شهر الله المحرم -فضائله، وما يشرع فيه- وصوم عاشوراء.
أ.د عبدالله الطيار
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَسِعَتْ رحمته كلَّ شيءٍ، وعَمّت كلَّ حيٍّ، كتبهَا اللهُ للمتقينَ، وأَدْنَى مِنْهَا المحسنينَ، سُبْحَانَكَ (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) غافر: [7]. وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسلّمَ تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ: فاتّقُوا اللهَ عبادَ اللهِ، ففي تَقْوَاهُ النَّجَاةَ، قَالَ تَعَالَى: (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) الزمر: [61].
أيُّهَا المؤمنُونَ: لا زَالَتْ نِعَمُ اللهِ عزَّ وجلَّ على عِبَادِهِ تَتَوَالى، وآَلاؤه تَتْرَى، بِتَتَابعِ الأَزْمِنَةِ الْفَاضِلَةِ، فَبِالأَمْسِ الْقَرِيبِ اسْتَقْبَلْنَا عَامًا هِجْرِيًا جَدِيدًا، وَشَهْرًا حَرَامًا تتجددُ فيه النفحاتُ الإيمانيةُ، والهِبَاتُ الرّبانيةُ بِشَهْرِ اللهِ المحَرّمِ، غُرَّة العَامِ الْهِجْرِيِّ، وأَحَدِ الأشهرِ الحُرمِ؛ قال تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) التوبة:[36] .
عِبَادَ اللهِ: وَشَهْرُ اللهِ المحَرَّم أَحَدُ الأشْهُرِ الحُرُمِ التي ذكرهَا النبيُّ ﷺ في قولِهِ: (إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الذي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ) أخرجه البخاري (3197) ومسلم (1679).
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: والأشْهُرُ الحُرُمُ تطبيقٌ عمليٌ لرسالةِ الإسلامِ في التسامحِ والحِلْمِ، ونبذِ العنفِ وتحقيقِ السِّلْمِ فقد حَرَّمَ الله ابْتِدَاءَ الْقِتَالِ فيها بِقَوْلِهِ: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) البقرة: [194].
أَيُّهَا المؤْمِنُونَ: وشهرُ اللهِ المحَرَّمُ أُضِيفَ إلَى اللهِ عز وجل إِضَافَةَ تَخْصِيصٍ وتعظيمٍ؛ لأنَّهُ سبْحَانَهُ لا يُضِيفُ إليهِ إلا خَوَاصَّ مَخْلُوقَاتِهِ، وَلَمْ يَصِحُّ إِضَافَة شَهْر مِنْ الشُّهُور إِلَى اللَّه تَعَالَى إِلَّا شَهْر اللَّه الْمُحَرَّم، فينبغِي اسْتِشْعَارُ مَكَانَةِ هَذا الشَّهْر، وَتَخْصِيصه بمزيدٍ مِنَ الْفَضْلِ والأَجْرِ، واسْتِحْضَار أنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ مَا خَصَّهُ بِالْحُرْمَةِ، إلا لمَزِيَّةِ فَضْلٍ، وَمَزِيدِ أَجْرٍ، فاللهَ اللهَ في تَعْظِيمِ مَا عَظَّمَ اللهُ عزَّ وجلَّ، والتَّعَرُّضُ لِنَفَحَاتِ اللهِ الَّتِي هِيَ بِالأَصْلِ رَحْمَةٌ مِنَ اللهِ بِعِبَادِهِ، فلا تَكُونُ نِقْمَة على العبدِ، بتجَاهُلِهَا، أو التَّفْرِيطِ فِيهَا، والاستِهَانَةِ بِهَا.
عِبَادَ اللهِ: ومِنَ العباداتِ المشروعةِ في شهرِ اللهِ المُحَرَّمِ، الإكثارُ مِنْ نَافلةِ الصِّيَامِ فقدْ سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ: أَيُّ الصَّلاةِ أَفْضَلُ بَعْدَ المَكْتُوبَةِ؟ وَأَيُّ الصِّيامِ أَفْضَلُ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضانَ؟ فَقالَ: (أَفْضَلُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ المَكْتُوبَةِ، الصَّلاةُ في جَوْفِ اللَّيْلِ، وَأَفْضَلُ الصِّيامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضانَ، صِيامُ شَهْرِ اللهِ المُحَرَّمِ) أخرجه مسلم (1163).
عِبَادَ اللهِ: وفِي ثَنَايَا شَهْر اللهِ المُحَرَّم تَبْصِرَةٌ وذكرى لكلِّ عَبْدٍ مُنِيب، وعِظَةٌ وعِبْرَةٌ لكُلِّ حَصِيفٍ لَبِيبٍ، وهوَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ، يومٌ عظيمٌ نجَّى اللهُ فيهِ موسَى ومَنْ مَعَهُ مِنَ المؤْمِنِينَ مِنْ بَطْشِ فِرْعَوْنَ الَّذِي كَانَ عَالِيًا مِنَ المسْرِفِينَ، بِمُعْجِزَةٍ مَرْئِيَّةٍ مَحْسُوسَةٍ، فَانْفَلَقَ الْبَحْرُ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ، ففي الصحيحينِ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَدِمَ المَدِينَةَ فَوَجَدَ اليَهُودَ صِيامًا يَومَ عاشُوراءَ، فَقالَ لهمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ: مَا هَذَا اليَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ؟ فَقَالُوا: هذا يَوْمٌ عَظِيمٌ، أنْجَى اللهُ فيهِ مُوسَى وقَوْمَهُ، وغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وقَوْمَهُ، فَصامَهُ مُوسى شُكْرًا، فَنَحْنُ نَصُومُهُ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: فَنَحْنُ أحَقُّ وأَوْلى بمُوسى مِنكُم فَصامَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ وأَمَرَ بصِيامِهِ) أخرجه البخاري (2004) ومسلم (1130).
