خطر المتسولين
عبدالله حمود الحبيشي
1446/08/14 - 2025/02/13 16:39PM
*خطر المتسولين
الحمدُ لله الذي أَغْنَانَا بِحلالِهِ عن حَرَامِهِ، وبِفضلِهِ عمَّن سِواهُ، وأَشْهَدُ ألا إله إلا الله وحده لا شَريكَ لَهُ لا رَبَّ لنا إلَّا إيَّاهُ، وَأَشهدُ أنَّ نَبِيَّنَا مُحمَّدًا عبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَمُصْطَفَاهُ، صَلَّى اللهُ وسلم وبارك عَلَيْهِ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمَّا بَعْدُ: فاتّقُوا اللهَ وأطيعوه ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾.
عباد الله: بَعْدَ صَلَاةِ الجُمُعَةِ وَقَفَ هُنَا وَأَظْهَرَ أَمَامَ الْمُصَلِّينَ صَكَّ مَحْكَمَةٍ طُولُهُ ذِرَاعٌ، يَشْكُو فِيهِ الْحَالَ، وَأَنَّ عَلَيْهِ دِيَةً وَمَطَالَبٌ بِأَمْوَالٍ، وَذَكَرَ مَا يُقْطِّعُ الْقَلْبَ وَيُحْزِنُ النَّفْسَ. وَبَعْدَ أَنْ اسْتَدَرَّ عَوَاطِفَ النَّاسِ وَأَعْطَوْهُ مَا أَعْطَوْهُ، وَقَفْتُ عِنْدَهُ لِأَنْظُرَ إِلَى الصَّكِّ الَّذِي يَسْتَشْهِدُ بِهِ عَلَى حَالِهِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ صَكُّ حَصْرِ وَرَثَةٍ وَلَيْسَ فِيهِ مَا ذَكَرَ، وَالرَّجُلُ مِنْ خَارِجِ هَذِهِ البِلَادِ، وَقَدْ جَمَعَ مَا جمع من أموال الناس!
إِنَّها الظَّاهِرَةُ الْقَبِيحَةُ وَالسُّلُوكُ الْمَشِينُ، وَوَظِيفَةُ الدَّجَّالِينَ وَالنَّصَّابِينَ وَالْمُحْتَالِينَ إِلَّا مَا نَدَرَ، وَأَقُولُ "مَا نَدَرَ" لِأَنَّ كُلَّ مَن وَقَفْتُ عَلَيْهِ بِنَفْسِي من حال المتسولين يَتَبَيَّنُ لِي فِيهِ الْكَذِبُ وَالاحْتِيَالُ!
إِنَّهُ التَّسَوُّلُ، التِّجَارَةُ الْمُرْبِحَةُ، وَقَدْ ذَكَرَتْ بَعْضُ الإِحْصَائِيَّاتِ أَنَّ مَا يَتَحَصَّلُ عَلَيْهِ الْمُتَسَوِّلُ فِي الْيَوْمِ يَتَرَاوَحُ بَيْنَ ٣٠٠ رِيَالٍ إِلَى ٢٠٠٠ رِيَالٍ، أَي ٦٠ أَلْفَ رِيَالٍ شَهْرِيًّا!
وَقَدْ أَثْبَتَتِ الْحَمَلَاتُ الأَمْنِيَّةُ أَنَّ وَرَاءَ هَؤُلَاءِ الْمُتَسَوِّلِينَ جَمَاعَاتٍ وَزُعَمَاءَ يَقُومُونَ بِإِحْضَارِهِمْ وَتَوْظِيفِهِمْ وَتَوْزِيعِهِمْ وَالتَّنْسِيقِ بَيْنَهُمْ.
فَإِلَى مَتَى يَسْتَمِرُّ هَذَا الْمُسَلْسَلُ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ؟ وَإِلَى مَتَى يَسْتَمِرُّ اسْتِغْفَالُ النَّاسِ وَالضَّحِكُ عَلَيْهِمْ بِالْعَاطِفَةِ؟!
التسول ظَاهِرَةٌ خَطِيرَةٌ لا يخلو أي مجتمع منها، انْتَشَرَتْ بشَكْلٍ مُدَمِّرٍ بل أصبح التسول شبكات وشركات شبه منظمة، وتكثر في المواسم، وللتسول صور عديدة، ويستخدمون أساليب في استعطاف الناس.
