شهر يغفل الناس عنه

شهر يغفل الناس عنه!
الخطبة الأولى.
الحمد لله ولي الصالحين، وأشهد ألا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له الإله الحق المبين، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، إمام الأنبياء والمرسلين، اللهم صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فيا أيها الناس اتقوا الله -جل وعلا- وأطيعوه، تمسَّكُوا من الإسلام بالعروة الوثقى، وحقِّقُوا تقواه تنالوا السعادة الكبرى، (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)[الْبَقَرَةِ: 197].
عباد الله: قدموا ما يرضي الله، وبادروا لطاعة الله؛ فالدنيا تمضي، والأيام تنقضي، والعمر ينتهي، ولا يبقى للعبد إلا صالح العمل..
لا دارَ لِلمَرءِ بَعدَ المَوتِ يَسكُنُها إِلّا الَّتي كانَ قَبلَ المَوتِ بانيها
فَإِن بَناها بِخَيرٍ طابَ مَسكَنُها وَإِن بَناها بَشَرٍّ خابَ بانيها
أيها المؤمنون!
لقد أحلنا شهر شعبان، وهو شهر كغيره من الشهور، التي يجب على المسلم أن يؤدي فيها فرائضَ الله -جل وعلا-، وأن يحقِّق طاعتَه -تبارك وتعالى-، وأن يصون النفس عن كل المحرمات والمآثم والسيئات، يقول جل وعلا: (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ)[فُصِّلَتْ: 6]، وشهر شعبان شهر قد اختُصَّ بفضائلَ جمَّةٍ؛ فينبغي على المؤمن أن يكون مسارِعًا إليها، مبادِرًا لاغتنامها، روى البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وعن أبيها قالت: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لا يَصُومُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ"، وفي رواية لهما: قالت: "لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يصوم شهرا أكثر منه من شعبان، فإنه كان يصومه كله"، ولكن رواية صومه كله محمولة على الأكثر والمعظَم منه، كما بيَّنه ابنُ المبارك وابن حجر رحمهما الله؛ لرواية مسلم: "كان صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان إلا قليلا"، قال ابن رجب -رحمه الله-: "إن صيام شعبان أفضل من سائر الشهور"؛ يقصد بذلك الصوم المطلَق، وقال الصنعاني -رحمه الله-: "وفيه دليل أنه -صلى الله عليه وسلم- يخصُّ شهرَ شعبان بالصوم أكثر من غيره".
إخوة الإسلام: بادِرُوا في هذا الشهر إلى ما يقربكم إلى المولى -جل وعلا-، فهو شهر فاضل، وكان يسمَّى عند السلف: "شهر القُرَّاء"؛ لكثرة مراجعتهم للقرآن الكريم، وانقطاعهم لتلاوته، والتزامهم بمعاهدته والإكثار من قراءته استعدادًا لاستقبال شهر القرآن رمضان، فالله الله أن نزيد من وُردنا القرآني اليومي في هذا الشهر، فالمبادرةَ المبادرةَ، والمسارعةَ المسارعةَ لإعمار هذا الشهر بالقربات وسائر النوافل والطاعات، روى الإمام أحمد والنسائي عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما-، قال: قلتُ: "يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ مِنَ شَهْرٍ مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، قَالَ: "ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبَ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ"(أخرجه أحمد والنسائي، وحسَّنَه أهل العلم)
ذكر ابن رجب -رحمه الله- في معناه: "أنه شهر يَغْفُل الناسُ عنه بين رجب ورمضان، يُشير إلى أنه لَمَّا اكتنَفَه شهرانِ عظيمانِ؛ الشهرُ الحرامُ وشهرُ الصيامِ اشتغل الناس بهما فصار مغفولا، عنه إلى أن قال: "فيشتغل الناس بالمشغول عنه ويفَوِّتُون تحصيلَ فضيلة ما ليس بمشهور عندهم؛ أي شعبان".
وأما ما ورَد في المسنَد وسُنَن أبي دواد والنسائي وغيرهما من حديث: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا"، فأكثرُ أهلِ العلمِ على تضعيف هذا الحديث، وقالوا: "إنه منكَر الإسناد والمتن"، ومَنْ صَحَّحَه من أهل العلم فقد حمَل معناه حينئذ على من لم يوجد له عادة في الصوم، فيُكره له أن يصوم بعد انتصاف شعبان قصدًا للاحتياط لرمضان، بل ذلك القصد بدعة، كما ذكره بعض أهل العلم.
عباد الله! : من مقررات السنة أنه لا يجوز للمسلم الذي لا عادة له في صيام يوم وإفطار يوم، أو صيام الإثنين والخميس فلا يجوز له أن يتقدم رمضانَ بصيام يوم أو يومين على جهة الاحتياط لشهر رمضان، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا تقدَّموا رمضانَ بصوم يوم أو يومين، إلا رجل كان يصوم صوما فليصمه"(متفق عليه).
