رَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا...

مبارك العشوان 1
1446/05/25 - 2024/11/27 19:03PM

الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

أمَّا بَعْدُ: فَقَدْ رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ؛ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ( سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ  وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ  وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللهَ   وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ ).

يَقُولُ ابنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ: [ فَهَذَا رَجُلٌ يَخْشَى اللهَ فِي سِرِّهِ  وَيُرَاقِبُهُ فِي خَلْوَتِهِ، وَأفْضَلُ الأَعْمَالِ خَشْيَةُ اللهِ فِي السِّرِّ وَالعَلَانِيَةِ، وَخَشْيَةُ اللهِ فِي السِّرِّ إِنَّمَا تَصْدُرُ عَنْ قُوَّةِ إِيمَانٍ وَمُجَاهَدَةٍ لِلنَّفْسِ وَالهَوَى؛ فَإِنَّ الهَوَى يَدْعُو فِي الخَلْوَةِ إِلَى المَعَاصِي وَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّ مِنْ أَعَزِّ الأَشْيَاءِ الوَرَعُ فِي الخَلْوَةِ...] الخ

هَنِيئًا لِمَنْ تَفِيضُ عَيْنُهُ بِالدَّمْعِ لِذِكْرِ اللهِ؛ هَذَا الجَزَاءَ العَظِيمَ ( يُظِلُّهُ اللهُ فِي ظِلِّهِ ) يَذْكُرُ سَعَةَ رَحْمَةِ اللهِ وَمَا أَعَدَّ لِأَوْلِيَائِهِ مِنَ النَّعِيمِ المُقِيمِ؛ فَيَرْجُوا وَيَبْكِي، وَيَذْكُرُ شِدَّةَ عِقَابِهِ تَعَالَى وَمَا أَعَدَّ لِأَعْدَائِهِ مِنَ العَذَابِ الأَلِيمِ؛ فَيَخْشَى وَيَبْكِى، يَتَفَكَّرُ فِي أَسْمَاءِ اللهِ الحُسْنَى وَصِفَاتِهِ العُلْيَا؛ فَيَبْكِي حُبًّا وَتَعْظِيمًّا وَإِجْلَالاً؛ يَقْرَأُ القُرْآنَ أَوْ يَسْتَمِعُ لَهُ وَيَتَدَبَّرُهُ؛ فَيَبْكِي.

يَقُولُ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلى الله عَلَيهِ وسَلـمَ: ( اقْـرَأْ عَلَيَّ  قُلْتُ: آقْــرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي، فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى بَلَغْتُ: { فَكَيْـفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا } قَالَ: أَمْسِكْ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ ) [رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ]

هَكَذَا كَانَ نَبِيُّنَا وَالأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ؛ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ؛ وَهَكَذَا يَكُونُ المُؤْمِنُونَ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: { أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً }[مريم 58 ]

وَقَالَ تَعَالَى: { اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ }[الزمر 23 ]

يَقُولُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ: [ أَيْ هَذِهِ صِفَةُ الْأَبْرَارِ، عِنْدَ سَمَاعِ كَلَامِ الْجَبَّارِ، الْمُهَيْمِنِ الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ، لِمَا يَفْهَمُونَ مِنْهُ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَالتَّخْوِيفِ وَالتَّهْدِيدِ، تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُهُمْ مِنَ الْخَشْيَةِ وَالْخَوْفِ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ؛  لِمَا يَرْجُونَ ويُؤمِّلون مِنْ رَحْمَتِهِ...] الخ

عِبَادَ اللهِ: ثُمَّ إِنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللهِ أَلَّا يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِالبُكَاءِ؛ بَلْ يُخْفِيهِ مَا اسْتَطَاعَ، فَهَذَا ابنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمْ يَعْلِمِ بِبُكَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بَعْدَ أَنِ الْتَفَتَ إِلَيهِ.

وَهَكَذَا كَانَ السَّلَفُ يَفْعَلُونَ؛ وَلَرُبَّمَا حَدَّثَ أَحَدُهُمْ بِالحَدِيثِ وَرَقَّ قَلْبُهُ، وَتَغَيَّرَ صَوْتُهُ؛ فيَقُولُ مَا أَشَدَّ الزُّكَامَ؛ لِيُخْفِيَ البُكَاءَ وَيُظْهِرَ أَنَّهُ زُكَامٌ.

وَكَانَ الرَّجُلُ يَجْلِسُ المَجْلِسَ فَتَجِيئُهُ عَبْرَتُهُ فَيَرُدُّهَا؛ فَإِذَا خَشِيَ أَنْ تَسْبِقَهُ قَامَ.

