شهر الله المحرم (مشكولة + مختصرة)
صالح عبد الرحمن
خطبة عن شهر الله المحرم 1447/1/2هـ
الخطبة الأولى:
الحَمْدُ للهِ مُقَدِّرِ الـمَقْدُورِ، وَمُصَرِّفِ الأَيَّامِ وَالشُهُورِ، وَمُجْرِي الأَعْوَامِ وَالدُّهُورِ، أَحمَدُهُ تَعَالَى وَأَشكُرُه، وَأَتوبُ إِلَيهِ وَأَسْتَغفِرُهُ، إِلَيْهِ تَصِيرُ الأُمُورُ، وَهُوَ العَفُوُّ الغَفُورُ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةً تَنْفَعُ صَاحِبَهَا يَوْمَ يُبعْثَرُ مَا فِي القُبُورِ، وَيُحَصّلُ مَا فِي الصُّدُورِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ النَّبِيُّ الـمُجْتَبَى، وَالحَبِيبُ الـمُصْطَفَى وَالعَبْدُ الشَّكُورُ، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ مَا اِمْتَدَّتِ البُحُورُ، وَتَعَاقَبَ العَشِيُّ وَالبُكُورُ، وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَومِ النُّشُورِ، وَسَلَّمَ تَسلِيمًا كثيرًا.
أَمَّا بَعْدُ.. فَاِتَّقَوْا اللهَ عِبَادَ اللهِ حَقَّ تُقاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
أَظَلَّنَا شَهْرٌ حَرَامٌ يُسَمَّى بِالـمُحَرَّمِ..
هَذَا الشَّهْرُ هُوَ أَحَدُ شُهُورِ السَّنَةِ الهِجْرِيَةِ.. وَلِهَذَا الشَّهْرِ فَضَائِلُ وَأَحْكَامُ نَتوَقَّفُ مَعَهَا وقفات :
الوَقْفَةُ الأُولَى: شَهْرُ مُحرَّمٍ هُوَ أَوَّلُ شُهُورِ السَّنَةِ الهِجْرِيَة، وَقَدْ كَانَ يُسَمَّى فِي الجَاهِلِيَةِ بِالـمُؤْتَمَرِ؛ لِأَنَّ العَرَبَ كَانَتْ تَجتَمِعُ فِيهِ لِلتَشَاوُرِ، وَبِالذَّاتِ فِي مَسَائِلِ الحَرْبِ أَوِ النَأْيِ عَنْهَا، وَقِيلَ: بَلْ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَأتَمِرُ فِيهِ بِأَمْرِ الـمَنْعِ مِنَ الحَرْبِ، وَسُمِّيَ بِالـمُحَرَّمِ لِأَنَّهُ شَهْرٌ حَرَّمَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ القِتَالَ.
وَمُحرَّمُ أَحَدُ الأَشْهُرِ الأَرْبَعَةِ الحُرُمِ الوَارِدَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}.
وَهَذِهِ الأَشْهُرُ الأَرْبَعَةُ هِيَ ذُو القَعْدَةِ وَذُو الِحجَّةِ وَمُحرَّمُ وَرَجَبُ، وَسُمِّيَتْ بِالحُرُمِ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّم فِيهَا القِتَالَ، كَمَا أَنَّ اللهَ خَصَّهَا بِنَهْيِ الإِنْسَانِ أَنْ يَظْلِمَ فِيهَا نَفْسَهُ.
الوَقْفَةُ الثَّانِيَةُ: شَهْرُ مُحَرَمَ شَهْرٌ فَاضِلٌ، وَمِنْ فَضْلِهِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى نَسَبَهُ إِلَيْهِ، رَوَى اِبْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلَاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيُّ الصِّيَامِ أَفْضَلُ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ؟ قَالَ: (شَهْرُ اللهِ الَّذِي تَدْعُونَهُ الـمُحَرَّمَ).
قَالَ اِبْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ: "وَقَدْ سَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ الـمُحَرَّمَ شَهْرَ اللهِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى اللهِ تَدُلُ عَلَى شَرَفِهِ وَفَضْلِهِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُضِيفُ إِلَيْهِ إِلَّا خَوَاصَ مَخْلُوقَاتِهِ.
الوَقْفَةُ الثَّالِثَةُ: مِنْ أَفْضَلِ الأَعْمَالِ الفَاضِلَةِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الفَاضِلِ: الصِّيَامُ، لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ).