وَهُنَاكَ طَائِفَةٌ مِنْ ذَوِي النُّفُوسِ الضَّعِيفَةِ، اتَّخَذُوا مِنَ التَّسَوُّلِ حَرْفَةً لَهُمْ، وَقَعدُوا عَنِ الْعَمَلِ الْمُبَاحِ، وَعَاشُوا عَالَةً عَلَى النَّاسِ، وَاسْتدْرَارِ عَطْفهم وَشَفَقَتِهِمْ، لِيَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ بِالْبَاطِلِ وَالْكَذِبِ، وَاسْتِغْلَاَلِ الْأَطْفَالِ وَالنِّسَاءِ، وَحَسِبُوا التَّسَوُّلَ مَغْنَمَاً وَمَا عَلِمُوا أَنَّهُ ذُلٌّ فِي الدُّنْيَا، وَخِزْيٌ فِي الْآخِرَةِ.
وقد حارب الإِسْلَامِ التَّسَوُّلَ، وَبَالَغَ فِي النَّهْيِ عَنْ مَسْأَلَةِ النَّاسِ، وحَذَّرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن السُّؤالِ، وبين أن من سأل الناس تكثراً، ومدَّ إليهم يده كذباً وزوراً، فالوعيد في حقه كبير، والإثم والجزاء في عمله خطير، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ يُرِيدُ بِهَا كَثْرَةً إِلاَّ زَادَهُ الله تَعَالَى بِهَا قِلَّةً».
كما أخبر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أنَّ مَن طَلَب مِنَ النَّاسِ إعطاءَه مِن أموالِهم دونَ حاجةٍ أو فَقْرٍ منه، وإنَّما يَطلُبُ المالَ لِزِيادَةِ مالِه وتَكثيرِه، فإنَّ نَتيجةَ هذا السُّؤالِ أنْ يكونَ هذا المالُ في الآخِرَةِ جَمْرًا يُصلَى به، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مَن سَأَلَ النَّاسَ أمْوالَهُمْ تَكَثُّرًا، فإنَّما يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ، أوْ لِيَسْتَكْثِرْ» أي لِيَأْخُذِ السَّائِلُ قَليلًا مِن ذلك الجَمْرِ، أو لِيَأْخُذِ الكثيرَ منه، والأمرُ للتَّهديدِ والوعيدِ. وفي روايةٌ «فإنَّما يَسأَلُ جَمْرَ جَهَنَّمَ»، وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما أَنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «ما يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ، حتَّى يَأْتِيَ يَومَ القِيَامَةِ ليسَ في وجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ».
وَالإِسْلَامُ حَثَّ عَلَى الصَّدَقَاتِ، وَلَكِنْ بَيَّنَ مُسْتَحِقِّيها، فَالْوَاجِبُ عَلَى المُسْلِمِ أَنْ لَا يَدْفَعَ زَكَاتَهُ إِلَّا لِمَنْ تَحِلُّ لَهُ الزَّكَاةُ، وَعَلَيْهِ تَحَرِّي الْمُحْتَاجِينَ لِلزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ، الَّذِينَ يَمْنَعُهُمُ الحَيَاءُ وَالعَفَّةُ مِنْ سُؤَالِ النَّاسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِهِمْ ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾.
وَأَكْثَرُ السَّلَفِ لا يَرَوْنَ جَوَازَ التَّصَدُّقِ عَلَى مَنْ يَسْأَلُ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَالَ أَحَدُ السَّلَفِ: لَوْ كُنْتُ قَاضِيًا لَمْ أَقْبَلْ شَهَادَةَ مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَى مَنْ يَسْأَلُ فِي الْمَسْجِدِ.
فَالصَّدَقَةُ لَيْسَتْ لِلْمُتَسَوِّلِينَ الَّذِينَ يَقِفُونَ عِندَ إِشَارَاتِ المُرُورِ، وَأَبْوَابِ المَسَاجِدِ، وَلَكِنَّهَا لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ السَّعْيَ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، وَيَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ شَيْئًا، وَلَا يَتَسَوَّلُونَ، وَلَكِنَّ تَعْرِفُهُمْ أَنَّهُمْ فُقَرَاءُ بِسِيمَاتِ الفَقْرِ الَّتِي تَظْهَرُ عَلَيْهِمْ.
