دروسٌ وعِبَر من سيرةِ عمرَان بن حِطَّان 25/4/1447

أحمد بن ناصر الطيار
1447/04/24 - 2025/10/16 10:44AM

 

الحمد للهِ الذي أكرمنا بالتوحيد ودين الِإسلام، وأنزل إلينا أشرف الكتب وأحسن الكلام، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، أحمدُه حمدًا يبْلغ رضاه، وأشهد أن محمداً عبْدُهُ الذي اصطفاه، ورسولُهُ الذي أرسله ونَبّأَهُ، صلى اللَّه عليه وعلى آله وعلى مَنْ صحِبَه وتابَعَه، وصَدَّقَ برسالته والنور الذي أُنزلَ معه، وسلمَ تسليماً كثيراً، أما بعد:

فاتقوا الله معاشر المؤمنين، واعلموا أنّ القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلّبها كيف يشاء، فلا يأمن الفتنة والضلال إلا جاهلٌ غافل، ولا يخاف منها إلا عالم فطن.

معاشر المسلمين: سيكون حديثنا عن رجل قال عنه الذهبي رحمه الله: "من أعيان العلماء، حدّث عن عائشة وأبي موسى الأشعري وابن عباس رضي الله عنهم، وروى ‌عنه ‌ابنُ ‌سيرين ‌وقتادةُ ويحيى بن أبي كثير رحمهم الله".[1]

فقد أخذ العلم عن صحابة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأخذ العلم عنه جملةٌ من العلماء وتابعي التابعين.

وكان مع عمله عابدًا، قال ابن كثير رحمه الله: "كان ‌أحد ‌العُبَّاد".[2]

وكان مع علمه وعبادته من أشعر الناس, بشهادة الفرزدقِ, أحدِ أشْعر شعراء زمانه.[3]

معاشر المسلمين: أتدرون من هو هذا الرجل؟

إنه عمرَان بن حطَّان.

 وهل علمتم ماذا حصل لهذا العالم الزاهد العابد؟

لقد انحرف وانتقل من معتقد أهل السنة والجماعة، إلى معتقد الخوارج الضالين.

والسبب في ذلك: أنه لمّا أراد الزواج بحث عن المرأة الجميلة، ولم يبحث عن المرأة الصالحة، التي أوصى النبيّ صلى الله عليه وسلم بالزواج بها بقوله: "فاظفر بذات الدّين"، فذُكرت له امرأة جميلةٌ في مظهرها، لكنّها قبيحةٌ في باطنها، لأنها كانت ترى رأي الخوارج، فلم يمنعه ذلك من الزواج بها، وعزم أنْ يردّها للسنة إذا تزوج بها، فلما تزوج بها افْتُتِن بجمالها وأحبّها، وكان هو دميمَ الشّكل، فأثّرت عليه وغيّرت فكره وعقيدته، فارتد معها إلى مذهبها والعياذ بالله.

 وأصبح بعد ذلك من رؤوس الخوارج، والمحرّضين لهم، والمبغضين لكثير من الصحابة رضي الله عنهم، ولما بلغه خبرُ قتلِ الخارجيّ ابنِ مُلجمٍ لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فرح أشدّ الفرح، وقال أبياتًا يمتدح قاتله المجرم:

يَا ضَرْبَةً مِنْ تَقِيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا … إِلَّا لِيَبْلُغَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ رِضْوَانَا

إِنِّي لَأَذْكُرهُ يَوْمًا فَأَحْسَبُهُ … أَوْفَى الْبَرِيَّةِ عِنْدَ اللَّهِ مِيزَانَا

فردّ عليه بعضُ العلماء:

بَلْ ضَرْبَةٌ مِنْ شَقِيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا … إِلَّا لِيَبْلُغَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ خُسْرَانَا

إِنِّي لَأَذْكُرُهُ يَوْمًا فَأَحْسَبُهُ … أَشْقَى الْبَرِيَّةِ عِنْدَ اللَّهِ مِيزَانَا[4]

 وفي هذا درس عظيم، وعبرة وموعظة بليغة: ألا يُصاحب المسلمُ الفاسدين والضالين, ولا يقربُ من مواقع الفتن وأهلها، ولا يتساهلُ في متابعة أو مجالسة الضالين والمنحرفين، ولا يقرأُ ويستمع لمن عندهم انحرافات عقدية أو فكرية، فكم من إنسان ضلّ وانحرف بسبب ذلك.

وكم من إنسان كان من الصالحين، وبعد اطلاعه على شبهات الضالين ضلّ مثلهم وانتكس.

فيا أخي المسلم: احفظ سمعك وبصرك وقلبك، ولا تسمح لنفسك أنْ تتلوّث بزبالات أهل الانحلال، وشبهات أهل الضلال، فُيعاقبك الله بزيغ قلبك، واسأل الله دائمًا الثبات على الدين.

