شهر رجب، ووجوب تعظيمه، وبيان بعض البدع فيه

شهر رجب، ووجوب تعظيمه، وبيان بعض البدع فيه([1])

 

الخطبة الأولى

الحمدُ لله الذي لم يَزَلْ عَلِيّا، ولم يَزَلْ في عُلاهُ سَنِيّا، قَطْرةٌ من بحرِ جُودِه تَملأُ الأرضَ رِيّا، ونَظْرةٌ بعينِ رَحمتِه تُصَيِّرُ الكافرَ وَلِيّا، الجنةُ لِمَن أطاعهُ ولو كان عبدًا حَبَشِيّا، والنارُ لِمَن عَصاهُ ولو كان شَريفًا قُرَشِيّا، أحمدُهُ سُبحانه حَمْدًا زكِيّا، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ له، شهادةً يجعلُ لنا بها في الجنةِ مَنزِلًا عَلِيّا، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُهُ ورسولُه، كان صادِقًا وأمِينا، اللهمَّ صَلِّ وسَلِّم وبارِك على رسولنا الكريم، وعلى آلِه وصَحبِه بُكرةً وعَشِيّا.

أما بعد:

فــ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾([2]).

عبادَ الله:

اللهُ جَلَّ جَلالُه له الحِكمةُ البالغةُ فِيمَن يَصطفِي مِن خَلْقِه، فهو يَصطفِي من الملائكةِ رُسُلاً ومن الناس، ويُفَضِّلُ من الأوقاتِ أوقاتا، ومن الأمكنةِ أماكن، فَفَضَّلَ تعالى مَكةَ على سائِرِ البِقاع، ثم بعدَها المدينة، ثم بعدَهما بيتَ المقدسِ مكانَ غالبِ الأنبياء، وفَضَّلَ بعضَ الشُّهورِ والأيامِ والليالي على بعض، فعِدَّةُ الشُّهُورِ عند الله اثْنا عَشَرَ شَهْرًا في كتابِ اللهِ يومَ خَلَقَ السماواتِ والأرض، منها أربعةٌ حُرُم، وهي ذو القَعْدَة، وذو الحِجَّة، والمَحرَّم، ثلاثةٌ مُتوالية، وشهرُ رَجَبٍ بقِيَ فَرْدا، وخيرُ يومٍ طَلَعتْ فيه الشمسُ يومُ الجُمُعة، وليلةُ القدرِ خيرٌ من ألفِ شهر.

 فعَظِّموا -أيُّها المسلمون- ما عَظَّمه الله؛ واعلموا أن ثوابَ الحسناتِ يُضاعَفُ في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ فاضِل، وأن عقوبَة السيئةِ تَعْظُمُ في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ فاضِل، وشَاهِدُ هذا قولُهُ سُبحانه: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾([3])، وقال سُبحانه في شأنِ الحرم: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾([4]).

أيُّها المسلمون:

ها نحنُ في مُستَهَلِّ شهرِ رجب، أحدِ الأشهُرِ الحُرُم، فلا تَظلِمُوا فيهِ أنفُسَكُم، والتزِموا حدودَ اللهِ تعالى، أقيموا الفرائض، واجتنِبوا محارِمَ الله، أدُّوا الحقوقَ فيما بينكم وبينَ ربِّكم، وفيما بينكم وبينَ إخوانِكُم من الخَلْق، واعلَمُوا أن الشيطانَ قد قَعَدَ لابنِ آدمَ كلَّ مَرْصَد، أقسَمَ للهِ بِعِزَّةِ اللهِ لَيُغْوِينَّهُم أجمعِين، إلا عبادَ اللهِ المُخلَصين، فالشيطانُ حريصٌ كُلَّ الحِرصِ على إغواءِ بنِي آدم، يُحبِّبُ إِليهم المعاصي، ويُكَرِّهُ إِليهم الطاعات، يُهَوِّنُ على ابنِ آدمَ المعاصي حتى يُوقِعَهُ فيها، والشيطانُ يُقَلِّلُ المعصِيةَ في عينِ العاصِي، ويفتحُ عليه بابَ التسويف، ولقد أشار إلى ذلك نبيُّنا محمدٌ ﷺ، فعن سَهلِ بنِ سعدٍ رضيَ اللهُ عنه أن النبيَّ ﷺ قال: «إياكُم ومُحقَّراتِ الذنوب، فإنما مَثَلُ مُحَقَّراتِ الذُّنوبِ كقومٍ نزلوا بَطْنَ وادٍ، فجاء هذا بِعُود، وهذا بِعُود، حتى أنضَجُوا خُبْزتَهُم، وإن مُحَقَّرَاتِ الذنوبِ متى يُؤْخَذْ بها صاحبُها تُهْلِكْه» أخرجه الإمامُ أحمد([5]).