أَمَّا القَادِرُ عَلَى العَمَلِ فَلَا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا تحلُّ الصدقةُ لغني، ولا لذي مِرَّةٍ سَوِيٍّ».
وَلِقَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنْ شِئتُما أعطيتُكما، ولا حَظَّ فيها لِغنِيٍّ، ولا لِقوِيٍّ مُكتَسِبٍ».
فَصَاحِبُ القُوَّةِ الجَسَدِيَّةِ، الَّذِيْ يَتَمَيَّزُ بِسَلَامَةِ أَعْضَائِهِ، فَلَا تَحِلُّ لَهُ.
وَعَلَى الجَمِيعِ الحَذَرُ مِنَ التَّعَاطُفِ مَعَ المُتَسَوِّلِينَ؛ لِأَنَّ فِي تَمْكِينِهِمْ مَفَاسِدَ عَظِيمَةٍ، وَخَطِيرَةٍ اجْتِمَاعِيًّا، وأخلاقيا، وَاقْتِصَادِيًّا، وَأَمْنِيًّا، حَيْثُ إِنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ المُتَسَوِّلِينَ يَتُمُّ اسْتِخْدَامُهُمْ، بِهَدَفِ جَمْعِ الأَمْوَالِ بِطُرُقٍ غَيْرِ مَشْرُوعَةٍ، كَمَا أَنَّهَا تُسْهِمُ فِي خَطْفِ الأَطْفَالِ لِلتَّسَوُّلِ بِهِمْ، وتُسْهِمُ فِي البَطَالَةِ، وَعَدَمِ العَمَلِ أَوِ الإِنْجَازِ.
فَمَنْ كَانَ عِندَهُ شَيْئًا مِنَ المَالِ، وَلَا يَعْرِفُ مُحْتَاجًا، فَلْيُسَلِّمهُ لِلْجِهَاتِ المُوَثَّقَةِ، كَإِحْسَان، وَسَاهِمْ، وَالمُؤَسَّسَاتِ المُصَرَّحِ لَهَا. نسأل الله أن يوفقنا لطاعته ويجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سيد المرسلين نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ
أما بعد.. عباد الله.. أَلا يُوجدُ صَادِقٌ فِي هَؤلاءِ المُتَسوُّلينَ؟، بَلَى، ولَكِن قَد احتَجَبَ بِكَثرةِ الكَاذبينَ، الذينَ تَطَوَّرَتْ طُرقُهُم في النًّصبِ والاحتِيَالِ، وأَنوَاعِ الخِدَاعِ في كَسبِ العَواطِفِ والمَالِ.
وقد بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن المسألة تجوز في حالات ذكرها نصا فعن قَبِيصَةَ الْهِلَالِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً [وهي المال الذي يستدينه الإنسان ويدفعه في إصلاح ذات البين] فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْأَلُهُ فِيهَا، فَقَالَ «أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ، فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا» ثُمَّ قَالَ «يَا قَبِيصَةُ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٌ تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا، ثُمَّ يُمْسِكُ» أي: إلى أن يجد الحمالة ويؤدي ذلك الدين ثم يمسك نفسه عن السؤال، قال «وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ [أي: فقر وضرورة بعد غنى] حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتٌ، يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتاً».
فَيَا أَصَحَابَ اليَدِ العُليَا والبَذلِ والعَطَاءِ، يَنبَغي لَنَا أَن نَتَحرَّى المُتَعفِّفِينَ مِنَ الفُقَراءَ، فَهُم المَسَاكينُ حَقَّاً، وَهُم المَستحِّقُونَ صِدقَاً، كَمَا قَالَ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ «لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ فَتَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ»، قَالُوا: فَمَا الْمِسْكِينُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ «الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ، وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا»، فَهؤلاءِ هُم المُستَحقُّونَ لِلصَّدَقَاتِ، وفِي الإنفَاقِ عَليهِم أَعظمُ الحَسَنَاتِ.
