ربِّ اشرح لي صدري ويسِّر لي أمري

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي شرح صدورَ المؤمنين لطاعته، وسلك بهم سبيل مرضاته، أحمده حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أعظمُ من شرح الله صدره، ورفع ذكره، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.

في ليلة شاتية باردة مظلمة، سار بأهله، وآنس من جانب الطور الأيمن نارًا، ﵟقَالَ لِأَهۡلِهِ ٱمۡكُثُوٓاْ إِنِّيٓ ءَانَسۡتُ نَارٗا لَّعَلِّيٓ ءَاتِيكُم مِّنۡهَا بِخَبَرٍ أَوۡ جَذۡوَةٖ مِّنَ ٱلنَّارِ لَعَلَّكُمۡ تَصۡطَلُونَ 29 فَلَمَّآ أَتَىٰهَا نُودِيَ مِن شَٰطِيِٕ ٱلۡوَادِ ٱلۡأَيۡمَنِ فِي ٱلۡبُقۡعَةِ ٱلۡمُبَٰرَكَةِ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ أَن يَٰمُوسَىٰٓ إِنِّيٓ أَنَا ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ 30 ﵞ إنها لحظة المواجهة وساعة التكليم والرسالة والاصطفاء، إنه مشهد التكلّيف والهيبة وبداية الوقوف على أعتاب الرسالة العظيمة، أمر الله نبيه موسى حينها بمهمة عظيمة شاقة، وتكليف عسير، ﵟٱذۡهَبۡ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ 24ﵞ  أيذهب إلى أعظمِ طاغية على وجهِ الأرضِ إذ ذاكَ، وأَشَدِّهم كُفراً، وأكثَرِهم جُنداً، إلى من تجاوزَ حدَّه، وتمرَّدَ على ربِّه، وعَلا في الأرضِ وأفسدَ فيها، وادَّعى الرُّبوبيةَ، هنا لم يطلب موسى من ربه منصبًا، ولا سلاحًا، ولا جندًا، وإنما استعان بسلاح من نوع آخر، إنها دعوة من كليمات معدودة ﴿قال رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ۝ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾ نعم، إنه الدعاء الذي يُقال في لحظات التحدي، والوقوف على أعتاب المهمّات، دعاء قصير في كلماته لكنه يحمل في طياته مفاتيحَ الراحة والنجاح في الدنيا، والثباتِ والفلاح في الآخرة.

إذا أُغلقت في وجهك الأبواب، وبارت الحِيَل، واشتدّ عليك الطريق، أو إذا عزمت على مشروع خاص، أو مهمة يكتنفها شيء من الصعوبة، أو أي خطوة من خطوات الحياة واصطدمت بعقباتها، فلم ترَ حلًا، ولم تجد عونًا، فدونك هذا المفتاح النبوي العظيم: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ۝ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾ واعلم أن التيسير من الله، لا من حولك ولا من علاقاتك ولا من حِيَلِك.

ويا من تطرق الأبواب وتنتظر التيسير، لا تفتّش عن الحل في الخارج، فالحل قريب ميسور، قل كما قال نبي الله موسى: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ۝ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾

عباد الله، ردّدوا هذا الدعاء بيقين، علموه أبناءكم، علّقوه في قلوبكم، نعم، فنحن نحتاج إلى انشراح الصَّدرِ في إنجازِ المُهمَّاتِ والأعمالِ، ونحتاجُ إلى انشراحِ الصَّدرِ لأداءِ العباداتِ من أقوالٍ وأفعالٍ، فأنشطُ النَّاسِ للعملِ وتحقيقاً للنَّجاحِ هم أشرحُهم صَدراً، وأكثرُهم صَبراً؛ ولذلكَ مَنَّ اللهُ على نبيِّه ﷺ بهذه النِّعمةِ العظيمةِ فقالَ: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) فرفعَ اللهُ ذِكرَه، وأعلى قَدرَه، فنصحَ الأمَّةَ، وكشفَ الغُمَّةَ، وقامَ على أكملِ وجهٍ بأداءِ المُهمَّةِ.

