ذُنوبَ الخَلواتِ سَبَبُ الانتِكَاسَاتِ وَذَهَابُ الحَسَنَات
الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله الهويمل
ذُنوبَ الخَلواتِ سَبَبُ الانتِكَاسَاتِ وَذَهَابُ الحَسَنَات
الخُطْبَةُ الأُولَى
الحمد لله نحمده ، ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهدِه الله فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين . ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ ، ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ ، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ . ثم أما بعد :- ففي عَرصَاتِ يَومِ القِيامةِ تُعرض أعمال العباد على الله تعالى فلا تخفى منها خافية ، { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ } ، وفي تلك الساعة يتذكر الإنسان ما قدمت يداه ، { يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } ، وفي ذلك اليوم تبلى السرائر ، { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } . ويُفاجأ كل إنسان بما أسرَّ وأعلن من صغيرة وكبيرة ، { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ } . وحينئذٍ تظهر الحقائق . فيبرز للخلائق أُناسٌ على هيئة أهل الدين والصلاح ، لم يكن يُرى منهم إلا كل خير ، ولهم أعمال كجبال تهامة ؛ لكنها تذهب كلها يوم القيامة هباء منثوراً ، فما سبب ذلك ؟ .
سبب ذلك هو ذنوب الخلوات ، فإنهن للعمل موبقات ، وللحسنات ناسفات ، ذنوب الخلوات هي المعاصي التي يرتكبها المرء في حال غَيبته عن عيون النَّاس واختلائه بنفسه أو مع أقرانه الذين هم على شاكلته ، فَعَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : ( لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا ) قَالَ ثَوْبَانُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا ، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ ، قَالَ : ( أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا ) . رواه ابن ماجه في صحيحه وصححه الألباني .
أيها الإخوة : إن ذنوب الخلوات من أشد أنواع الذنوب خطرًا على صاحبها ، فهي سبب للبعد عن الله عز وجل . وسبب للضياع والهلاك والخسران ، وهذا النوع من الذنوب يعتبر سَبَبُ الانتِكَاسَاتِ وَذَهَابُ الحَسَنَات ، فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : " إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ " البخاري ومسلم ، قال ابن رجب : " إنَّ خاتمة السُّوءِ تكونُ بسبب دسيسةٍ باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس ؛ إما من جهة عمل سيئ ونحو ذلك ، فتلك الخصلة الخفية توجب سُوءَ الخاتمة عند الموت " . ويقول ابن القيم رحمه الله : " أجمع العارفون على أن أصل الانتكاسات ذنوب الخلوات ، وَأَنَّ عِباداتِ الخَفَاءِ هِيَ أَعظمُ أَسبابِ الثَّباتِ ، فَإيَّاكَ أَن تَكونَ مِن الذينَ قَالَ اللهُ تَعَالى فيهم : ( يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ) " .
أخي الحبيب : إذا كان الواحد مِنَّا يوقِنُ فعلاً أن الله تعالى يراه ومُطَّلِعٌ عليه ، فكيف يتجرَّأ على معصيته ؟ وكيف يجعله أهون الناظرين إليه ؟ يهتم لنظر الناس ، ولا يهتمُّ لنظر الله تعالى ، أين نحن من قوله تعالى : ﴿ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ﴾ . كيف حالك - يا عبدَالله - إذا خلوت بنفسك ، وبعدت عن أنظار الناس ، وغلَّقت الأبواب ، وأظلمت الغرفة ، كيف حال قلبك ؟ هل ستتجرأ على محارم الله ، ولن تبالي بنظر الله سبحانه وتعالى ، أم ستخشاه وتعلم أنه يراك ؟ .
إِذَا مَا خَلَوتَ الدَّهْرَ يَومًا فَلَا تَقُلْ خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيبُ
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ يَغْفُلُ سَاعَةً وَلَا أَنَّ مَا تُخفي عليه يغيب
وَإِذَا خَلَوْتَ بِرِيبَةٍ فِي ظُلْمَةٍ وَالنَّفْسُ دَاعِيَةٌ إِلَى الطُّغْيَانِ
فَاَسْتَحْيِ مِنْ نَظَرِ الإِلَهِ وَقُلْ لَهَا إِنَّ الَّذِي خَلَقَ الظَّلَامَ يَرَانِي
فاللهَ اللهَ في مراقبة الله ، وخشيته في الغيب والشهادة ، في السر والعلانية ، فإن العبد إنما يستحق دخولَ الجنة بخشيته من ربه في خلوته قبل جَلْوَتِهِ ؛ قال تعالى : ﴿ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴾ . اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة ، ونسألك حسن العمل وصلاح السريرة ، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه ، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين . أما بعد :-
فإن مراقبة الله في السر والعلن مما يكسب القلب نوراً وضياءً ، وتُرفَعُ بها الدرجات في الدنيا والآخرة . ورُبَّ رجل في الدنيا لا يعرفه أحد ولم يظهر على الشاشات ولم يعتلي المناصب ، وربما يموت ولا يدري أحد أنه مات ولا يحمل جنازته إلا قليل ، عنده من الأعمال الصالحة والخفية ما يحتفي به أهل السماء ، ويُوَسَّع له في قبره مد البصر ويرى من رحمة الله ما لا يراه غيره ، فالأمور كلها سرائر مودعة في القلوب ؛ وأعمال صالحة يُتَقَرَّب بها إلى علام الغيوب ، فالله الله في التوبة والعودة إلى الله مما كان في الخلوات ، وما أخفيناه عن الناس مما لا يخفى على السميع البصير ، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور . ولنملأ الخلوات التي كانت لا تخلو من الهفوات بالطاعات ، والقرب من رب الأرض والسموات . ولنعلم أن الله بكل شيء عليم ، وأنه { يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ، وأن نربي أنفسنا على الخوف من الله في السر والعلن : { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } . وقال تعالى : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى }.