نسأل الله تعالى أن يثبتنا على دين الإسلام, وأن يُدخلنا جنّتَه دارَ السلام, إنه على كل شيء قدير.

***************

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على المبعوثِ رحمةً للعالمين, وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد: معاشر المسلمين: ومما يُستفاد من سيرة هذا الرجل: أنّ أهل العلم قد استفادوا مما جاء به من حقّ وصواب, فقد روى أهل العلم عنه الحديث, ونقلوا ما تكلم به من الحق والصواب شعرًا ونثرًا.

فقد روى البخاريّ في صحيحه عَنْ عِمْرَانَ ‌بْنِ ‌حِطَّانَ هذا, أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها حَدَّثَتْهُ, أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَتْرُكُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا فِيهِ تَصَالِيبُ إِلَّا نَقَضَهُ.

وروى عنه حديثًا آخر, وروى عنه غيرُه من أهل العلم والحديث والسير والوعظ.

وقد كان سفيانُ الثوري رحمه الله يتمثل بأبياته هذه في الزهد في الدنيا، وهي قوله:

أَرَى أَشْقِيَاءَ النَّاسِ لَا يَسْأَمُونَهَا … عَلَى أَنَّهُمْ فِيهَا عُرَاةٌ وَجُوَّعُ

أَرَاهَا وَإِنْ كَانَتْ تُحَبُّ فَإِنَّهَا … سَحَابَةُ صَيْفٍ عَنْ قَلِيلٍ تَقَشَّعُ

وقال قتادة رحمه الله: لقيني عمرانُ بُن حطان فقال: احفظ عني هذه الأبيات:

حَتَّى مَتَى تُسْقَى النُّفُوْسُ بِكَأْسِهَا … رَيْبَ المَنُوْنِ، وَأَنْتَ لَاهٍ تَرْتَعُ؟

أَفَقَدْ رَضِيْتَ بِأَنْ تُعَلَّلَ بِالمُنَى … وَإِلَى المَنِيَّةِ كُلَّ يَوْمٍ تُدْفَعُ؟

أَحْلَامُ نَوْمٍ أَوْ كَظِلٍّ زَائِلٍ … إِنَّ اللَّبِيْبَ بِمِثْلِهَا لَا يُخْدَعُ

فَتَزَوَّدَنَّ لِيَوْمِ فَقْرِكَ دَائِباً … وَاجْمَعْ لِنَفْسِكَ لَا لِغَيْرِكَ تَجْمَعُ

وأهلُ العلم أهلُ إنصاف وعدل, لا يذكرون عيوب الإنسان ويكتمون محاسنه إن وُجدت, قال الذهبي عنه: "عمران بن حطّان صدوقٌ في نفسه".[5]

أي: أنه لا يتعمّد الكذب, ولذلك روى له البخاري وغيرُه.

فهذا درسٌ لنا, أن نتحلّى بالإنصاف والعدل, وبهذا قامت السماوات والأرض, وأنزل الكتب, وأرسل الرسل, كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}, {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا}, {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ}, { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ ‌لِيَقُومَ ‌النَّاسُ ‌بِالْقِسْطِ}.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أمرنا الله بالعدل, وأمرنا أن نعدل بين الأمم, كما قال تعالى لرسوله {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ}".[6]

وإنك لترى الرجل يُبغض أخاه المسلم, فيذكر عيوبه, ولا يعترف بحقٍّ جاء به, وصوابٍ فعَلَه أو قاله, وهذا من الظلم والجور, وسيحاسب الإنسان على ذلك إن لم يتب ويرجع عن ظلمه.

 

اللهم عاملنا بعفوك، واستر عيوبنا بفضلك، إنك ربنا رؤوفٌ رحيم.

عباد الله: أكثروا من الصلاة والسلام على نبي الهدى, وإمام الورى, فقد أمركم بذلك جل وعلا فقال: (إن الله وملائكته يصلون على النبي.. يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما).

اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنا معهم بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والربا والزنا، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن.

اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات, وخُصَّ منهم الحاضرين والحاضرات, اللهم فرِّج همومهم, واقض ديونهم, وأنزل عليهم رحمتك ورضوانك يا رب العالمين.

 عباد الله: إنَّ اللَّه يأْمُرُ بالْعدْل والْإحْسانِ وإيتاءِ ذي الْقُرْبى ويَنْهى عن الْفحْشاءِ والمنْكرِ والبغْيِ يعِظُكُم لَعلَّكُم تذكَّرُون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

 



[1] - سير أعلام النبلاء (4/ 214)
[2] - البداية والنهاية (11/ 19)
[3] - سير أعلام النبلاء (4/ 216)
[4] - البداية والنهاية (12/ 352)
[5] - ميزان الاعتدال (3/ 235)
[6] - قاعدة في المحبة (ص68)

المرفقات

1760600651_دروسٌ وعِبَر من سيرةِ عمرَان بن حِطَّان.pdf

المشاهدات 267 | التعليقات 0