صُلْحُ الحُدَيْبِيَة ، دُرُوسٌ وعِبَر
الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله الهويمل
صُلْحُ الحُدَيْبِيَة ، دُرُوسٌ وعِبَر
الخُطْبَةُ الأُوْلَى
إِنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ ، نَحْمِدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلِ فَلا هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، صلّى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعدُ :- فأوصيكم ونفسي بتقوى الله .
عباد الله : في العام السادس من الهجرة ، وفي شهر ذِي القَعْدَةِ ، عَزَم النبي صلى الله عليه وسلم على زيارة البيت العتيق معتمِرًا ، وذلك عندما رأى رُؤيا أنه سيدخل مكةَ ، ويطوف حول البيت ويعتمر، فَقَصَّ الرؤيا على أصحابه فاستبشروا خيرًا ، قال الله تعالى : ﴿ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾ ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة متوجهًا إلى مكة ، وخرج معه ألفٌ وأربعُمائة من أصحابه ، وليس معهم سِلاحٌ إلا سِلاح المسافر ، ليُعْلِموا أهل مكة أنهم جاءوا لأداء العمرة ، ولم يأتوا لحرب أو قتال . حتى إذا بلَغ ذا الحُلَيْفَة أَحرَم بالعمرة ، وقَلَّد الهَدْيَ وأشْعَرَه ؛ وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته القَصْواء وبدأ بالتلبية ، ثُمَّ عَدَلَ عَنْ دُخُولِ مَكَّة إِلَى أَقْصَى الْحُدَيْبِيَة ، وَتُعْرَفُ الآن بِالشُّمَيْسي ، وبَركَتْ ناقةُ النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال الصحابة : خَلَأتِ القَصْواءُ ، فقال صلى الله عليه وسلم : " ما خَلَأتِ القصواءُ ، وما ذاك لها بِخُلُق ، ولكِنْ حَبَسَها حابِسُ الفيلِ " ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهرها فقامت ، ثُمَّ نَزَلَ عَلَى بِئْرٍ قَلِيْلَةِ المَاء ، فَاشْتَكَى المُسْلِمُونَ الْعَطَشُ ، فَانْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِيها ، فَمَا زَالَت تَجِيشُ لَهُمْ بِالماء حَتَّى صَدَرُوا عَنْهُ . وكان ذلك معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد دافَع النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ناقته القصواء ، حين ظنَّ القومُ أنها مُعانِدةٌ ، ليَعذر دابةً غير مَكَلَّفة ، ولِيُعَلِّم أمتَه درسًا في التعامل والحُكْم على المواقف ، وإقالة العثرة ، وإيجاد الأعذار لِمَنْ له مواقفُ مشهودةٌ بالخير والفضل والعِلْم ، وأرسَل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عثمانَ إلى مشركي قريش ، برسالة الإسلام ، وهي السلام وليس العُدوان ، ويُبَشِّر المسلمين الذين في مكة أن الفتح قريب وأن الإسلام ظاهر ، وهذا من التفاؤل الذي ينبغي أن يعيشه الناس ، وأخبِرْهم أنَّا لم نأتِ لقتالِ أحدٍ ، وأنهم جاؤوا للعمرة والطواف بالبيت ، فأَبَوْا ، وتأخر عثمان فشاع عند الناس أنه قد طاف بالبيت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يَطُوفَ عثمان قَبْلَ رَسُولُ اللهِ ، فقال الصحابة ولِمَ لا يطوف وقد خَلُصَ إلى البيت الحرام ، فقال ذاك ظَنِّي بعثمان أنه لن يطوف حتى يطوف رسول الله ، وهذا من حُسْنِ ظنه صلى الله عليه وسلم بأصحابه ، وما كان الله لِيُخَيِّبَه في أصحابه ، ما كانوا ليفعلوا شيئا لم يأمرهم به صلى الله عليه وسلم ، وَقَدْ أَخَّرَتْهُ قُرَيْشٌ ، فظن المُسْلِمُونَ أَنَّهَا قَتَلَتْهُ ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْبَيْعَةِ تَحْتَ شَجَرَةِ سَمْرَةِ فَبَايَعُوهُ جَمِيْعًا وَكَانَتْ البَيْعَةُ عَلَى المَوْتِ وألاَّ يَفِرُّوا ، وَقَدْ سُمِّيَتْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ ؛ لِأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ رَضِيَ عَنْهُمْ ، قال الله تعالى : ﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾ ، عند ذلك أرسلت قريشٌ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ ، وأخبرَ أنَّ القومَ أرادوا صُلحاً وكان معروفاً بالحِنكَةِ والدَّهاءِ ودارت مفاوضاتٌ بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشركي قريش ، استعمَل معهم فيها الرفقَ والمداراةَ فيما لا يلحق الدينَ ضَرَرٌ ، ولا يَبطُل معه لله سبحانه حقٌّ ، وقال صلى الله عليه وسلم : " والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمونَ فيها حُرُماتِ اللهِ ، إلا أعطيتُهم إيَّاها " ، غَلَّب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مصلحةَ حَقْنِ الدماءِ ، وسلامةَ الأنفسِ والأرواحِ ، ونظَر في مَآلات الأمور والمقاصد والغايات ، ولقد شرعَ الفريقان بالتـَّفاوضِ واتفقوا على بنودٍ ، السَّامعُ لها يَرى أنَّ فيها ظُلماً وإجْحافاً على الإسلام والمسلمين ومع ذلك فقد قَبِلَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم . فَقَالَ سُهَيْلُ : هَاتِ اكْتُبْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا ، فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليَّ ابنَ أبي طالبٍ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا عليٌّ اكتب : بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، قَالَ سُهَيْلٌ : أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَاللهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ ، وَلَكِنْ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللهُمَّ كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللهُمَّ ، ثُمَّ قَالَ : هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ، فَقَالَ سُهَيْلٌ : وَاللهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ وَلَا قَاتَلْنَاكَ ، وَلَكِنْ اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَاللهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي اكْتُبْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ . فكُتِبَتْ مُعاهدةٌ تاريخيةٌ في نُسختينِ نُسخة ٌأخذها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ِوالأخرى مع سهيلِ ابنِ عمروٍ . ونُكْمِلُ في الخطبة الثانية . أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين من كلِّ ذنبٍ فاستغفروا إنه هو الغفور الرحيم .
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحمدُ لله القويِّ المتين ، أمرَ بالعدل ِوقضى بالحقِّ وهو أحكمُ الحاكمينَ ، وأشهدُ أَنَّ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريك له ناصرُ المتقين ، وأشهد أنَّ محمدا عبدُ الله ورسولُه اصطفاه على العالمين ، ونصرَه بالوحي المبين ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، أما بعد :-
فاتقوا الله عباد الله ، واعلموا أن لله تعالى الحكمة ُ البالغة َفيما يقضي ويُقدِّر قال تعالى : (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) ولقد تجسَّد مفهومُ هذه الآية في صلحِ الحديبية فقد كَرِه جمعٌ من الصحابة هذه الشروطَ ولكنَّ الله تعالى جعل فيها خيراً كثيراً ونصراً مُؤَزَّراً مُبيناً . وهذه الشروط والبنود التي عُرِفت في التاريخ بـ " صلح الحديبية " هي :-
1 - رُجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته إلى المدينةِ من غيرِ أداءِ عمرتهم في عامهم الذي كانوا فيه ، ورجوعهم في السنةِ المقبلةِ إلى مكةَ ، والإقامة فيها ثلاثة أيامٍ ، وأداء عمرتهم من غيرِ أن يعترضَ لهم أحدٌ من قريشٍ ، وقد اشتُرط لهذا البندِ خروج قريش من مكةَ ، وألَّا يكونَ مع المسلمينَ إلَّا سلاح الراكبِ .