وكما أن ذنوب الخلوات هي أصل الانتكاسات ، فإن عبادات الخفاء هي أعظم أسباب الثبات . وأفضل الأعمال خشية الله في السر والعلانية ، وخشيةُ الله في السر إنما تَصدُر عن قوة إيمان ومجاهدة للنفس والهوى ، فإن الهوى يدعو في الخلوة إلى المعاصي ، عباد الله : إنَنا في زَمانٍ قَد سَهُلَ فِيه الوُصولُ إلى المَعَاصي ، وَقَرُبَ فِيهِ الدَّانيُّ مِن القَاصيِّ ، وَأصبَحَ الإنسانُ بِواسطةِ شَاشَتِهِ ؛ يَدورُ العَالمَ وَهو في غُرفَتِهِ ، وَهَذَا واللهِ الامتِحانُ الكَبيرُ ، في مُراقبَةِ نَظرِ العَليمِ الخَبيرِ . والدنيا فتنة والعبد محتاج إلى الصبر ليستعين به في الطاعة والبعد عن المعاصي والشهوات .
وانظر ياعبد الله كيف حالك عندما تكون لحالك جالساً مع جوالك ، هل أنت من المتقين لله في جيع أحوالك ، أم تنظر إلى المحرمات في جوالك .
عباد الله : إن الخلوة عند الصالحين هي موطن لمحاسبة النفس واستصلاح عيبها . وسأل فَيْضُ بْنُ إِسْحَاقَ الْفُضَيْلَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) ، قَالَ : " الْمُنِيبُ الَّذِي يَذْكُرُ ذَنْبَهُ فِي الْخَلْوَةِ فَيَسْتَغْفِرُ مِنْهُ " . وفي الخلوات لذة المناجاة والأنس بالله ، يقول مسلم بن يسار : " مَا تَلَذَّذَ الْمُتَلَذِّذُونَ بِمِثْلِ الْخَلْوَةِ بِمُنَاجَاةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " ، ويقول محمد بن يوسف : " مَنْ أَرَادَ تَعْجِيلَ النِّعَمِ فَلْيُكْثِرْ مِنْ مُنَاجَاةِ الْخَلْوَة " . فهنيئا لمن كان باطنه وسره أفضل وأطهر من ظاهره وعلانيته ، وخلواته أصدق مع الله تعالى من جلواته . فاتقوا الله في كل أحوالكم وراقبوه واستقيموا على طاعته ولا تعصوه ، وبادروا بالتوبة إليه ولا تنسوه . اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والزلازل والمحن ، والفتن كلها ما ظهر منها وما بطن . اللهم أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا ، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر . اللهم آمنّا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا يا رب العالمين . الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِيِّ أَمْرِنا خادِمَ الحَرَمَيْنِ الشَّريفَيْنِ وَوَلِيَّ عَهْدِه إِلىَ ما تُحِبُّ وَتَرْضَىَ ، وخُذْ بِنواصيهِمْ إِلىَ البِرِّ وَالتَّقْوَىَ ، الَّلهُمَّ يَسِّرْ لَهُمُ الهُدَىَ ، وَاجْعَلْهُمْ رَحْمَةً للعبادِ يا ذا الجلالِ وَالإِكْرامِ ، الَّلهُمَّ وَاجْمَعْ بِهْمْ كَلِمَةَ المسلمينِ وَاصْرفْ عَنَّا وعَنْهُمْ وَعَنِ المسْلِمينَ كُلَّ سُوءِ وَشَرٍ يا ذا الجلالِ والإِكْرامِ ، وصلوُّا وسلّموا عَلَىَ نَبِيِّكُمْ محمدٍ صلى اللهُ عليهِ وَسلَّمَ ، وأَكثروُا في هذا اليَوْمِ منَ الصلاةِ والسلام عليهِ ، فصلاتُكمْ معروضةٌ عليهِ ، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد . وأقم الصلاة .
( خطبة الجمعة 27/10/1446هـ . جمع وتنسيق خطيب جامع العمار بمحافظة الرين / عبد الرحمن عبد الله الهويمل للتواصل جوال و واتساب / 0504750883 ) .