نسأل الله أن يكفينا بحلاله عن حرامه ويغنينا بفضله عمن سواه
*مستفادة من خطب المشايخ الفضلاء
أمَّا بَعْدُ: فاتّقُوا اللهَ وأطيعوه ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾.
عباد الله: بَعْدَ صَلَاةِ الجُمُعَةِ وَقَفَ هُنَا وَأَظْهَرَ أَمَامَ الْمُصَلِّينَ صَكَّ مَحْكَمَةٍ طُولُهُ ذِرَاعٌ، يَشْكُو فِيهِ الْحَالَ، وَأَنَّ عَلَيْهِ دِيَةً وَمَطَالَبٌ بِأَمْوَالٍ، وَذَكَرَ مَا يُقْطِّعُ الْقَلْبَ وَيُحْزِنُ النَّفْسَ. وَبَعْدَ أَنْ اسْتَدَرَّ عَوَاطِفَ النَّاسِ وَأَعْطَوْهُ مَا أَعْطَوْهُ، وَقَفْتُ عِنْدَهُ لِأَنْظُرَ إِلَى الصَّكِّ الَّذِي يَسْتَشْهِدُ بِهِ عَلَى حَالِهِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ صَكُّ حَصْرِ وَرَثَةٍ وَلَيْسَ فِيهِ مَا ذَكَرَ، وَالرَّجُلُ مِنْ خَارِجِ هَذِهِ البِلَادِ، وَقَدْ جَمَعَ مَا جمع من أموال الناس!
إِنَّها الظَّاهِرَةُ الْقَبِيحَةُ وَالسُّلُوكُ الْمَشِينُ، وَوَظِيفَةُ الدَّجَّالِينَ وَالنَّصَّابِينَ وَالْمُحْتَالِينَ إِلَّا مَا نَدَرَ، وَأَقُولُ "مَا نَدَرَ" لِأَنَّ كُلَّ مَن وَقَفْتُ عَلَيْهِ بِنَفْسِي من حال المتسولين يَتَبَيَّنُ لِي فِيهِ الْكَذِبُ وَالاحْتِيَالُ!
إِنَّهُ التَّسَوُّلُ، التِّجَارَةُ الْمُرْبِحَةُ، وَقَدْ ذَكَرَتْ بَعْضُ الإِحْصَائِيَّاتِ أَنَّ مَا يَتَحَصَّلُ عَلَيْهِ الْمُتَسَوِّلُ فِي الْيَوْمِ يَتَرَاوَحُ بَيْنَ ٣٠٠ رِيَالٍ إِلَى ٢٠٠٠ رِيَالٍ، أَي ٦٠ أَلْفَ رِيَالٍ شَهْرِيًّا!
وَقَدْ أَثْبَتَتِ الْحَمَلَاتُ الأَمْنِيَّةُ أَنَّ وَرَاءَ هَؤُلَاءِ الْمُتَسَوِّلِينَ جَمَاعَاتٍ وَزُعَمَاءَ يَقُومُونَ بِإِحْضَارِهِمْ وَتَوْظِيفِهِمْ وَتَوْزِيعِهِمْ وَالتَّنْسِيقِ بَيْنَهُمْ.
فَإِلَى مَتَى يَسْتَمِرُّ هَذَا الْمُسَلْسَلُ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ؟ وَإِلَى مَتَى يَسْتَمِرُّ اسْتِغْفَالُ النَّاسِ وَالضَّحِكُ عَلَيْهِمْ بِالْعَاطِفَةِ؟!
التسول ظَاهِرَةٌ خَطِيرَةٌ لا يخلو أي مجتمع منها، انْتَشَرَتْ بشَكْلٍ مُدَمِّرٍ بل أصبح التسول شبكات وشركات شبه منظمة، وتكثر في المواسم، وللتسول صور عديدة، ويستخدمون أساليب في استعطاف الناس.