وقال عمَّار بن ياسر -رضي الله عنه- وعن أبيه: "مَنْ صام اليومَ الذي يُشَكُّ فيه فقد عصى أبا القاسم"(رواه أبو داود، والترمذي بسند صحيح، وأخرجه البخاري مُعَلَّقًا، مجزوما به).
فيا عباد الله: اعمُروا أوقاتَكم في هذا الشهر وغيره بكل ما يقربكم إلى المولى -جل وعلا-، وسابِقُوا إلى الخيرات واغتَنِموا الصالحاتِ، قال جل وعلا: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ لِلْمُتَّقِينَ)، وقال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)
وفَّقَني اللهُ وإياكم للعمل الصالح، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب.
الخطبة الثانية
الحمد لله ظاهِرًا وباطِنًا، وأشهد ألا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له في الآخر والأولى، وأشهد أن نَبِيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه النبيُّ المصطفي، اللهم صلِّ وسَلِّمْ وبارِكْ عليه وعلى آله وأصحابه الأتقياء.
أيها المؤمنون: وتخصيص ليلة النصف من شعبان بصلاة قيام، وتخصيص يومها بصيام فذلك أمر لم يأتِ به دليلٌ صحيحٌ عن المعصوم -عليه الصلاة والسلام-، بل أنكره كثير من العلماء المحقِّقينَ، وصرحوا ببدعيته، وأما ما حسَّنه بعضُهم من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ عَلَى عِبَادِهِ، فَيَغْفِرُ لِأَهْلِ الأَرْضِ إِلَا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ" وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى رَحْمَةِ اللهِ بِعِبَادِه، وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تْخْصِيصِهِ بِصِيَامِ، فَمَا رُبِطَتْ مَغْفِرَةُ اللهِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ بِصِيَامٍ أَوْ قِيَامٍ، وَإِنَّمَا رُبِطَتْ بِالتَّوْحِيدِ، وَتَصْفِيَةِ الْأَنْفُسِ مِنْ الْأَحْقَاِد وَالْأَضْغَانِ، وَلَيْسَ هَذَا مَقْصُورًا عَلَى لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَقَطْ، بَلْ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ”تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا” رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ثم على ماذا الشحناء والبغضاء ونحن كلنا مودعون لهذه الدنيا الفانية وسلوا الذين يخرجون من المقابر مشيعين جنائزهم كم ندموا والله على بغضهم ومشاحنتهم وعرفوا حقيقةً أن الدنيا لا تستحق.. ويكفيك شفاعةً لأخيك المخطئ في حقك الذي تحمل أنت عليه في قلبك يكفيك شفاعة له؛ إسلامه وإيمانه وحبه لله ورسول الله..
صلى الله عليه وسلم.
وابحث عن ما يجمعك بالآخرين لا عن ما يفرقك بهم..
"وكونوا عباد الله إخوانا"!
هذا واعلموا أن من أفضل أعمالكم إكثاركم من الصلاة والسلام على نبيكم الكريم، صلَّى الله عليه وسَلِّمْ وبارِكْ ، اللهم صلِّ على محمد وعلى آله محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، اللهم بارِكْ على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمينَ إنكَ حميد مجيد، اللهم ارضَ عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم من أراد المسلمين بسوء فأشغله في نفسه، واجعل تدميره في تدبيره، اللهم اجعل تدميره في تدبيره، اللهم اجعل تدميره في تدبيره، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم بَلِّغْنا والمسلمينَ رمضانَ، اللهم بلغنا وجميع المسلمين رمضان، اللهم بلغنا رمضان وبارك لنا فيه يا رحمن، اللهم إنا نسألك أن تُوَفِّقَنا لإعمار أوقاتنا بطاعتك، والتقرب إلى مرضاتك، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفق ولي أمرنا وولي عهده لكل خير واجعلهم رحمة على البلاد والعباد..
 اللهم فرِّج همَّ المسلمين، اللهم ولي عليهم خيارهم، اللهم نَفِّسْ كرباتِهم، اللهم اغن فقراءهم، اللهم اشفِ مرضانا ومرضاهم، اللهم يا حي يا قيوم حَقِّقِ الأمنَ والأمانَ في ديار المسلمين، اللهم مُنَّ على المسلمين في ديارهم بالأمن والسلام، والرخاء يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم إنا نعوذ بكَ من جَهْد البلاء، ودَرَك الشقاء وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، اللهم إنا نعوذ بكَ من زوال نعمتِكَ، وتحوُّل عافيتِكَ، وفجاءة نقمتِكَ، ومِنْ جميعِ سخطِكَ..
وآخر دعوانا، أن الحمد لله رب العالمين.
 
 
 
 
 
 
 
 
المرفقات

1738257001_شهر يغفل الناس عنه!.pdf

المشاهدات 1623 | التعليقات 0