صَوتٌ فِي الرَّبَابِ !

يوسف العوض
1446/11/22 - 2025/05/20 08:34AM

 الخطبة الأولى

عباد الله : المولى سُبحَانَهُ وَتَعَالى يَتَولَّى الصَّالحِينَ قَالَ اللهُ تَعالى: "إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ ۖ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ" وهنا حَديثٌ شَرِيفٌ يَرْصُدُ لَنَا لُطْفَ اللهِ تَعَالَى بِعِبَادِهِ الْمُسْتَبِقِينَ لِلْخَيْرَاتِ الَّذِينَ يُتَاجِرُونَ مَعَ اللهِ تَعَالَى فَنِعْمَ التِّجَارَةُ وَنِعْمَ الرِّبْحُ وَالْكَسْبُ مِنَ الْعَاطِي الْوَهَّابِ ، فالإنفاقُ فِي سَبيلِ اللهِ مع التَّقوى والإخلاصِ جعَلَ اللهُ عليه أجْرًا عَظيمًا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:" بَيْنا رَجُلٌ بفَلاةٍ مِنَ الأرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتًا في سَحابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ فَتَنَحَّى ذلكَ السَّحابُ، فأفْرَغَ ماءَهُ في حَرَّةٍ، فإذا شَرْجَةٌ مِن تِلكَ الشِّراجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذلكَ الماءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الماءَ، فإذا رَجُلٌ قائِمٌ في حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الماءَ بمِسْحاتِهِ، فقالَ له: يا عَبْدَ اللهِ، ما اسْمُكَ؟ قالَ: فُلانٌ، لِلاِسْمِ الذي سَمِعَ في السَّحابَةِ، فقالَ له: يا عَبْدَ اللهِ، لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟ فقالَ: إنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا في السَّحابِ -الَّذي هذا ماؤُهُ- يقولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، لاِسْمِكَ، فَما تَصْنَعُ فيها؟ قالَ: أمَّا إذْ قُلْتَ هذا، فإنِّي أنْظُرُ إلى ما يَخْرُجُ مِنْها، فأتَصَدَّقُ بثُلُثِهِ، وآكُلُ أنا وعِيالِي ثُلُثًا، وأَرُدُّ فيها ثُلُثَهُ. [وفي رواية]: وَأَجْعَلُ ثُلُثَهُ في المَساكِينِ، والسَّائِلِينَ، وابْنِ السَّبِيلِ".

عباد الله : هذا الحديثُ يُخبِرُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن قِصَّةِ رَجُلٍ يتَّقي اللهَ في مالِهِ، ويَعرِفُ الحُقوقَ الَّتي عليه فيُؤدِّيها، وكيفَ أنَّ اللهَ يُجازي بالإحسانِ إحسانًا، فيُخبِرُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه بيْنما رجُلٌ بفَلاةٍ مِن الأرضِ، والفَلاةُ: البَرِّيَّةُ والصَّحراءُ الَّتي لا نَباتَ بها، فسَمِعَ صَوتًا غَيْبيًّا في السَّحابِ، لا يُرى مَن يَقولُهُ، وكأنَّهُ مَلَكٌ يَأمُرُ السَّحابَةَ، فيَقولُ لها: «اسْقِ حَديقةَ فُلانٍ»، والحَديقةُ: هي الأَرْضُ ذاتُ الشَّجَرِ أو النَّخْلِ، وفُلانٌ: كِنايةٌ عن اسمِ صاحبِ الحَديقةِ، فاتَّجَهَ ذلكَ السَّحابُ إلى المكانِ الَّذي سُمِّيَ لَهُ صَاحبُهُ استجابةً لِأمرِه، فأَمْطَرَ ما فيه مِن ماءٍ في حَرَّةٍ، وهي أَرْضٌ فيها حِجارةٌ سَوداءُ كأنَّها أُحْرِقَتْ بالنَّارِ، «فإذا شَرْجَةٌ مِن تِلْك الشِّراجِ»، أي: فَتْحة مِن فَتَحاتِ مَسايلِ الماءِ، «قَدِ اسْتَوعَبَتْ ذَلِك الماءَ كلَّهُ»، أي: امْتلأتْ بذَلِك الماءِ، «فَتَتبَّعَ الرَّجُلُ» سَيلانَ الماءِ مِن تلكَ الفتحةِ والمَسيلِ إلى أيْن يَذْهَبُ، فإذا به يَجِدُ رَجُلًا قائمًا واقفًا في حَديقتِهِ يَتلقَّى الماءَ الَّذي يَأْتِيهِ مِن ذلكَ المَسيلِ، ويُحوِّلُهُ بالمِجْرفةِ مِن الحديدِ أو بفَأْسِهِ إلى أَرْضِهِ ليَسْقيَها، ويَنقُلُ الماءَ مِن مَكانٍ إلى آخَرَ في الحديقةِ، فسَألَه الرَّجُلُ الَّذي سَمِعَ الصَّوتَ في السَّحابَةِ وتَتبَّعَ الماءَ حتَّى وَصَل إلى الحَديقةِ، وقال له: «يا عبْدَ اللهِ، ما اسْمُكَ؟» فقال صاحِبُ الحَدِيقَةِ: اسْمي «فلانٌ»، وهو الاسْمُ الَّذي سَمِعه في السَّحَابةِ، ثمَّ قالَ له صاحِبُ الحَدِيقَةِ: «يا عبدَ اللهِ، لِمَ تَسْألُنِي عن اسْمِي؟» فأخْبَرَهُ قِصَّةَ الصَّوتِ الَّذي سَمِعَه في السَّحابِ، وأنَّه تَتبَّعَ تلكَ السَّحابةَ ومَسيلَ الماءِ حتَّى أتى حَديقتَه، وسَأل صاحبَ الحديقةِ: ماذا تَصْنَعُ في مَحْصولِها وثَمَرِها مِن الخيرِ؟ أو ماذا تَفْعَلُ مِن أعمالٍ صالحةٍ كانت السَّببَ فيما سَمِعتُهُ في السَّحابِ حتَّى تَستحِقَّ هذه الكَرامةَ؟ فقال صَاحِبُ الحَديقَةِ: «أَمَا إذْ قُلْتَ هذا» أي: سَألتَ عن السَّببِ، «فإنِّي أَنْظُرُ إلى ما يَخْرُجُ» مِن هذه الحديقةِ مِن الثِّمارِ، وأحسُبُ قَدْرَه وأقْسِمُه إلى ثَلاثةِ أثلاثٍ «فأَتصدَّقُ بثُلُثِهِ»، وفي رِوايةٍ أُخرى: «وَأَجْعَلُ ثُلُثَهُ في المَساكِينِ»، ويَشمَلُ الفُقراءَ ونحْوَهم، «والسَّائِلِينَ» وهو الَّذي يَسألُ الطَّعامَ أو حاجتَه، «وابْنِ السَّبِيلِ» وهو المسافرُ المُجتازُ الَّذي يَحتاجُ نفَقةً تُوصِلُه إلى مَوطِنِه، «وآكُلُ أنا وعِيالي ثُلُثًا، وأَرُدُّ فيها ثُلُثَهُ»، أي: إنَّ صاحِبَ الحَديقَةِ يُراعِي الحُقوقَ في ثَمَرِها؛ فيُخْرِجُ حَقَّ الفقراءِ والمساكينِ ثُلُثًا، ويَأكُلُ هو وأولادُه ثُلُثَها، ويَرُدُّ الثُّلثَ الأخيرَ في عِمارَتِها وحِفظِ أصلِها، فيُنفِقُه في مُؤنةِ عَملِ الحَديقَةِ بُذورًا وحَرْثًا وتَهيئةً وغيْرَ ذلك؛ لِيَتجدَّدَ الزَّرعُ والمَحْصولُ.