وَهُنَاكَ طَائِفَةٌ مِنْ ذَوِي النُّفُوسِ الضَّعِيفَةِ، اتَّخَذُوا مِنَ التَّسَوُّلِ حَرْفَةً لَهُمْ، وَقَعدُوا عَنِ الْعَمَلِ الْمُبَاحِ، وَعَاشُوا عَالَةً عَلَى النَّاسِ، وَاسْتدْرَارِ عَطْفهم وَشَفَقَتِهِمْ، لِيَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ بِالْبَاطِلِ وَالْكَذِبِ، وَاسْتِغْلَاَلِ الْأَطْفَالِ وَالنِّسَاءِ، وَحَسِبُوا التَّسَوُّلَ مَغْنَمَاً وَمَا عَلِمُوا أَنَّهُ ذُلٌّ فِي الدُّنْيَا، وَخِزْيٌ فِي الْآخِرَةِ.
وقد حارب الإِسْلَامِ التَّسَوُّلَ، وَبَالَغَ فِي النَّهْيِ عَنْ مَسْأَلَةِ النَّاسِ، وحَذَّرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن السُّؤالِ، وبين أن من سأل الناس تكثراً، ومدَّ إليهم يده كذباً وزوراً، فالوعيد في حقه كبير، والإثم والجزاء في عمله خطير، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ يُرِيدُ بِهَا كَثْرَةً إِلاَّ زَادَهُ الله تَعَالَى بِهَا قِلَّةً».
كما أخبر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أنَّ مَن طَلَب مِنَ النَّاسِ إعطاءَه مِن أموالِهم دونَ حاجةٍ أو فَقْرٍ منه، وإنَّما يَطلُبُ المالَ لِزِيادَةِ مالِه وتَكثيرِه، فإنَّ نَتيجةَ هذا السُّؤالِ أنْ يكونَ هذا المالُ في الآخِرَةِ جَمْرًا يُصلَى به، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «مَن سَأَلَ النَّاسَ أمْوالَهُمْ تَكَثُّرًا، فإنَّما يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ، أوْ لِيَسْتَكْثِرْ» أي لِيَأْخُذِ السَّائِلُ قَليلًا مِن ذلك الجَمْرِ، أو لِيَأْخُذِ الكثيرَ منه، والأمرُ للتَّهديدِ والوعيدِ. وفي روايةٌ «فإنَّما يَسأَلُ جَمْرَ جَهَنَّمَ»، وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما أَنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «ما يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ، حتَّى يَأْتِيَ يَومَ القِيَامَةِ ليسَ في وجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ».
وَالإِسْلَامُ حَثَّ عَلَى الصَّدَقَاتِ، وَلَكِنْ بَيَّنَ مُسْتَحِقِّيها، فَالْوَاجِبُ عَلَى المُسْلِمِ أَنْ لَا يَدْفَعَ زَكَاتَهُ إِلَّا لِمَنْ تَحِلُّ لَهُ الزَّكَاةُ، وَعَلَيْهِ تَحَرِّي الْمُحْتَاجِينَ لِلزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ، الَّذِينَ يَمْنَعُهُمُ الحَيَاءُ وَالعَفَّةُ مِنْ سُؤَالِ النَّاسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِهِمْ ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾.
وَأَكْثَرُ السَّلَفِ لا يَرَوْنَ جَوَازَ التَّصَدُّقِ عَلَى مَنْ يَسْأَلُ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَالَ أَحَدُ السَّلَفِ: لَوْ كُنْتُ قَاضِيًا لَمْ أَقْبَلْ شَهَادَةَ مَنْ يَتَصَدَّقُ عَلَى مَنْ يَسْأَلُ فِي الْمَسْجِدِ.
فَالصَّدَقَةُ لَيْسَتْ لِلْمُتَسَوِّلِينَ الَّذِينَ يَقِفُونَ عِندَ إِشَارَاتِ المُرُورِ، وَأَبْوَابِ المَسَاجِدِ، وَلَكِنَّهَا لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ السَّعْيَ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، وَيَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ شَيْئًا، وَلَا يَتَسَوَّلُونَ، وَلَكِنَّ تَعْرِفُهُمْ أَنَّهُمْ فُقَرَاءُ بِسِيمَاتِ الفَقْرِ الَّتِي تَظْهَرُ عَلَيْهِمْ.