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ۝ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾

هذا الدعاء الشريف تضمن أصلين عظيمين من أصول النجاح والتوفيق والفلاح:

 الأول: شرح الصدر، وهو اتساعه للإيمان وقُوَّتُه، وزوالُ ضيقه وهمِّه، وثقتُه بالله، وثباتُه عند الملمات، لأن الصدر إذا ضاق، ضاعت الرؤية، وتشوشَ العقل، وذبلَ الإيمان، وفترتِ الهمة، وتكاسلت النفس، قال الله في سياق منّته على عباده: ﴿أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه﴾.

والثاني: تيسير الأمر، فإذا يسّر الله أمرك خفّف عليك مشقة الطريق، وسهّل عليك ما أقبلت عليه، وفتح لك الأبواب المغلقة. فإن النفوس تُثقل بالعوائق، وتعجَز عن المقصود، ولا مخرج لها إلا بعون من الله وتيسير

كما قال نبي الله شعيب: ﴿وما توفيقي إلا بالله﴾،  وقال النبي ﷺ: "اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً". ففي انشراح الصدر تزول جميعُ المعوقاتِ الداخلية، وفي تيسيرِ الأمر تتلاشى كلُ المعوقاتِ الخارجية. ففي هذه الآية تعليم لنا أن نلجأ إلى الله في كل أمر، كبير أو صغير، فمن أراد صلاح قلبه، وصحة دينه، واستقامة أمره، فليقل كما قال موسى عليه السلام: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ۝ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾ ففي هذه الدُّنيا، كم نتعرَّضُ لمواقفَ شِدادٍ، يضيقُ منها الصَّدرُ ويحزنُ لها الفؤادُ، فما الذي ينتجُ عن هذا الحُزنِ؟؛ كَسلٌ في البدنِ، شُعورٌ بالإحباطِ، ضَعفٌ في الإنتاجِ، بل قد يؤدي إلى تركِ العملِ النَّافعِ من أمورِ الدُّنيا والآخرةِ، وهذا مطلبٌ شيطاني، أن تضيعَ الأيامُ بينَ همومٍ وأحزانٍ ﵟإِنَّمَا ٱلنَّجۡوَىٰ مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ لِيَحۡزُنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَيۡسَ بِضَآرِّهِمۡ شَيۡـًٔا إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ 10ﵞ 

وهذا الدعاء دعاء موسى عليه السلام دعاء عظيم يُقال: قبل الخطوات الكبيرة وفي قرارات الحياة المصيرية وفي لحظات القلق وفي موضع المسؤولية، فإذا ضاق صدرك و كثرت الأحمالُ على روحك و كاد الهمّ أن ينسيك طعم الطمأنينة؛ فتذكّر موسى عليه السلام، وهو واقف على مشارف الرسالة، مأمور بأن يذهب إلى فرعون الطاغية، فيرفع يديه ويقول: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ۝ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾ نبيٌّ كريم مُكلَّم ٌمن الله، ومَؤيدٌ بالمعجزات، ومع ذلك، طلب شرح الصدر قبل أن يطلب النصرة أو الجند أو الأعوان. لأن الصدر إذا انشرح، استقامت النفسُ، واطمأن القلبُ، وثبتت القدم. فيا من يريد أن يُقبِل على الله، ويا من يطلب النجاح في أمر، ويا من أرهقته الحياة، ويا من هو على أعتاب القرارات الكبيرة؛ ردّد دعاء موسى عليه السلام؛  بصوت قلبك قبل لسانك. ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ۝ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾  

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ....

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد ..

أيها المؤمنون: كم من صدورٍ اليومَ قد ضاقت، وكم من الخطوات توقفت، لا لأن الطريق وعرة، بل لأن الصدر لم ينشرح لها. فنحن بأمسّ الحاجة لانشراح الصدر حتى تستعيدَ النَّفسُ نشاطَها وسرورهاَ، ومن أعظمِ هذه الأسبابِ أن ترفعَ يديكَ إلى السَّماءِ وتقولَ: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ۝ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾ فاللهُ هو الوحيدُ القادرُ على أن يشرحَ صدرَكَ، ﵟفَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِۖ ﵞ 

