سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ

عبدالرحمن اللهيبي
1447/03/20 - 2025/09/12 01:49AM
من المنقول بتصرف
 
 

الحمد لله العليم القدير؛ خلق الخلق بقدرته، وقضى فيهم بعلمه وحكمته؛ نحمده على السراء، ونلوذ به في الضراء، [وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ يرسل الرياح مبشرات، ويخوف عباده بالآيات؛ ليدفعهم إلى فعل الخيرات، ويحجزهم عن ارتكاب الموبقات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ امتلأ قلبه لله تعالى إجلالا ومهابة وتعظيماً ، فكان إذا تغيرت أحوال الكون خرج خاشعا داعياً ، وفزع إلى ربه مستغفراً مصلياً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين

 أما بعد: فأوصي نفسي وإياكم  -عباد الله- بتقوى الله تعالى؛ فإنها خير الزاد ليوم المعاد [وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ].

 أيها الناس:  إن آيات الله الكونية في الآفاق لا تحصى وآياته في الأنفس لا تستقصى، وهي دالة على عظمته وقدرته، وجلاله وعظمته ، وتدبيره وتصرفه، [سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ].

أيها المسلمون، لقد حدث حادث كونيّ قبل عدة أيام، وكثير من الناس لم ينظر له نظرة خوف واعتبار ، ولم يتفكر فيه بخشية ووجل وادكار ، ألا وهو خسوف القمر.

وذلك لأن كثيرا من الناس يرى في هذا الحدث الكوني ظاهرة طبيعية فلكيّة باعتبار أن لها أسبابا علمية مادية ، وهي وإن كانت كذلك إلا أن لها أيضا أسبابا شرعية ، فالمؤمنون يعتبرونها تخويفًا من الله، ويتخذونها برهانا لعظيم قدرة الله ، فتأخذهم هذا الفكرةُ بمهابة وإجلال لتكبير الله ، ثم يطأطئون رؤوسهم خشية وخضوعا في عظة واعتبار لتغير أحوال الكون متى شاء الله ..

 أيها المسلمون، لقد كثر الحديث عن موضوع الخسوف في البرامج والمقالات لبيان أسباب هذه الظاهرة من الناحية العلمية مع إغفالٍ عن ربطها بقدرة الله وتصريفه وتدبيره ، وإهمالٍ لتوجيه الناس بالاتعاظ والاعتبار بها

أيها المسلمون؛ من الَّذِي خَلَقَ الشمس والقمر ومن الذي يسَيّرهُمَا، وَمن الذي قَدَّرَ أسباب الْكُسُوفَ وَالْخُسُوفَ ؟

أليس هو الله الَّذِي قال عنهما: ﴿وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي يُرْسِلُ اللَّهُ لَا تَكُونُ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُرْسِلُهَا يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَافْزَعُوا إِلَى ذِكْرِهِ وَدُعَائِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.

 فالْخَوْفُ والاعتبار مِما يجري في هذا الكون من تغيرات كونية عظيمة هُوَ دَأْبُ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ والصَّالِحِينَ مِنَ السَّابِقِينَ، حتى وإن أدركوا أسبابها ، ألم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذَا رأى الرِّيحَ وَالْغَيْمَ، عُرِفَ ذلكَ في وَجْهِهِ، وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا أمَطَرَتْ سُرَّ به، رغم أن الأسباب المادية للغيم والريح معروفة ، ولكنه ﷺ كان يخشى أن تكون عذابا ، بينما نظرت أمة معذبة من قبل على أن الغيم والريح من أسباب المطر ، فوقفوا على الأسباب المادية فقط فَقالوا: هذا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ، فقال الله : بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ ۖ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ () تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَىٰ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ

لذلك فإنه والله لا يستهين بآيات الله إلا أهل الغفلة وضعفاءُ الإيمان.. فإن الله يقول: [وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ] ،  وقال تعالى: [وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ * وَإِذَا رَأَوْا آَيَةً يَسْتَسْخِرُونَ]، وقال تعالى: [سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ]

أيها المؤمنون: لابد أن نستشعر أن هذه المخلوقات العظيمة كالشمس والقمر مخلوقات مدبرة مسخرة بأمر الله يحكم فيها ما يشاء، ويقضي فيها ما يريد، وتسير بأمر الله وفق نظام دقيق  ، لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ

ولذلك لا غرابة في أن يعرف الحاسبون الفلكيون أوقات الكسوف وأزمنته ومدته ؛ لأن ذلك يُعرف بالحساب؛ كشروق الشمس وغروبها ودخول الفصول وأوائل الشهور وغير ذلك مما يدرك بالحساب؛ إلا أن ذلك لا يخرجها عن الاتعاظ والاعتبار لما فيها من الدلالة على عظيم صنع الله ، وبديع خلقه، وجليل تصريفه وقدرته

أقول ما تسمعون وأستغفر الله...

 

 

 

أيها المسلمون: والله إن كسوف الشمس أو خسوف القمر لمشهد عظيم مروع ترتعد له قلوب المؤمنين وتخشاه أفئدة المتقين.. وذلك لكونه مشهد يذكر العبد المؤمن باختلال نظام الكون في يوم القيامة الذي قال الله فيه: (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ )

أفيسوغ بعد هذا -أيها المؤمنون- أن يقول قائل -يؤمن بالله واليوم الآخر-: إن الخسوف أمر طبيعي وحدث عادي؛ لا يوجب قلقاً ولا فزعاً؟ كلا والله بل الأمر كما قال الله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ *)

أيها المؤمنون: إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قال في خطبته حين وقع الكسوف في عهده: يا أمة محمد والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبدُه أو تزني أمتُه. يا أمة محمد لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً".

وهذا يؤكد خطورة الغفلة عن الاعتبار بأثر الذنوب والمعاصي والغفلة عن الآخرة ، أما قال الله تعالى: (( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ))

 أيها المسلمون: لقد فشا في زماننا هذا الاستهانة بالذنوب والمعاصي، ولقد كان الناس من قبل يراجعون أنفسهم في الملمات، ويلجؤون إلى الله تعالى في المصائب والمدلهمات، ولكن في السنوات الأخيرة شاعت الغفلة في الناس ، وضعف تأثر القلوب بالمواعظ والعظات ، وتمردت بعض النفوس على الأحكام والشرائع.. وانعقدت أسباب البلايا والمصائب ، فحلت أوبئة ما عرفها الناس من قبل، وزلازلُ وانهيارات ، وبراكين وفيضانات ، وفقر وقحط ومجاعات، وحروب تتسع رقعتها ويزيد في بلاد شتى ضحاياها ، وأهل النعم في غفلة عما يحاط بهم، فمتى يدركون أنهم في خطر إن لم يشكروا ربهم، ويتمسكوا بدينهم، ويتوبوا من ذنوبهم؟!

فَحَرِيٌّ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ أَنْ يَعْتَبِرُوا بِنُذُرِ اللَّهِ وآياته ، وَأَنْ يُحَافِظُوا عَلَى الْفَرَائِضِ والواجبات، وَيَجْتَنِبُوا الْمَحَارِمَ والخطيئات، وَيَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَتَنَاصَحُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَيَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ، وَيَأْخُذُوا عَلَى أَيْدِي السُّفَهَاءِ مِنْهُمْ؛ لِئَلَّا يَحِلَّ بِهِمُ ما حل بغيرهم ممن حولهم

هذا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ…

المشاهدات 897 | التعليقات 0