أَمَّا القَادِرُ عَلَى العَمَلِ فَلَا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا تحلُّ الصدقةُ لغني، ولا لذي مِرَّةٍ سَوِيٍّ».
وَلِقَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنْ شِئتُما أعطيتُكما، ولا حَظَّ فيها لِغنِيٍّ، ولا لِقوِيٍّ مُكتَسِبٍ».
فَصَاحِبُ القُوَّةِ الجَسَدِيَّةِ، الَّذِيْ يَتَمَيَّزُ بِسَلَامَةِ أَعْضَائِهِ، فَلَا تَحِلُّ لَهُ.
وَعَلَى الجَمِيعِ الحَذَرُ مِنَ التَّعَاطُفِ مَعَ المُتَسَوِّلِينَ؛ لِأَنَّ فِي تَمْكِينِهِمْ مَفَاسِدَ عَظِيمَةٍ، وَخَطِيرَةٍ اجْتِمَاعِيًّا، وأخلاقيا، وَاقْتِصَادِيًّا، وَأَمْنِيًّا، حَيْثُ إِنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ المُتَسَوِّلِينَ يَتُمُّ اسْتِخْدَامُهُمْ، بِهَدَفِ جَمْعِ الأَمْوَالِ بِطُرُقٍ غَيْرِ مَشْرُوعَةٍ، كَمَا أَنَّهَا تُسْهِمُ فِي خَطْفِ الأَطْفَالِ لِلتَّسَوُّلِ بِهِمْ، وتُسْهِمُ فِي البَطَالَةِ، وَعَدَمِ العَمَلِ أَوِ الإِنْجَازِ.
فَمَنْ كَانَ عِندَهُ شَيْئًا مِنَ المَالِ، وَلَا يَعْرِفُ مُحْتَاجًا، فَلْيُسَلِّمهُ لِلْجِهَاتِ المُوَثَّقَةِ، كَإِحْسَان، وَسَاهِمْ، وَالمُؤَسَّسَاتِ المُصَرَّحِ لَهَا. نسأل الله أن يوفقنا لطاعته ويجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سيد المرسلين نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ
أما بعد.. عباد الله.. أَلا يُوجدُ صَادِقٌ فِي هَؤلاءِ المُتَسوُّلينَ؟، بَلَى، ولَكِن قَد احتَجَبَ بِكَثرةِ الكَاذبينَ، الذينَ تَطَوَّرَتْ طُرقُهُم في النًّصبِ والاحتِيَالِ، وأَنوَاعِ الخِدَاعِ في كَسبِ العَواطِفِ والمَالِ.
وقد بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن المسألة تجوز في حالات ذكرها نصا فعن قَبِيصَةَ الْهِلَالِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً [وهي المال الذي يستدينه الإنسان ويدفعه في إصلاح ذات البين] فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْأَلُهُ فِيهَا، فَقَالَ «أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ، فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا» ثُمَّ قَالَ «يَا قَبِيصَةُ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٌ تَحَمَّلَ حَمَالَةً، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا، ثُمَّ يُمْسِكُ» أي: إلى أن يجد الحمالة ويؤدي ذلك الدين ثم يمسك نفسه عن السؤال، قال «وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ [أي: فقر وضرورة بعد غنى] حَتَّى يَقُومَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتٌ، يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتاً».
فَيَا أَصَحَابَ اليَدِ العُليَا والبَذلِ والعَطَاءِ، يَنبَغي لَنَا أَن نَتَحرَّى المُتَعفِّفِينَ مِنَ الفُقَراءَ، فَهُم المَسَاكينُ حَقَّاً، وَهُم المَستحِّقُونَ صِدقَاً، كَمَا قَالَ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ «لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ فَتَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ»، قَالُوا: فَمَا الْمِسْكِينُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ «الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ، وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا»، فَهؤلاءِ هُم المُستَحقُّونَ لِلصَّدَقَاتِ، وفِي الإنفَاقِ عَليهِم أَعظمُ الحَسَنَاتِ.
نسأل الله أن يكفينا بحلاله عن حرامه ويغنينا بفضله عمن سواه
*مستفادة من خطب المشايخ الفضلاء
المرفقات
1739453969_خطر المتسولين.docx