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: ويُسَنُّ للمسلمِ أنْ يَتَحَرَّى ويَتَحَيَّنَ صِيَامَ هذا الْيَوْم؛ لِقَوْلِ ابنِ عباسٍ رضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (ما رَأَيْتُ النبيَّ ﷺ يَتَحَرّى صِيامَ يَومٍ فَضَّلَهُ على غيرِهِ إلّا هذا اليَومَ يَومَ عاشُوراءَ، وهذا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضانَ) أخرجه البخاري (2006).
أَيُّهَا المؤْمِنُونَ: وقد حثَّ النَّبِيُّ ﷺ على صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ بِقَوْلِهِ: (وَصِيامُ يَومِ عاشُوراءَ، أَحْتَسِبُ على اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتي قَبْلَهُ) أخرجه مسلم برقم (1162)
وَلمُخَالَفَةِ الْيَهُودِ في صِيَامِهِم لِهَذَا الْيَوْمِ قَالَ ﷺ: (فَإِذَا كانَ العَامُ المُقْبِلُ-إنْ شَاءَ اللَّهُ-صُمْنَا اليومَ التَّاسِعَ، فَلَمْ يَأْتِ العَامُ المُقْبِلُ حتَّى تُوُفِّيَ رَسولُ اللهِ ﷺ) أخرجه مسلم (1134).
عِبَادَ اللهِ: وغدًا يوم السّبت هو يَوْمُ عَاشُورَاء، فمنْ صامَ التَّاسِعَ وهُوَ يَوْمُنا هذا، فَلْيَصُم الْعَاشِرَ غَدًا، وَمَنْ لَمْ يَصُمِ الْيَوْمَ، فَلْيَصُمْ العَاشِرَ والْحَادِي عَشَر، ومنْ أرادَ صِيَامَ يَوْمٍ وَاحِدٍ فَقَطْ، فَلْيَصُمْ السَّبْتَ مُنْفَرِدًا، ولا كَرَاهَةَ في ذَلِكَ، وكُلُّ ذَلِكَ خَيْرٌ إِنْ شَاءَ اللهُ.
عِبَادَ اللهِ: ومن كانَ عليهِ قَضَاءُ أيَّامٍ مِنْ رَمَضَان، فَالأَوْلَى أنْ يُبَادِرَ بِالْقَضَاءِ قَبْلَ صِيَامِ التَّطَوُّعِ، فإن صامَ يومَ عاشورَاءَ تطوعًا، وأخَّر القضاء فلا بأس؛ لأنهُ صومٌ معينٌ يفوتُ بفواتِ وقتِهِ، كمَا لا يُشْرَعُ قضاءُ يومِ عاشوراءَ لمنْ فاتَهُ صِيَامُهُ.
أَعُوذُ باللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) يونس: [90-92].
بَارَكَ اللهُ لي ولكم فِي الْوَحْيَيْنِ، وَنَفَعَنَي وَإِيَّاكُم بِهَدْيِ خَيْرِ الثَّقَلَيْنِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، وتُوبُوا إليه، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ وَلِيِّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ ألّا إلَهَ إلّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أجمعين أمَّا بَعْدُ: فَاعْلَمُوا-رَعَاكُمُ اللهُ- أنَّ الْعَامَ الْجَدِيدَ صفحةٌ بيضاءُ، تُسَطِّرُونَ فِيهَا أَهْدَافَكُمْ، وَتُسَجِّلونَ فيهَا أَعْمَالَكُمْ، فَاسْتَقْبِلُوهُ بِعَزَائِمَ قَوِيَّة، ونَوَايَا صَادِقَة، واعْلَمُوا أنَّ كُلَّ عَمَلٍ تَعْمَلُونَه صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، قَلِيلاً أو كَثِيرًا سَيُحْفَظُ عَلَيْكُمْ، حتَى مثاقيلَ الذَّرِ، واحرِصُوا على حُسْنِ التَّخْطِيطِ، واسْتِثْمَارِ الأَعْمَارِ، ولا تَسْتَبْطِؤُوا الأَيَّامَ، فَكُلُّ آتٍ قريب، ومَا تُوعَدُون لآتٍ، فَاحْذَرُوا الْفَوَات، وجِدُّوا في مَيَادِينِ السِّبَاقِ، قالَ تعالَى: (فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ) الأنبياء:[94].
أسْأَلُ اللهَ عزَّ وجلَّ أَنْ يرزقَنَا بركة العمر، وصَلاحَ الْعَمَلِ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ.
اَللَّهُمَّ أمِّنا فِي أَوْطَانِنَا وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا. اللهم وَفِّق وَلِيَّ أَمْرِنَا خادمَ الْحَرَمَيْنِ الشريفينِ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وِإِخْوَانَهُ وَأَعْوَانَهُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَسَلِّمْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَشَرٍّ. اللَّهُمَّ احْفَظْ عُلَمَاءَنَا، وَوُلاةَ أَمْرِنَا، وَالمُرَابِطِينَ عَلَى حُدُودِنَا، وَرِجَالَ أمننا. اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، وَاجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخنا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
الجمعة 9 /1 /1447هـ