الخطبة الثانية

عبادَ اللهِ وهنا عدَّةُ أمورٍ :

الأول: إمكانُ سماع صوت الملائكة؛ فقد وَرَدَ في السُنَّةِ النبويةِ مواقفَ عِدَّةٍ فيها تكليم الملائكة للبشر، منها ما رواه مسلمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مرفوعًا: (أَنَّ رَجُلاً زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللهُ لَهُ، ‌عَلَى ‌مَدْرَجَتِهِ، مَلَكًا فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ، قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ، قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟ قَالَ: لا، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللهِ، قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكَ، بِأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ).

الثاني: ‌‌للسحاب ملائكةٌ مُوكَّلُونَ به، فاللهُ قد وَكَّلَ بالسَّحابِ ملائكةً يسوقونها إلى المكان الذي قدَّر الله أن تمطرَ فيه فتمطر، كما قال -تعالى-: (فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا) هُم الملائكة تزجرُ السحابَ، أي: تسوقُهُ حيث شاءَ اللهُ.

وميكائيلُ هو الموَكَّلُ بالقَطْرِ والنباتِ اللذَين يُخلَقُ منهما الأرزاق، وله أعوانٌ يفعلون ما يأمرهم به بأمر ربِّهِ، يُصرِّفون الرياح والسَّحاب كما يشاءُ الرَّبُّ -سبحانه وتعالى-، وعن ابنِ عّبَّاسٍ قَالَ: أَقْبَلَتْ يَهُودُ إِلَى النَّبِيِّ فَقَالُوا: يَا أَبَا القَاسِمِ، أَخْبِرْنَا عَنِ الرَّعْدِ مَا هُوَ؟ قَالَ: (مَلَكٌ مِنَ المَلائِكَةِ ‌مُوَكَّلٌ ‌بِالسَّحَابِ، مَعَهُ مَخَارِيقُ مِنْ نَارٍ يَسُوقُ بِهَا السَّحَابَ حَيْثُ شَاءَ اللهُ)، فَقَالُوا: فَمَا هَذَا الصَّوْتُ الذِي نَسْمَعُ؟ قَالَ: (صَوتُهُ)  وقد يسقي بلادًا دون بلاد، أو قريةً دون أخرى، وقد يُؤمَرُ بأن يسقيَ زرعَ رجلٍ واحدٍ دون سِواه، كما في هذا الحديث.

الثالث: رعايةُ الله وحفظِهِ للصالحين مِن عباده الذين يستقيمون على أمرِهِ؛ إذا رضي الله عن العبد سخَّر له ما يشاء، وغيَّر له نَوَامِيس الكَون، ففي القصة: (اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ)، وهناك نماذجُ كثيرة في القرآن والسُنَّة تُظهِرُ كيف غيَّرَ اللهُ للصالحين نَوَامِيس الكَون .

فهذا الرجل الذي سخَّرَ الله له السَّحاب والمطر لحديقتِهِ؛ بسبب صلاحِهِ واستقامته، يَصدُقُ فيه قولُ الله -تعالى-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) .

الرابع: إثبات كرامات أولياء الله تعالى، فالله -عز وجل- سَخَّر لهذا الرجل سحابًا خاصًّا لسُقيا حديقته: (اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ)، مِن بين جميع حدائق تلك المنطقة.

المرفقات

1747803281_سحابة.docx

المشاهدات 355 | التعليقات 0