شهر الله المحرم ويوم عاشوراء

شهر الله المحرم ويوم عاشوراء

الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، جَعَلَ فِي تَقَلُّبِ الْأَيَّامِ عِظَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَفِي تَعَاقُبِهَا عِبْرَةً لِلْمُدَّكِرِينَ ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، سَيِّدِ الشَّاكِرِينَ وَإِمَامِ الْمُوَحِّدِينَ ، قَامَ بِحَقِّ رَبِّهِ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ ، عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ أَفْضَلُ صَلَاةٍ وَأَتَمُّ تَسْلِيمٍ . أَمَّا بَعْدُ :-

فاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ ، فَإِنَّ فِي تَقْوَاهُ سَعَادَةً لِلْعِبَادِ ، وَهِيَ خَيْرُ مَا يُتَزَوَّدُ بِهِ لِيَوْمِ الْمَعَادِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197] .

عباد الله : يقول الله تبارك وتعالى : ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [التوبة: 36] . وقد فصّلت السنة النبوية هذه الأشهر الحُرُم ، فعن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا ، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ، ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ : ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ " رواه البخاري . قال الحسن رحمه الله : " ليس شهرٌ في السنة بعد شهر رمضان أعظم عند الله من المحرَّم " . ولقد نجّى الله في هذا الشهر موسى وقومه من فرعون وقومه ، فَشُرِع فيه الطاعة والعبادة والصوم ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم ، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل " . رواه مسلم . قال أبو عثمان النهدي عن السلف : كانوا يعظّمون ثلاث عشرات : العشر الأخير من رمضان ، والعشر الأُول من ذي الحجة ، والعشر الأُول من المحرم .  قال ابن رجب : " وقد سمّى النبي صلى الله عليه وسلم المحرم شهرَ الله ، وإضافته إلى الله تدل على شرفه وفضله ، فإن الله تعالى لا يضيف إليه إلا خواص مخلوقاته " . ومما اختُصَّ به شهر الله المحرم يومه العاشر وهو يوم عاشوراء . وهو يوم مبارك معظم منذ القدم ، فاليهود أتباع موسى عليه السلام كانوا يعظّمون يوم عاشوراء ويصومونه ويتخذونه عيداً لهم ، ويلبسون نساءهم فيه حليهم واللباس الحسن الجميل ، وسر ذلك أنه اليوم الذي أظهر الله فيه الحق على الباطل ، حيث أنجى الله فيه موسى عليه السلام وقومه ، وأغرق فرعون وقومه ، فهو يوم له فضيلة عظيمة  ومنزلة قديمة. وهكذا ينجّي الله المتقين في كل زمان ومكان . عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قَدِمَ النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال : " ما هذا " قالوا : هذا يومٌ صالح نجَّى الله فيه بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى . رواه البخاري . وعن أبي موسى رضي الله عنه قال : " كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيداً ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم ". رواه البخاري . وحين جاء الإسلام ، وهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ورأى اليهود يصومون هذا اليوم فرحاً بنجاة موسى قال : " أنا أحق بموسى منكم " . فصامه وأمر بصيامه . متفق عليه . وكان ذلك في أول السنة الثانية ، فكان صيامه واجباً ، فلما فُرِض رمضان انتقل صومه من الأمر إلى التطوع ، تقول عائشة رضي الله عنها : ( فلما قدم صلى الله عليه المدينة صامه - أي عاشوراء - وأمر بصيامه ، فلما فُرِض رمضان ترك يوم عاشوراء ، فمن شاء صامه ومن شاء تركه ) رواه البخاري .

عباد الله : قد يقول قائل ، في الإِسلامِ أَيَّامٌ وفتوحات وانتصارات ، أيامٌ كان فيها نصر وعز ، فلماذا لا نصومُها أَو نتعبدُ لله فيها كما نصوم يوم عاشوراء ؟ .  فيقال : إِن من محاسنِ الدين الإسلامي أنه مبني على التأسي والإتباع ، لا على الاستحسان والإحداث والابتداع ، فربنا سبحانه قال : ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ﴾ [الأحزاب: 21] . فنحن حين نصوم عاشوراء ، إنما نصومه إتباعا لرسولِنا صلى الله عليه وسلم ، لا استحسانا من عند أنفسنا ، وكيف لا نكون كذلك ورسولُنا وقدوتُنا صلى الله عليه وسلم يقول : ( مَن عَمِلَ عَمَلاً لَيسَ عَلَيهِ أَمرُنَا فَهُوَ رَدٌّ ) . فالمشروع في يوم عاشوراء هو متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمر ، حيث صام يوم العاشر وأمر بصيامه . هذا هو المشروع في عاشوراء ، التقرب إلى الله بالصيام . وليس بالبدع والمحدثات . اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِفِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ ، وَالْأَمْنِ مِنَ الْفَزَعِ يَوْمَ الْعَرْضِ فِي الْعَرَصَاتِ . قُلْتُ مَا سَمِعْتُمْ ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنَبٍ وَخَطِيئَةٍ ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .

