صبراً صبرا
د. سلطان بن حباب الجعيد
الحمدُ للهِ الذي أجرى خلقَهُ على السُّنَنِ، وَلِيَّ الصابرينَ والمؤمنينَ، المتفضِّلِ عليهم بمعيَّتِهِ في أوقاتِ الشدائدِ والمِحَنِ، لِيَنعموا يومَ القيامةِ بوارفِ ظلالِ الجناتِ ذواتِ الفَنَنِ.
والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ الخلقِ وأتقاهم، مَن ابتُلِيَ فصَبَرَ، وأُنعِمَ عليه فشكَرَ، صلاةً وسلامًا، بعددِ ما أقبلَ صبحٌ وليلٌ وأدبرَ.
أُوصِيكُم أيُّها الإخوةُ ونفسي بتقوى اللهِ، فقد ربطَ اللهُ الفلاحَ بتقواهُ، قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابتَغوا إِلَيهِ الوَسيلَةَ وَجاهِدوا في سَبيلِهِ لَعَلَّكُم تُفلِحونَ﴾ [المائدة: ٣٥]
وبعدُ، أيُّها الكرامُ:
صِفةٌ من صفاتِ المؤمنينَ، وخُلَّةٌ من خِلالِ المتقينَ، نَوَّهَ اللهُ بها في القرآنِ كثيرًا، وأثنى على أصحابِها المتخلِّقينَ بها.
فحَرِيٌّ بهذه الخُلَّةِ ذاتِ المكانةِ الرفيعةِ عند اللهِ، أن نتعرَّفَ عليها، ونحرصَ على اكتسابِها، حتى نعرضَ أنفسَنا لأسبابِ ثناءِ اللهِ ورضاهُ.
إنني أعني خُلَّةَ “الصبرِ”، جعلَنا اللهُ وإيّاكم من الصابرين.
معاشرَ الفضلاءِ،
إنَّ المتأمِّلَ في القرآنِ يلحَظُ بوضوحٍ ما للصبرِ والصابرينَ من مكانةٍ عند اللهِ، فقد صَرَفَ اللهُ القولَ فيه والثناءَ عليه، على وُجوهٍ كثيرةٍ، وكلُّ ذلك دالٌّ على عظيمِ فضلِه وأهميتِه.
ومن تلك الوجوهِ: أنَّ اللهَ بيَّنَ أنَّ الصبرَ من خصائصِ الأنبياءِ عليهم السلام، فقال سبحانه: ﴿وَإِسماعيلَ وَإِدريسَ وَذَا الكِفلِ كُلٌّ مِنَ الصّابِرينَ﴾ [الأنبياء: ٨٥]
وقال: ﴿وَلَقَد كُذِّبَت رُسُلٌ مِن قَبلِكَ فَصَبَروا عَلى ما كُذِّبوا وَأوذوا حَتّى أَتاهُم نَصرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَد جاءَكَ مِن نَبَإِ المُرسَلينَ﴾ [الأنعام: ٣٤]
وبيَّن سبحانه أيضًا، أنَّه من صفاتِ المؤمنينَ، فقال: ﴿وَالَّذينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِنَ الجَنَّةِ غُرَفًا تَجري مِن تَحتِهَا الأَنهارُ خالِدينَ فيها نِعمَ أَجرُ العامِلينَ الَّذينَ صَبَروا وَعَلى رَبِّهِم يَتَوَكَّلونَ﴾ [العنكبوت: ٥٨-٥٩]
وكذلك بيَّن سبحانه أنَّ الصبرَ من صفاتِ عبادِه المتقينَ، فقال: ﴿.. وَالصّابِرينَ فِي البَأساءِ وَالضَّرّاءِ وَحينَ البَأسِ أُولئِكَ الَّذينَ صَدَقوا وَأُولئِكَ هُمُ المُتَّقونَ﴾ [البقرة: ١٧٧].
وقال أيضًا في معرضِ ذِكرِ صفاتِ المتقينَ: ﴿الصّابِرينَ وَالصّادِقينَ وَالقانِتينَ وَالمُنفِقينَ وَالمُستَغفِرينَ بِالأَسحارِ﴾ [آل عمران: ١٧]
ومن ذلك أيضًا، بيَّن سبحانه أنَّ الصبرَ من صفاتِ المُخبِتينَ إلى ربِّهم، كما قال سبحانه: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلنا مَنسَكًا لِيَذكُرُوا اسمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُم مِن بَهيمَةِ الأَنعامِ فَإِلهُكُم إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسلِموا وَبَشِّرِ المُخبِتينَ الَّذينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَت قُلوبُهُم وَالصّابِرينَ عَلى ما أَصابَهُم وَالمُقيمِي الصَّلاةِ وَمِمّا رَزَقناهُم يُنفِقونَ﴾ [الحج: ٣٤-٣٥]
وغيرُ هذه الوجوهِ كثيرٌ، التي يُصابُ الإنسانُ معها بالدهشةِ، لعظيمِ احتفاءِ القرآنِ بالصبرِ.
