دعوةٌ لسماع وصْف الجنة. 25 / 11 / 1446
أحمد بن ناصر الطيار
الحمد للَّه الَّذي جعل جنَّات الفردوس لعباده المؤمنين نُزُلًا، ويسَّرهم للأعمال الصالحة الموصلة إليها، فلم يتخذوا سواها شُغُلًا, وأشهدُ أن لا إلهَ إلَّا اللَّهُ وحدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله، وأمينُه على وحيهِ، وخيرته من خَلْقِه, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
أخي المسلم: إنّك تتعاهد جسدك كل حين لتزيل عنه الأذى الذي يخرج من جلدك ومن عينك ومن أنفك ومن سائر جسدك، وهو مع ذلك معرض للأمراض والهرم، ومآله للفناء.
فلو قيل لك: إذا استعملت جسدك فيما يرضي ربك أبدلك ربك عنه جسدًا لا يبلى ولا يخرج منه أيّ أذى، ولا يعتريه جوع ولا مرض ولا فناء: لَوافقت بلا تردد.
فكيف وقد وعدك ربك مع هذا:
أن تخلّد في جنةٍ فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
فإن سألت عن أرضها وتربتها فهي المسك والزعفران, وإن سألت عن سقفها فهو عرش الرحمن, وإن سألت عن مِلاطها فهو المسك الأذفر, وإن سألت عن حصبائها فهي اللؤلؤ والجوهر, وإن سألت عن بنائها فَلَبِنَة من فضة ولبنة من ذهب, وإن سألت عن أشجارها فما فيها شجرة إلا ساقها من ذهب أو فضة، لا من الحطب والخشب, وإن سألت عن ثمرها فأمثال القِلال، ألْين من الزبد، وأحلى من العسل, وإن سألت عن أنهارها فأنهار {مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ}, وإن سألت عن طعامهم ففاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون, وإن سألت عن شرابهم فالتسنيم والزنجبيل والكافور, وإنْ سألت عن آنيتهم فآنية الذهب والفضة في صفاء القوارير, وإنْ سألت عن ظِلِّها, ففيها شجرة واحدة يسير الرَّاكبُ المجدُّ السريع في ظلها مئة عام لا يقطعها, وإنْ سألت عن خيامها, فالخيمة الواحدة من دُرَّةٍ مجوَّفة طولها ستون ميلًا من جملة الخيام, وإنْ سألت عن ارتفاعها فانظر إلى الكوكب الطالع، أو الغارب في الأفق الَّذي لا تكاد تناله الأبصار, وإنْ سألت عن لباس أهلها فهو الحرير والذهب, وإنْ سألت عن فرشهم, فبطائنها من إستبرق مفروشة في أعلى الرُّتَب, وإنْ سألت عن وجوه أهلها وحسنهم، فعلى صورة القمر, وإنْ سألت عن سماعهم, فغناء أزواجهم من الحور العين، وأعلى منه سماع أصوات الملائكة والنَّبيين، وأعلى منهما سماع خطاب ربِّ العالمين, وإنْ سألت عن مطاياهم التي يتزاورون عليها، فنجائب أنشأها اللَّه تعالى ممَّا شاءَ تسير بهم حيث شاؤوا من الجنان, وإنْ سألت عن حُليهم، فأسَاوِر الذهب واللؤلؤ، على الرؤوس ملابس التِّيجان, وإنْ سألت عن غلمانهم فولدانٌ مخلدون كأنَّهم لؤلؤٌ مكنون, وإنْ سألتَ عن عرائسهم وأزواجهم فهُنَّ الكواعب الأترابُ، الَّلاتي جرى في أغصانِهنَّ ماءُ الشباب، {كأنهن الياقوت والمرجان}.
قال ابن القيم رحمه الله: هذا، وإنْ سألت عن يوم المزيد، وزيارة العزيز الحميد، ورؤية وجهه المنزَّه عن التمثيل والتشبيه، كما تُرَى الشمس في الظهيرة والقمر ليلة البدرِ، فاستمع يوم ينادي المنادي: يا أهل الجنَّة، إنَّ ربَّكم تبارك وتعالى يستزيركم فحيَّ على زيارته، فيقولون: سمعًا وطاعة، وينهضون إلى الزيارة مبادرين، فإذا بالنَّجائب قد أُعدتْ لهم، فيستوون على ظهورها مسرعين، حتَّى إذا انتهوا إلى الوادي الأفيح الَّذي جُعل لهم موعدًا، وجُمِعُوا هناك، فلم يغادر الدَّاعي منهم أحدًا, أمرَ تبارك وتعالى بكرسيِّه فنُصِبَ هناك، ثمَّ نُصبت لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من زبرجد، ومنابرُ من ذهب، ومنابر من فضة، حتَّى إذا استقرت بهم مجالسهم، نادى المنادي: يا أهل الجنَّة, إنَّ لكم عندَ اللَّهِ موعدًا يريدُ أنْ ينجزَكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يُبيض وجوهنا, ويثقِّل موازيننا، ويدخلنا الجنَّة، ويزحزحنا عن النَّارِ؟ فبينا هم كذلك إذ سطع لهم نورٌ أشرقت له الجنَّة، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الجبَّار جل جلاله، وتقدَّستْ أسماؤه، قد أشرف عليهم من فوقهم وقال: يا أهل الجنَّة: سلامٌ عليكم، فلا تُرَدُّ هذه التحيةُ بأحسنَ من قولهم: اللهم أنت السلام، ومنكَ السلام، تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام، فيتجلى لهم الرب تبارك وتعالى يضحك إليهم، ويقول: يا أهل الجنة، فيكون أول ما يسمعون منه تعالى: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني، فهذا يوم المزيد، فيجتمعون على كلمة واحدة, أن قد رضينا فارض عنا، فيقول: يا أهل الجنة، إني لو لم أرض عنكم لم أُسْكِنْكم جنتي، هذا يوم المزيد فسلوني, فيجتمعون على كلمةٍ واحدة: أرِنا وجهك ننظر إليه، فيكشف الرب جل جلاله الحُجُب، ويتجلى لهم، فيغشاهم من نوره, ما لولا أنّ اللَّه سبحانه قضى أن لا يحترقوا لاحترقوا.
فيا لقُرَّة عيون الأبرار بالنظر إلى وجهه الكريم في الدار الآخرة، ويا ذِلَّة الراجعين بالصفقة الخاسرة. {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ}.
اللهم إنا نسألك جوارك في الجنة, ونسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم, إنك ربنا رؤوف رحيم.
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على المبعوثِ رحمةً للعالمين, وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
معاشر المسلمين: كيفَ يُقدَّر قدْر دارٍ غرسها اللَّه بيده، وجعلها مقرًّا لأحبابه، وملأها من كرامته ورحمته ورضوانه، ووصف نعيمها بالفوز العظيم، وملكها بالملك الكبير، وأودعها جميع الخير بحذافيره، وطهرها من كل عيب وآفة ونقص.
فهل هناك عاقل لا يشمّر للجنة، ويبذل لأجلها وقته وعمره وماله وهمّه وقلبه وسمعه وبصره؟
أخي المسلم: إياك أن تغرك هذه الدار الفانية، وإياك أن يخدعك هذا الشيطان الذي أقسم أنْ يغويك..
وما هي إلا أيام يسيرة ونغادر هذه الدار الحقيرة الصغيرة الفانية، فشمر للجنة، وجدّ واعمل للدار الآخرة.
اللهم أحسن ختامنا، واغفر ذنوبنا, وتجاوز عن تقصيرنا، إنك على كل شيء قدير.