والشيطانُ يتنوَّعُ ويتَلَوَّنُ في مَكائدِهِ لابنِ آدم؛ فهذا يأتيه في الصلاة، وذاك في الإيمانِ والتوحيد؛ فيُوقِعُهُ في الشَّك، وقد يَصِلُ إِلى الشِّرك، وآخَرُ في الزكاة؛ فيبْخَلُ أو يصرِفُها في غيرِ المُستحِق، ورابعٌ في الصيام، وآخَرُ في الحج، وهكذا مكَائِدُ الشيطان.

وقد قَصَّ اللهُ علينا من غُرورِ الشيطانِ لأبَوينا آدمَ وحواء، فقد أسْكَنهُما الجنة، وأَذِنَ لهما أن يأكُلا رَغَدًا إلا شجرةً واحدةً عَيَّنها بالإشارة: ﴿وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴾([6])، فوسوسَ لهما الشيطانُ وقال: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾([7]).

عبادَ الله:

نحنُ في شهرِ رجب، وهو شَهرٌ مُحرَّم، وإنما سُمِّي رَجَبًا؛ لأنَّ العربَ تُرَجِّبُه، أي تُعَظِّمُه، ومن تَعظيمِهِم له أنَّ خَدَمَ الكعبةِ يفتحون بابَ الكعبةِ هذا الشهرَ كُلَّه، وفي سائِرِ الأشهُرِ لا يفتحون إلا يومَ الاثنينِ والخميس، ويقولون: الشهرُ شهرُ الله، والبيتُ بيتُ الله، والعبدُ عبدُ اللهِ يَمنعُ عبدَ اللهِ مِن بيتِ الله فِي شهرِ الله؟! ويُسَمَّى رجبَ مُضَر؛ لأنَّ مُضَرَ كانت تُعَظِّمُهُ أشدَّ من غيْرِها، ويُسَمَّى رجبَ الأَصَمّ؛ قيلَ: لأن الملائكةَ تكتُبُ الحسناتِ ولا تَلتفِتُ إلى السيئات، ولم يَرِدْ بهذا نص، وقيل: لأن الناسَ تجتنِبُ السيئاتِ في هذا الشهرِ المُعَظَّم، واللهُ أعلم.

ولا بُدَّ من التنبيه على أُمُورٍ مهمة:

أولُها: أنَّ شهرَ رجبٍ من الأشهُرِ الحُرُم؛ فيجبُ تعظيمُه باجتنابِ الموبقات، وتركِ السيئات، والإكثارِ من الحسنات.

وثانيها: عدمُ ذبحِ ذبيحةٍ بمناسبةِ رجب؛ لأنَّ ذلك من أعمالِ الجاهلية، فقد كانوا يذبحون العَتيرة، ويجعلونها كالأُضحية عِندَهم، وقد نهى النبيُّ ﷺ عن ذلك فقال: «لا فَرْعَ ولا عَتيرة» متفق عليه([8])، والفَرْعُ أولُ النِّتَاج، كانوا يذبحونه لطواغيتهم، والعَتيرةُ الذبيحةُ في رجب، وفي بعضِ ألفاظِ الحديث: «نهى رسولُ اللهِ ﷺ عن الفَرْعِ والعَتيرة» أخرجه النسائي([9])، وصحَّحه الألباني.

وثالثُ التنبيهات: أنه لا صيامَ مخصوصٌ في رجب، والمشروعُ فقط -ويُشرعُ في غيره- صيامُ الاثنينِ والخميسِ وأيامِ البِيضِ ونحوِها.