فإذا ما نظرَ في واقعِ الحياةِ وما طُبِعَتْ عليه من الابتلاءِ والاختبارِ، انكشفَ شيءٌ من أسرارِ التأكيدِ على هذه الصفةِ، وزالَ عنه شيءٌ من دهشتِه.
فإنَّ خيري الدنيا والآخرةِ لا يُنالُ إلا بالصبرِ، وشرَّهما لا يُدفعُ إلا بالصبرِ!
فإذا الشهواتُ في عينيكَ ازَّخرفتْ وازَّينَتْ، ودعاكَ إبليسُ إليها وأغواكَ؛ فهذا مالٌ لا يَحِلُّ لك، يُغويكَ أن تمدَّ له يدكَ، وهذا مشهدٌ محرَّمٌ، يُغويكَ أن تمدَّ له عينَك، وهذه مجالسُ لهوٍ وطربٍ، يُغويكَ أن تغشاها وتَمدَّ لها سمعَك، وهذا شرابٌ محرَّمٌ، يُغويكَ أن ترفعه إلى فِيكَ، وهذه امرأةٌ محرَّمةٌ، يُغويكَ أن تُصيبَ منها.
ويُعينُه على مهمَّتِه نفسُكَ التي بين جنبيكَ، وما ركَّبَ اللهُ فيها من غرائزَ، تنجذبُ إلى كلِّ ذلك وتُحِبُّه وتَهواه؛ فاعلمْ أنَّه لا سبيلَ لمقاومةِ كلِّ ذلك الإغواءِ، إلا أن تتسلَّحَ بالصبرِ، وتَكبحَ به جماحَ النفسِ والشيطانِ، وإلَّا انحدرتَ مع المنحدرينَ، وفارقتَ عبادَ اللهِ المتقينَ، وفاتكَ بذلك سببٌ عظيمٌ موصلٌ إلى الجنَّةِ، وهو الصبرُ على طاعتِه، والصبرُ عن معصيتِه، قال تعالى:
﴿أُولئِكَ يُجزَونَ الغُرفَةَ بِما صَبَروا وَيُلَقَّونَ فيها تَحِيَّةً وَسَلامًا﴾ [الفرقان: ٧٥]
وإذا أعيتكَ تكاليفُ الحياةِ وأرهقَتْكَ، فهذا عملٌ يَلزمُكَ تأديتُه كلَّ يومٍ، وهذه معيشةٌ وحياةٌ كريمةٌ يجبُ توفيرُها لأسرتِك، وهذه طموحاتٌ ترغبُ في تحقيقِها، ودونَ ذلك مشقَّةٌ وتعبٌ وصعوباتٌ وعراقيلُ، فَتَسلَّحْ بالصبرِ وشُدَّ يديكَ عليه، وإلَّا ضيَّعتَ الأمانةَ، وكنتَ من العاجزينَ، وفارقتَ عبادَ اللهِ المثابرينَ، وفاتكَ بذلك العونُ والمددُ من الله، قال الله تعالى:
﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اصبِروا وَصابِروا وَرابِطوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُم تُفلِحونَ﴾ [آل عمران: ٢٠٠]
وإذا أصابتْكَ الهمومُ والأحزانُ، وعضَّتْكَ الدنيا بنابِها، فهذا مالٌ خسِرْتَه، وهذا دَينٌ رَكِبْتَه، وهذا حبيبٌ فارقْتَه، وهذا مرضٌ سكنَ بدنَك عانيتَه، فتَحصَّنْ من كلِّ ذلك بالصبرِ، وإلَّا كنتَ من الجازعينَ، وفارقتَ عبادَ اللهِ المتجلِّدينَ، وفاتتْكَ بُشرى اللهِ وصلواتُه ورحمتُه، قال تعالى:
﴿وَلَنَبلُوَنَّكُم بِشَيءٍ مِنَ الخَوفِ وَالجوعِ وَنَقصٍ مِنَ الأَموالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصّابِرينَ الَّذينَ إِذا أَصابَتهُم مُصيبَةٌ قالوا إِنّا لِلَّهِ وَإِنّا إِلَيهِ راجِعونَ أُولئِكَ عَلَيهِم صَلَواتٌ مِن رَبِّهِم وَرَحمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ المُهتَدونَ﴾ [البقرة: ١٥٥-١٥٧]
أرأيتَ يا عبدَ اللهِ أنَّ هذه الدنيا في كلِّ شأنِها، تحتاجُ إلى صبرٍ ومصابرةٍ؟
فإنْ فعلتَ وتخلَّقْتَ بالصبرِ، فلا يَهولنَّكَ من أمرِ الدنيا وشهواتِها وتكاليفِها ومصائبِها شيءٌ، فإنَّ اللهَ معك، ومَن كان اللهُ معه، هان عليه كلُّ شيءٍ، ولم يَقْوَ عليه شيءٌ.
قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا استَعينوا بِالصَّبرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصّابِرينَ﴾ [البقرة: ١٥٣]
وفي قصَّةِ يوسفَ عليه السلام، التي جمعَ اللهُ له فيها بين البلاءِ والفضلِ؛ فمن مفارقٍ لأبيهِ، ومُتَّهَمٍ وسجينٍ، إلى عزيزٍ يتبوَّأُ من مصرَ حيث يشاء، يكشفُ عليه السلام عن السرِّ الذي قَدِرَ به أن يدفعَ الألمَ ويحقِّقَ الأملَ، وهو أنَّه جمعَ بين الصبرِ وتقوى الله، قال تعالى:
﴿قالوا أَإِنَّكَ لَأَنتَ يوسُفُ قالَ أَنا يوسُفُ وَهذا أَخي قَد مَنَّ اللَّهُ عَلَينا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصبِر فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضيعُ أَجرَ المُحسِنينَ﴾ [يوسف: ٩٠]
أقولُ قولي هذا…
الثانية:
وبعدُ، عبادَ الله،
لنا دائمًا وأبدًا في رسولِنا الكريمِ، عليه أفضلُ صلاةٍ وأتمُّ تسليمٍ، قُدوةٌ وأُسوةٌ.
فقد كان عليه الصلاةُ والسلامُ، أكملَ الناسِ صبرًا؛ لأنَّه أشدُّ الناسِ بلاءً.
أُنزل عليه قولٌ ثقيلٌ، وكُلِّفَ بمهمَّةٍ وأمانةٍ عالميَّةٍ تعجزُ عنها الجبالُ، ولم يُكلَّف بها نبيٌّ قبلَه، فقام بها خيرَ قيامٍ، فكان أفضلَ أُولِي العزمِ من الرسلِ، والعزمُ هو الصبرُ.
وأُوذِيَ في ذاتِ اللهِ، ما لم يُؤذَ مثلُه، قال عليه الصلاةُ والسلامُ:
«قد أُخِفْتُ في اللَّهِ وما يُخافُ أحدٌ، ولقد أُوذيتُ في اللَّهِ وما يُؤذَى أحدٌ، ولقد أتتْ عليَّ ثلاثونَ من بينِ يومٍ وليلةٍ، وما لي ولبلالٍ طعامٌ يأكُلُهُ ذو كَبِدٍ، إلَّا شيءٌ يُواريهِ إبطُ بلالٍ» [أخرجه الترمذي وأحمد وصحَّحه الألباني]
وعانى المرضَ، كمثلِ ما يُوعَكُ رجلانِ من أمتِه.
وعانى الدَّينَ، فمات ودرعُهُ مرهونةٌ في دَينٍ عليه.
وعانى الجوعَ، فقد كان يمرُّ عليه الهلالُ والهلالانِ، لا يُوقدُ في بيوتِه نارٌ، ولا يُوجَدُ إلا التمرُ والماءُ.
وعانى موتَ الأحبَّةِ وفقدَهم، فقد ماتتْ زوجُه خديجةُ في حياتِه، وثلاثةٌ من بناتِه، وقُتل في معاركِه عمُّه حمزةُ، وكُثُرٌ من أصحابِه.
وعانى حديثَ الناسِ في عِرضِه ومحبوبتِه عائشةَ رضي الله عنها.
وكان يلقى كلَّ ذلك بالصبرِ والتجلُّدِ، فلم يحزنْ، ولم يجزعْ، ولم يضعفْ، ولم يفقدْ حسنَ ظنِّه بربِّه، ولم يفقدْ ابتسامتَه وبَشرَه؛ فقد كان دائمَ البِشرِ والتبسُّمِ، صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
اللهم اجعلْنا من الصابرين، ومدَّنا بعونِكَ وتوفيقِكَ، ووفِّقنا لهُداكَ والعملِ في رِضاكَ..
المرفقات
1746715729_الصبر.docx