قَالَ اِبْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللهُ: "هَذَا الحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ أَفضَلَ مَا تُطُوِّعَ بِهِ مِنَ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ صَوْمُ شَهْرِ اللهِ الـمُحَرَّمِ" ا.هـ.
قَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ: "كَانُوا يُعَظِّمونَ ثَلَاثَ عَشَراتٍ: العَشْرُ الأَخِيرُ مِنْ رَمَضَانَ، وَالعَشْرُ الأُوَلُ مِنْ ذِي الحِجَةِ، والعَشْرُ الأُوَلُ مِنْ مُحرَّم".
شَهْرُ الحَرَامِ مُبَارَكٌ مَيْمُونُ *** وَالصَّومُ فِيْهِ مُضَاعَفٌ مَسْنُونُ
وَثَوابُ صَائِمِهِ لِوَجهِ إِلَهِهِ *** فِي الخُلْدِ عِنْدَ مَلِيكِهِ مَخزُونُ.
الوَقْفَةُ الرَّابِعَةُ: مِنْ أَعْظَمِ الأَيَّامِ التِي جَاءَ الحَثُّ عَلَى صِيَامِهَا يَوْمُ العَاشِرِ مِنْ مُحَرَّمَ، رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: مَا هَذَا، قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى. قَالَ: فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ.
نَعَمْ.. إِنَّه يَوْمٌ صَامَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ.. وَكَفَى بِهذِهِ الجُملَةِ حَثًا عَلَى صِيَامِهِ.. اِقْتِدَاءً بِنَبِيِّ اللهِ، وَاِمْتِثَالَاً لِأَمْرِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
فَكَيْفَ إِذَا كَانَ لِصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَضْلٌ عَظِيمٌ، رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ).
اللهُ أَكْبَرُ.. صِيَامُ يَوْمٍ وَاحِدٍ ــ إِذَا قُبِلَ ــ يُغفَرُ بِهِ لِلإِنْسَانِ مَا اِرْتَكَبَهُ طَوَالَ سَنَةٍ كَامِلَةٍ مِنْ مَعَاصٍ وَسَيِّئَاتٍ.. فَكَيْفَ يُفَرِّطُ الإِنْسَانُ فِي هَذَا الأَجْرِ العَظِيمِ وَالفَضْلِ الكَبيرِ.
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِ مِنَ الآيات وَالذِّكْرَ الْحَكِيمَ، قَدْ قُلْتُ مَا سَمِعْتُم وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إحْسَانِهِ وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَاِمْتِنَانِهِ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لاشريكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الداعي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ وَسُلَّمُ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَإِخْوَانِهِ، وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ وَاِقْتَفَى أثَرَهُ وَاِسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}..
مَا زِلْنَا معاشر الأتقياء فِي تَعْدَادِ الوَقَفَاتِ مَعَ شَهْرِ اللهِ الـمُحَرَّمِ، الوَقْفَةُ الخَامِسَةُ: لِصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ مَرَاتبُ، فَأَوَّلُهَا وَهِيَ أَفْضَلُهَا: صِيَامُ يَومَي التَاسِعِ وَالعَاشِرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ) يَعْنِي: مَعَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ.
أَمَّا الـمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ دُونَ الأُوْلَى: فَصِيَامُ العَاشِرِ وَالحَادِيَ عَشَر، مُخَالَفَةً لِلْيَهُودِ.
وَالـمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ مَرَاتِبِ صِيَامِ عَاشُورَاءَ فَهِيَ إِفْرَادُهُ بِالصِّيَامِ، قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ اِبْنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللهُ: "صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ كَفَّارَةُ سَنَةٍ، وَلا يُكْرَهُ إفْرَادُهُ بِالصَّوْمِ".
الوَقْفَةُ السَّادِسَةُ:
صَومُ يَومِ عَاشوراءَ مُسْتَحَبٌ بِالإِجْمَاعِ، وَلَم يُخَالِف أَحدٌ في ذلك، قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِيُ رَحِمَهُ اللهُ عَنْ صَومِ عَاشُورَاءَ: "وَأَجْمَعَ الـمُسلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيسَ بِواجِبٍ، وَأَنَّهُ سُنَّةٌ".
أَسأَلُ اللهَ تَعالَى أَنْ يُبَلِغَنا يومَ عاشُوراء، ويُعيننا فيهِ على الصيامِ إنَّهُ سميعٌ قريبُ.