 

 

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على فضله وإحسانه ، وأشكره على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيرا ، أما بعد :- 

فمن فضل الله علينا أن بلّغنا هذا الشهر الكريم شهر الله المحرم الذي يُستحب فيه الإكثار من صيام أيامه ، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ ) (رواه مسلم) . ويسن صيام يوم عاشوراء لما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم صامه وحث على صيامه شكراً لله عز وجل وتأسّياً بنـبي الله موسى ، ولِمَا يترتب عليه من الأجر والثواب ، قال صلى الله عليه وسلم : ( صيام يوم عاشوراء ، إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله ) (رواه مسلم) .  وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : { مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلّا هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ } (رواه البخاري) . وهذا من فضل الله على أمة الإسلام أن أعطاها بصيام يوم واحد تكفير ذنوب سنة كاملة فلله الحمد والمنّة . والأفضل أن يصام قبله يوم لقول صلى الله عليه وسلم في آخر حياته بعد أن أُمر بمخالفة اليهود : ( لَئِنْ بقيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ ) (رواه مسلم) . ولا يكره على الصحيح إفراد اليوم العاشر بالصوم كما قال ابن تيمية رحمه الله . وقد كان الصحابة يُصَوِّمون صبيانهم ، فَعَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ رضي الله عنها قَالَتْ : أَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ عَاشُـورَاءَ إِلَى قُرَى الأَنْصَارِ :      " مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَليَصُمْ ". قَالَتْ : فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا ، وَنَجْعَلُ لَهُمْ اللُّعْبَةَ مِنْ الْعِهْنِ ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ . رواه البخاري  ومسلم . فالأَولى بالمسلم أن يصوم ويأمر أهل بيته بالصيام من استطاع منهم الصيام . واغتَنَمَ هذه الفرصة المباركة ، التي قد لا تعود أبدًا ، فالأعمار بيد الله ، فاعقد النية من الآن على صيام يوم تاسوعاء وعاشوراء ، ولا تجعل هذا اليوم يمر عليك دون أن تصومه ، إلا إذا كنت صاحب عذر شرعي كمرض أو كبر سن أو غير ذلك ، فصوم يوم عاشوراء كما سمعنا له فضل عظيم عند الله ، فعلى المسلم أن يغتنم صوم هذا اليوم خالصًا لله وحده رجاء أن يغفر الله له ذنوب السنة الماضية . واعلموا أنها لا تُقبل سُنة أو نافلة حتى تؤدى الفريضة ، فاحرصوا على أداء الفرائض أولاً ، لأن الفرائض أحب إلى الله من النوافل ، قال الله جل وعلا في الحديث القدسي : { ما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه } . فالواجب على المسلم أن يحافظ على الفرائض أولاً وقبل كل شيء ثم يأتي بالنوافل بعدها لتكون مكملة لها وزيادة خير . ثم اعلموا رحمكم الله أنَّ خير الحديث كتاب الله ، وخير الهديَّ هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشرَّ الأمور مُحدثاتها ، وكل بدعة ضلالة ، وعليكم بالجماعة ، فإنَّ يد الله على الجماعة ، ومن شذَّ شذَّ في النار . هذا وصلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين وقدوة المعلمين والمربين محمد بن عبد الله كما أمركم الله عز وجل : ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) ، فَاللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وبارك عَلَى عَبْدِكَ وَنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ ، وارضَ اللّهُمَّ عن الخلفاء الراشدينَ ، وعن بقيةِ صحابة رسولِكَ أجْمَعينَ ، وعَنِ التابعينَ وتابعيـهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين ، وعنّا مَعَهُم بِرحمتـكَ يا أرْحم الراحمين . اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين ، وأذلّ الشرك والمشركين ، ودمّر أعداء الدين ، اللهم آمِنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، اللهم وفِّقْ إمامَنا ووليَّ عَهدِه لما تحبُّ وترضى وخُذ بنواصيهم للبِرِّ والتقوى ، اللهم ارزقْهمُ البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ التي تدلُّهم على الخيرِ وتُعينهم عليه ، اللهم وأصلح قلوبهم وأعمالهم وسددهم في أقوالهم وأفعالهم وآراءهم . اللهم احفظ جنودنا عامة والمرابطين منهم خاصة ، اللهم اصرف عنا وعن جميع المسلمين شر ما قضيت ، اللهم اغفر لنا  ولوالدينا ، ولجميع المسلمين والمسلمات ، الأحياء منهم والأموات . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا ، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير ، والموت راحةً لنا من كل شر  " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " .

عباد الله : اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر ، والله يعلم ما تصنعون .

 

 

( خطبة الجمعة 9/1/1447هـ . جمع وتنسيق خطيب جامع العمار بمحافظة الرين / عبد الرحمن عبد الله الهويمل                          للتواصل جوال و واتساب /  0504750883  )

المرفقات

1751479613_شهر الله المحرم ويوم عاشوراء.docx

المشاهدات 447 | التعليقات 0