والرابعُ: العُمرةُ في رجب، فلم يَثبُت أن النبيَّ ﷺ اعتمرَ في رجبٍ عُمرَةً خاصةً به.

والخامسُ: صلاةُ الرَّغائب، وهي صلاةٌ مُخترَعةٌ في أولِ ليلةِ جُمُعةٍ من رجب، وهي من البدعِ التي لا أصلَ لها، قال الحافظُ ابْنُ حجر في كتابه "تبيينُ العَجَب بما وردَ في فضلِ رجب": «لم يَرِدْ في فضلِ شهرِ رجبٍ ولا في صيامه، ولا في صيامِ شيءٍ منه معيَّن، ولا في قيامِ ليلةٍ مخصوصةٍ فيه حديثٌ صحيحٌ يَصلُحُ للحُجة»([10]) انتهى كلامُه.

والسادسُ: الاحتفالُ بليلةِ الإسراءِ والمِعراج، وقد دَرَجَ بعضُ المسلمينَ على أنَّ الإسراءَ والمعراجَ وقعَ ليلةَ السابِعِ والعشرينَ من شهرِ رجب، وبنَوا على ذلك تعظيمَ هذه الليلةِ وإحياءها بصلاةٍ مخصوصةٍ تُسَمَّى صلاةَ ليلةِ المِعراج، والاحتفالَ فيها بقراءةِ قصةِ المِعراج، وإنشادَ القصائدِ حولَ ذلك، وكلُّ ذلك من المُحدَثَاتِ التي لا أصلَ لها، وقد جَرى التنبيهُ على ذلك لوجودِ الانفتاحِ الإعلامي، ونقلِ مِثلِ هذه البدَعِ عبرَ المحَطَّاتِ الإذاعية، والقنواتِ الفضائية، وأجهزةِ التواصُلِ بين الناس.

نسألُ اللهَ أن يَهديَ ضالَّ المسلمين، وأن يَرُدَّهُم إليه رَدًّا جميلا ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾([11]).

باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ الكريم، وفي سنةِ سيدِ المرسَلين، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين.


 

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشُّكرُ له على توفيقهِ وامتنانِه، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ له تَعظيمًا لشانِه، وأشهدُ أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ الداعي إلى جَنَّتهِ ورِضوانِه، صلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ عليه، وعلى آلِه وصَحبِه وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.

أما بعد:

 فاتَّقوا اللهَ -أيُّها المؤمنون- حَقَّ التقوى.

عبادَ الله:

يتناقلُ بعضُ الناسِ بعضَ الأحاديثِ في شهرِ رجبٍ عبرَ رسائِلِ الجوالِ وغيرِها من طُرُقِ التواصُل، أو في المنتدياتِ والمجالِس، فمِن ذلك حديث: «رجبٌ شهرُ الله، وشعبانُ شَهرِي، ورمضانُ شهرُ أُمَّتي» وهذا حديثٌ ضعيفٌ أخرجهُ الأصبهانيُّ في "الترغيب"([12])، وقال الألباني: «ضعيف»([13])، ومنها حديث: «فضلُ شهرِ رجبٍ على سائرِ الشهورِ كفضلِ القرآن على سائرِ الأذكار»([14])، وهو حديثٌ موضوع، وغيرُها من الأحاديث.

اللهُم جَنِّبْنا الآثامَ والابتداع، وأحْيِنَا على السنةِ والاتباع، وتوفَّنا على ذلك وأنت راضٍ عنَّا.

اللهُم أصلِحْ قُلُوبَنا وأعمالَنا ووفِّقْنا للصالحات.



([1]) أُلقيت في 5/7/1444هـ.
([2]) الأحزاب: 70-71.
([3]) البقرة: 217.
([4]) الحج: 25.
([5]) (22808).
([6]) الأعراف: 19.
([7]) الأعراف: 20.
([8]) البخاري (5473) و (5474) ومسلم (1976) (38) من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه.
([9]) (4223).
([10]) (32).
([11]) الأنفال: 24.
([12]) (2/396) برقم (1857).
([13]) "ضعيف الجامع الصحيح" (3094).
([14]) يُنظر: "زهر الفردوس" لابن حجر العسقلاني (2130) (388).

المشاهدات 610 | التعليقات 0