أيُّها الأحبَّةُ: إذا انشرحَ الصَّدرُ، دُعيَ إلى اللهِ بالحكمةِ والموعظة الحسنة، وأُمرَ بالمعروفِ ونُهيَ عن المنكرِ ، ورأيتَ دينَ الحقِّ يَظهرُ ويملأُ الأركانَ. انظروا إلى انشراحِ صدرِ النَّبيِّ ﷺ حتى في أحلكِ الظُّروفِ، في غزوةِ الأحزابِ، أقبلَ المُشركونَ في جيشٍ عظيمٍ، ونكثَ اليهودُ الصُّلحَ، وظهرَ النِّفاقُ، وعَظُمَ البلاءُ، وخافوا على الذَّراري والنِّساءِ، وأصابَهم الجوعُ والفَاقةُ، وكانوا يحفرونَ الخندقَ فعَرضتْ لهم صَخرةٌ لا تَأخذُ مِنها المَعاولُ، فَاشتَكوا ذلك لرِسولِ اللهِ ﷺ، فَجاءَ وأَخذَ المِعوَلَ فَقالَ: "بسمِ اللهِ، ثم ضَربَ ضَربةً، وقَالَ: اللهُ أكبرُ، أُعطيتُ مَفاتيحَ الشَّامِ، واللهِ إنّي لأنظرُ إلى قُصورِها الحُمْرِ السَّاعةِ، ثُمَّ ضَربَ الثَّانيةَ، فقالَ: اللهُ أكبرُ، أُعطيتُ فَارسَ، واللهِ إنّي لأبصرُ قَصرَ المدائنِ الآن، ثُمَّ ضَربَ الثَّالثةَ، فقَطعَ بَقيةَ الحَجرِ، فقَالَ: اللهُ أَكبرُ أُعطيتُ مَفاتيحَ اليمنِ، واللهِ إنّي لأبصرُ صنعاءَ من مَكاني".

عندما ينشرحُ الصَّدرُ تأتي الأخلاقُ السَّمحاءُ، وتسودُ المحبةُ بينَ النَّاسِ فلا خِصامَ ولا جفاءَ، ويستطيعُ الإنسانُ أن يتغاضى عن كثيرٍ من الأخطاءِ، عَنْ أَنَسٍ -رَضيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: "كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً؛ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِهِ قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ البُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي عِنْدَكَ؛ فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ الله ﷺ ثُمَّ ضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ".

إذا انشرحَ الصَّدرُ طابَ العُمرُ، وعمَّ بينَ المسلمينَ الإخاءُ، وتنافسوا في البذلِ والعطاءِ، وانتشرَ الصَّفاءُ، ودُحرَ الأعداءُ؛ ولذلكَ يحتاجُ النَّاسُ أن ينظروا إلى القُدواتٍ، وإلى ثباتِهم في أصعبِ اللَّحظاتِ، وكيفَ تنشرحُ صدورُهم بحسنِ الظُّنِ بربِّ الأرضِ والسَّمواتِ! فها هو أبو بكرٍ الصَّديقُ -رَضِيَ اللهُ عنه- يَقولُ: نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُؤوسِنَا، وَنَحْنُ فِي الْغَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ، أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَقَالَ ﷺ:  "يَا أَبَا بَكْرٍ! مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟".

﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ۝ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾ يا لها من كلمات، لو علِمنا ما فيها من سكينة وفتح وتيسير، لرددناها كل يوم، اجعل هذا الدعاء وردًا لك في الصباح والمساء، علّمه أبناءك وطلابك ومن تحب، وردّده قبل كلِ خطوة فارقة في حياتك.

اللهم اشرح صدورنا، ويسر لنا أمورنا، وبارك لنا في أرزاقنا، ووسّع لنا في دورنا، اللهم اجعل لنا من كل همٍ فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ومن كل بلاء عافية، اللهم وفقنا لما تحب وترضى من القول والعمل في عافية. ثم صلوا وسلموا على نبيكم الكريم محمد ﷺ ، فقد أمركم ربكم بذلك، فقال جلّ من قائل عليمًا: ﴿إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا﴾  اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد كما صليت على إبراهيم ....

المرفقات

1761752528_��رب اشرح لي صدري ويسّر لي أمري�.pdf

1761752531_��رب اشرح لي صدري ويسّر لي أمري�.docx

المشاهدات 628 | التعليقات 0