2 - وضْعُ الحرب بين المسلمين وقريش عشر سنين ، يأمن الناس ويكف بعضهم عن بعض ، وهذا الشرط لصالحِ المسلمينَ ؛ فالمسلمينَ بحاجةٍ إلى تأسيسِ دولتهم ، ونشرِ الإسلامِ ، وتحقيق هذا الهدف أسهل في حالةِ الأمنِ منه في حالةِ الخوفِ والحربِ .
3 - من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل ، فدخلت خُزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودخلت بنو بكر في عقد قريش .
4 - أن يتمَّ ردُّ كل من جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهلِ مكةَ مسلمًا من غيرِ إذنِ وليِّه إلى أقاربه ، وفي المقابل لا تَرُدَّ قريش من جاءها مرتدًا من المسلمينَ إلى المسلمينَ . فَقَبِلَ عليه الصلاة والسلام كل هذه الشروط . أما المسلمون فَهُمْ منها في أمر عظيم ، وقالوا : سبحان الله ! كيف نَرُدُّ إليهم من جاءنا مسلما ، ولا يَرُدُّون من جاءهم مرتدا ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : « إنه من ذهب منّا إليهم فأبعده الله ، ومن جاءنا منهم فرددناه إليهم ، فسيجعل الله له فرجا ومخرجا » .
ولما انتهى الأمر ، أمر عليه الصلاة والسلام أصحابه أن يحلقوا رؤوسهم ، وينحروا الهَدْي ليتحللوا من عمرتهم ، فاحتمل المسلمون من ذلك همَّاً عظيما ، حتى إنهم لم يبادروا بالامتثال ، فدخل عليه الصلاة والسلام على أم المؤمنين أم سلمة ، وقال لها : « هلك المسلمون أمرتهم فلم يمتثلوا » ، فقالت : يا رسول الله اعذرهم ، فقد حمّلت نفسك أمرا عظيما في الصلح ، ورجع المسلمون من غير فتح فهم لذلك مَكْرُوبُون ، ولكن اخرج يا رسول الله ، وابدأهم بما تريد ، فإذا رأوك فعلت تَبِعُوك ، فتقدّم عليه الصلاة والسلام إلى هديه فنحره ودعا بالحلاق فحلق رأسه ، فلما رآه المسلمون تواثبوا على الهدي فنحروه وحلقوا ، ثم رجع المسلمون إلى المدينة ، وقد أَمِنَ كل فريق الآخر . وَفِي الطَّرِيْقِ إِلَى المَدِيْنَةِ نَزَلَتْ سُورَةُ الفَتْحِ : ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ﴾ ، وَقَدْ عَبَّرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَظِيْمِ فَرْحَتِهِ بِنُزُولِهَا بِقَوْلِهِ : « لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ : ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾» . وهكذا كان صُلح الحديبية غَنِياً بالدروس والحِكَم والعبر ، التي ينبغي الوقوف معها والاستفادة منها في واقعنا ومستقبلنا .. هذا وصلوا وسلموا عباد الله على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال : ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ ، وقال صلى الله عليه وسلم : " من صلَّى عليّ واحدة صلى الله عليه بها عشرا " ، اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك نبيَّنا محمد ، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائِه الراشدين الأئمةِ المهديين ، وعَن الصحابةِ أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين . اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذلَّ الشِّرك والمشركين ، ودمر أعداء الدين ، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، اللهم وفق إمامنا وولي عهده لهداك ، واجعل عملهم في رضاك ، وأعنهم على طاعتك يا ذا الجلال والإكرام ، اللهم احفظ جنودنا المرابطين على حدودنا ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات ، ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) ، وأقم الصلاة .
( خطبة الجمعة 11/11/1446هـ . جمع وتنسيق خطيب جامع العمار بمحافظة الرين / عبد الرحمن عبد الله الهويمل للتواصل جوال و واتساب / 0504750883 ) .
المرفقات
1746628561_صلح الحديبية دروس وعِبَر.docx