رَزَقَنَا اللهُ الإِخْلَاصَ فِي القَوْلِ وَالعَمَلِ وَخَشْيَتَهُ فِي الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَبَارَكَ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيِ وَالذَّكَرِ الْحَكِيمِ، وَأَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ  وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ الْجَلِيلَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلُّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ  إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

الخطبة الثانية:

الحَمْدُ لِلهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ؛ أَمَّا بَعْدُ:

فَاعْلَمُوا - رَحِمَكُمُ اللهُ - أَنَّ هُنَاكَ أَسْبَابًا لِرِقَّةِ القُلُوبِ؛ يَنْبَغِي الحِرْصُ عَلَيْهَا وَالأَخْذُ بِهَا.

وَأَسْبَابًا لِقَسْوَةِ القُلُوبِ؛ يَنْبَغِي الحَذَرُ مِنْهَا وَاجْتِنَابُهَا.

وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَا يُرَقِّقُ القُلُوبَ؛ وَيُورِثُ خَشْيَةَ عَلَّامِ الغُيُوبِ: العِلْمُ بِاللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى؛ فَمَنْ كَانَ بِاللَّهِ أَعْرَفَ كَانَ لَهُ أَخْوَفَ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [فاطر 28]

وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يُرَقِّقُ القُلُوبَ: كَثْرَةُ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، وَقِرَاءَةُ القُرْآنِ بِتَأنٍّ وَتَدَبُّرٍ، وَالتَّبْكِيرُ إِلَى الصَّلَوَاتِ، وَحُضُورُ مَجَالِسِ الذِّكْرِ، وَعِيَادَةُ المَرْضَى، وَاتِّبَاعُ الجَنَائِزِ، وَزِيَارَةُ القُبُورِ، وَتَذَكُّرُ المَوْتِ وَاليَومِ الآخِرِ، وَإِطَابَةُ المَطْعَمِ... وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الأَسْبَابِ؛ وَهِيَ كَثِيرَةٌ وَلِلَّهِ الحَمْدُ؛ يَجْمَعُهَا المحُاَفظَةَ عَلَى الفَرَائِضِ، وَالتَّزُوُّدُ مِنَ النَّوَافِلِ. 

أَمَّا قَسْوُةُ القُلُوبِ - أَعَاذَنَا اللهُ مِنْهَا - فَأَعْظَمُ أَسْبَابِهَا: كَثْرَةُ المَعَاصِي، وَاحْتِقَارُ الذُّنُوبِ، وَالإِصْرَارُ عَلَيْهَا، وَصُحْبَةُ أَهْلِهَا؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: { كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }[المطففين 14]  قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هُوَ الذَّنْبُ عَلَى الذَّنْبِ حَتَّى يَسْوَدَّ الْقَلْبُ، قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الرَّجُلُ يُذْنِبُ الذَّنْبَ  فَيُحِيطُ الذَّنْبُ بِقَلْبِهِ، ثُمَّ يُذْنِبُ الذَّنْبَ فَيُحِيطُ الذَّنْبُ بِقَلْبِهِ، حَتَّى تُغْشِيَ الذُّنُوبُ قَلْبَهُ.

أَعَاذَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ هَذَا؛ وَرَزَقَنَا صَلَاحَ القُلُوبِ.

ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ  وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلَامَ وَالمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالمُشْرِكِينَ.

اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَعْدَائِكَ أَعْدَاءِ الدِّينِ.

اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَ الإِسْلَامَ وَالمُسْلِمِينَ بِسُوءٍ فَأَشْغِلْهُ بِنَفْسِهِ وَاجْعَلْ كَيْدَهُ فِي نَحْرِهِ وَتَدْبِيرَهُ تَدْمِيرًا عَلَيهِ يَا قَوِيُّ يَا عَزِيزُ.

اللَّهُمَّ أصْلِحْ أئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلَاةَ أمْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، اللَّهُمَّ خُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا وَإِيَّاهُمْ لِهُدَاكَ، واجْعَلْ عَمَلَنَا فِي رِضَاكَ.

عِبَادَ اللهِ: اُذْكُرُوا اللهَ العَلِيَّ الْعَظِيْمَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ وَلَذِكْرُ اللهِ أكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

 

المرفقات

1732723400_7 رَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ.pdf

1732723416_7 رَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ.docx

المشاهدات 652 | التعليقات 0