خطر الجشع والمبالغة في رفع الإيجارات.
الشيخ عبد الله بن علي الطريف
خطر الجشع والمبالغة في رفع الإيجارات. 1447/4/18
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى نِعَمِهِ الَّتِي لا تُحصى، وَعَلَى إِحْسَانِهِ الَّذِي لا يُحَدُّ ولا يستقصى، وَأَشْهَدُ أَلَا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَسَلَّم تَسْلِيمًا كَثِيرًا.. أما بعدُ أَيُها الإِخْوَةُ: اتقوا اللهَ تعالى وأطيعوه، واشكروه على نعمِهِ الكثيرةِ وآلائِه الوفيرةِ.. أَلَا وإنَّ من نعمِهِ ما مَنَّ به تعالى علينا من إيجادِ البيوتِ، قال سبحانه لافِتًا أنظارَ المؤمنين لهذِه النعمة: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا..) [النحل:80] فنعمةُ إيجاد السكن من الدورَ والشقق والقصورَ ونحوها من أعظم النعم التي ينبغي شُكر الباري عليها.. فهي التي تُكِنُّنَا من الحرِ والبردِ.. وتستُرَنا وأسرَنَا وأمتعتَنَا عن أعين الخلق.. نَفِيءُ إليها فتَسْكُنُ أرواحُنا، وتطمئنُ نفوسُنا ونأمنُ على عوراتِنا وحُرمَتِنَا.. ونُلقي في كَنَفِها أعباءَ الحَذَرِ والحرصِ الْمُرْهِقَةِ للأعصابِ.. والبيوتُ مكانٌ للسكنِ والراحةِ، فمهما كان مكانُ عملِ الإنسانِ مُريحًا مُكيفًا، فإنَّ المرءَ لا يَشعُرُ بالراحةِ إلا حينما يعودُ إلى سَكَنِهِ.. ومهما كانَ مكانُ استضافَةِ المرءِ جَميلًا فَاخِرًا إذا استضيف، فإنَّ الإنسانَ يشتَاقُ للعودةِ إلى بيتِهِ، فقد جعلَ اللهُ في البيتِ سَكَنًا لا يوجدُ في غيره.. وهذه النعمةُ من أظهرِ فوائدِ البيتِ للإنسانِ، حتى إن لفظَ السَكنِ تَحِلُ في الاستعمالِ مَحَلَّ كلمةِ البيتِ أو المنزلِ في كثيرٍ من الأحيانِ.
أيها الإخوة: والإنسان في هذه الحياة يسعى جاهدًا لامتلاك السكن ويكابدُ الأيام والليالي كدًا ودأبًا.. ويتحمل الديون الباهظة من أجل أن يمتلك دارًا.. وقد لا يتيسر له لقلة ذات يده، أو للغلاء الفاحش في قيمة البيوت..
ولحاجة الناس للسكن بدأ تأجير البيوت منذ العصور القديمة، ويقال إن ذلك كان شائعًا في مكة شرفها الله لتوافد الحجاج والمعتمرين عليها طوال العام دون عزم منهم على البقاء، مما أوجد الحاجة لتوفير السكن لهم مقابل أجر معين.. وانتقلت الحاجة إلى عموم الأمصار لكثرة الناس، واستقلال الأسر، أو انتقالهم إلى غير بلدانهم لطلب الرزق.. وكلما ازدادت الحاجة للسكن زادت أسعار بيع العقارات وازدادت إيجاراتها..
أيها الإخوة: والغالب أن يُصَاحِبَ هذه الحاجة طمعُ بعضِ أصحابِ العقاراتِ فيزيدون في الأجرة، أو يتنافس المحتاجون للسكن فيزيدون بالأجرة ليفوزوا بها.. وهذا أمر طبيعي في السوق المفتوحة..
وفي الآونة الأخيرة بالغ العقاريون في قيمة إيجار عقارتهم حتى بلغت حدًا أرهق طالبي السكن وقضى على معظم كسبهم.. وصار البحث عن السكن والإيجار الأقل همٌ لكثير من الناس، ولم يأمن المستأجرون على استقرارهم، فما أن ينتهي عقد المستأجر إلا ويفاجأ بطلب أجرة أعلى من المالك أو بإخلاء المنزل.. فعاشَ المستأجرون بـين هَمين هَمِّ جمعِ الأجرةِ، أو إخلاء السكن.. فصاروا بين أمرين أحلاهما مُرُّ.. وصار معظم دخلهم أجرة لسكنهم.. فهم بين مطرقة طمع وجشع الملاك، وسندان طلب الإخلاء..
هنا وفي مثل هذا الواقع الصعب: يجب أن يوجد حلٌ يكبح هذا الجشع، وأن يكون الحل من ولي الأمر الأكبر الذي اؤْتُمِنَ على مصالح العباد، وأوجب الله تعالى عليهم طاعته بالمعروف، وفي الأثر: «إنَّ اللَّهَ لَيَزَعُ بِالسُّلْطَانِ أَكْثَرَ مِمَّا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ». أي: أن كثيرًا من الناس يمتنع من السوء بسبب الخوف من السلطان أكثر من امتناعهم بتخويفِ القرآنِ ووعيدِهِ الشديدين.. وهذا هو الواقع..
