفنَى.
ألا، وإنَّ الله تعالى قد أمركم بأمر عظيم بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكةِ قُدسِه، وثلَّثَ بكم تشريفًا لكم وتكريمًا، وتعزيزًا لقدر نبيِّه وتعظيمًا؛ فقال ــ ولم يزل متكلمًا عليمًا ــ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾. اللهم فصلِّ وسلِّم على سيِّدنا محمد الذي حَفَفْتَه بأعلى مشاهدِ العزِّ والجلالة، وهديتَنا به من الضلالة، وعلَّمتَنا به من الجهالة؛ وعلى آله وصحابته.
وارضَ اللهم عن أوَّلِ مؤمنٍ به من رجال أمته، من أكرمتَه بالهداية والتوفيق: أبي بكرٍ الصديق. وارضَ اللهم عن الفاروق بين الخطأ والصواب: أمير المؤمنين أبي حَفْصٍ عُمَرَ بنِ الخطاب. وارضَ اللهم عن شهيد الدار، المتخلِّقِ بالإيمان والإحسان: أميرِ المؤمنين عُثمانَ بنَ عفَّان. وارضَ اللهم عن صَفِيِّ النبيِّ وابنِ عمِّه: أميرِ المؤمنين علي بن أبي طالب. وارضَ اللهم عن الستَّة المتمِّمين للعشرة، وعن أهل بيعةِ الرِّضوانِ والشجرة. وعن كافة أصحابه الـمَهْدِيِّين، وعن جميع المحسنين من أتباعهم إلى يوم الدين([1]) .
([1]) من خُطب الشيخ العلامة عبدالرحمن المعلِّمي -رحمه الله- ضمن آثاره- المجلد(22) بتصرف يسير.
المرفقات
1750258459_خطبة واعظة للشيخ المعلِّمي رحمه الله.docx
1750258459_خطبة واعظة للشيخ المعلِّمي رحمه الله.pdf