ولقد وفق اللهُ قادة هذه البلاد لوضع نظامٍ لتأجير الدور يحمي المواطن والمقيم من طمع وجشع الملاك.. وهذا من توفيق الله لولاة أمرنا، وتوفيقه لنا نحن الشعب، فْعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْها- قَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ» رواه مسلم.. قال شيخنا محمد العثيمين رحمه الله: "والمقصود بالرفق أن تسيرَ بالناس حسب أمر الله ورسوله، وتسلك أقرب الطرق وأرفقها بالناس، ولا تشق عليهم في شيء ليس عليه أمر الله ورسوله، فإن شققت عليهم في شيء ليس عليه أمر الله ورسوله؛ فإنك تدخل في الطرف الثاني من الحديث وهو: الدعاء بأن الله يشق عليك والعياذ بالله".
ونظام التأجير الجديد من الرفق بالمواطنين والمقيمين المحتاجين للإيجار بلا شك وهو من الرفق بالرعية وطلب الخير لهم.. فجزى الله ولاة أمرنا خيرًا.
أيها الإخوة: وهنا توجيه مهم لملاك العقارات الذين يبيعون العقارات أو يؤجرونها، ولكل تاجر يتولى قوت الناس واحتياجاتهم اليومية.. أن يحذروا كل الحذر من الطمع والجشع وهما خصلتان مذمومتان شرعًا.. والفرق بينهما أن الطمع هو الرغبة بامتلاك أكثر مما تحتاج اليه بإرادتك.. والجشع: هو الرغبة بامتلاك كل شيء والحصول عليه بكل طريق صحيح أو غير صحيح، ولو تأذى الآخرون أو ماتوا جوعًا.. وقد عَدَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- الحرص على المال من أعظم مفسدات الدين فَقَالَ: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ المَرْءِ عَلَى المَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ». رواه أحمد والترمذي والنسائي بالكبرى والدارمي عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- الْأَنْصَارِيِّ وصححه الألباني.. قال ابن رجب: "فهذا مثلٌ عظيمٌ جدًّا ضربَهَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- لفساد دين المسلم بالحرص على المال والشرف في الدنيا، وأن فساد الدين بذلك ليس بدون فساد الغنم بذئبين جائعين ضاريين يأتيا في الغنم، وقد غاب عنها رُعَاتُها ليلًا، فهما يأكلان في الغنم ويفترسان فيها.. وَقَالَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ.» رواه مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما-.. والمراد بالشح الحرص على ما ليس عنده.. بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم..
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِ العَالَمِين وَأَشْهَدُ أَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلِيُّ الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إِمَامُ الْمُتَقِيْنَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُم بِإِحْسَانٍ، وسَلَّمَ تَسْلِيماً كثيراً.. أَمَّا بَعْدُ أيها الإخوة: اتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، واعلموا أَنَّ من الطمع والجشع الذي نَهـَى عنه الشارع المبالغة في رفع الإيجارات طلبًا للربح الزائد، لما في ذلك من التضييق على الناس في معيشتهم، وقد نهى الإسلام عن الإضرار بالمسلمين، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ ضَارَّ أَضَرَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ شَاقَّ شَاقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ» رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة عَنْ أَبِي صِرْمَةَ مالك بن قيس الأنصاري الْمَازِنِيّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وحسنه الألباني. أي: من أوصل ضررًا إلى مسلم غير معتاد قاصدًا؛ أوصل الله إليه ضررًا، ومن أوصل مشقةً إلى أحد قاصدًا؛ أوصل الله إليه مشقة..
أيها الإخوة: ولقد حثّ النظام مُلَّاكَ العقارات على مراقبة الله تعالى، والقناعة بالكسب المعقول، ومراعاة أحوال المستأجرين بالتيسير عليهم، واحتساب الأجر في التخفيف عنهم، والتحلّي بالسماحة في التعامل معهم، عملًا بقول النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «رَحِمَ اللهُ رَجُلًا، سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى.» رواه البخاري وغيره عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما-.. سَمْحًا: أي سهلاً، والتسامح في المعاملة سبب لاستحقاق الدعاء.. وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «أَدْخَلَ اللَّهُ الْجَنَّةَ رَجُلًا كَانَ سَهْلًا بَائِعًا وَمُشْتَرِيًا». رواه ابن ماجة عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وحسنه الألباني. والمراد بقوله: «سَهْلًا» أَيْ: سَمْحًا لَيِّنًا يَمِيلُ إِلَى مَا يُرِيدُ مِنْهُ صَاحِبُهُ فِي الْأَجَلِ وَغَيْرِهِ..
كما ينبغي أن تكون العلاقات بين الناس قائمة على الأخوّة والمحبة والرحمة، مصداقًا لقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات:10] وقَولِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ». رواه الترمذي واللفظ له وأبو داود عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- وصححه الألباني.. أسأل الله تعالى أن يرحمنا برحمته الواسعة ويغنينا بفضله عمن سواه..