ضوابط العبادة الصحيحة

ضوابط العبادة الصحيحة

الخطبة الأولى

الحمد لله رب العالمين ، خلق الخلق لعبادته ، وأمرهم بتوحيده وطاعته ، وأشهدٌ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته وأسمائه وصفاته ، وأشهدٌ أن محمداً عبده ورسوله وخيرته من جميع برياته ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، وسلم تسليماً كثيرا . أما بعد :-

فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ وأخلِصوا له العبادة تُفلِحُوا ، والتزموا سنَّةَ نبيكم صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم تهتدوا ، واكثروا من الأعمال الصالحة واحذروا المعاصي تربحوا وتسلموا .

عباد الله : الله جل وعلا خلق الجن والإنس لعبادته وأمرهم بها ؛ قال الله تعالى : ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) ﴾ . أي : إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي ، لا لاحتياجي إليهم . وقال سبحانه : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ﴾ . هذا أمر عام لكل الناس ؛ بأمر عام ؛ وهو العبادة الجامعة لامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه وتصديق خبره ، فأمرهم تعالى بما خلقهم له ، قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } . وفي عبادتهم لربهم شرفهم وعزهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة ، لأنهم بحاجة إلى ربهم ، ولا غنى لهم عنه طرفة عين ، وهو غني عنهم وعن عبادتهم ؛ كما قال تعالى : { إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ } [الزمر:7] ، وقال تعالى : { وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } [إبراهيم:8] . والعبادة هي حق الله على خلقه وفائدتها تعود إليهم ، ولضرورة العباد إلى هذه العبادة ، ومعرفة حقيقتها التي ترضي الله سبحانه وتوافق دينه ؛ لم يكلهم إلى أنفسهم لمعرفتها ، بل أرسل إليهم الرسل ، وأنزل الكتب لبيان حقيقة تلك العبادة ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } [النحل:36] . فمن الناس من أبى أن يعبد الله تكبراً ؛ فهذا كافر . ومن الناس من عَبَدَ الله لكن عَبَدَ معه غيره فهذا أشرك في العبادة ؛ فهذا مشرك . ومن الناس من عَبَدَ الله وحده لكنه عبده عبادة لم يشرعها الله ؛ لا في كتابه ولا على سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ فهذا مبتدع  . ومن الناس من عَبَدَ الله وحده لا شريك له ؛ عبادة كما شرع في كتابه وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؛  فهذا هو المؤمن المُوَحِّد ، قال الله تعالى :  ﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ .

عباد الله : إن العبادة التي شرعها الله سبحانه وتعالى تنبني على أصول وأسس ثابتة تتلخص فيما يلي :-

أولاً : لا بد أن تكون العبادة خالصة لله تعالى من شوائب الشرك صغيره وكبيره ، كما قال تعالى : { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً } . فإن خالط العبادة شيء من الشرك أبطلها ، كما قال تعالى : { وَلَو أشرَكُوا لَحَبِط عَنهُم مَا كانُوا يَعَملُون } [الأنعام:88] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ . بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ } [الزمر:66-65] . فالإخلاص شرط من شروط قبول العبادة .

ثانياً : أن يكون القدوة في العبادة والمبين لها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب:20] ، وقال تعالى : { ومَاءَ اتاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُم عَنهُ فانَتّهُوا } [الحشر:7] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ » مسلم ، وقوله  صلى الله عليه وسلم : « صلوا كما رأيتموني أصلي » صحيح الجامع ، وقوله صلى الله عليه وسلم : « خذوا عني مناسككم » صحيح الجامع ، إلى غير ذلك من النصوص الدالة على وجوب الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم دون سواه . فما لم يكن عبادة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، فلن يكون عبادة بعدهم . فالمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم شرط من شروط قبول العبادة . فالعبادة لا تُقبل إلا بشرطين : أن تكون خالصةً لله عز وجل . وأن تكون على وَفْقِ ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم . يقول الله تعالى : ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ ، قَالَ الفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ رحمه الله فِي تَفْسِيرِ هذه الآية : « هُوَ أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ »، قَالُوا : « مَا أَخْلَصُهُ وُأَصْوَبُهُ » ، فَقَالَ : « إِنَّ العَمَلَ إِذاَ كَانَ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ ، وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ َيَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ ؛ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا . والخَالِصُ أَنْ يَكُونَ للهِ ، وَالصَّوابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ » . فاتقوا الله واعبدوه مخلصين له العبادة ؛ كما أمركم وشرع لكم في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من البيان والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه ، إنه هو الغفور الرحيم .  

 

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الحمد لله عظيم الإحسان ، واسع الفضل والجود والامتنان ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلَّم تسليماً كثيرا . أما بعد :-  

فمن ضوابط العبادة الصحيحة أيضاً :-

ثالثاً : أنَّ العبادة توقيفية ، لا مجال للرأي فيها ، بل لا بد أن يكون المُشَرِّعُ لها هو الله سبحانه وتعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم ، كما قال تعالى لنبيه : { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا } [هود:112] ، وقال تعالى : { ثُمّ جَعَلنَاكَ عَلَى شَريعَةٍ مِنَ الأمرِ فاتّبِعها ولا تَتّبعِ أهَواءَ الذينَ لا يَعلمُون } [الجاثية:18] . وقال عن نبيه صلى الله عليه وسلم : { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ } [الأنعام:50] . فالمرجع في معرفة كون هذا الفعل أو القول عبادة هو القرآن والسنة .

رابعاً : أن العبادة محدودة بمواقيت ومقادير لا يجوز تعديها وتجاوزها ؛ كالصلاة مثلاً ، قال تعالى : { إن الصّلاةَ كانَتَ على المُؤمِنِينَ كِتاباً مَوقُوتاً } [النساء:103] . وكالحج ، قال تعالى : { الحَجُ أشهُرٌ مَعلومَاتٌ } [البقرة: 197] . وكالصوم ، قال تعالى : { شَهرُ رمَضَانَ الّذي أنزلَ فيهِ القُرءَانُ هُدًى للنّاسِ وبَيناتٍ مِنَ الهُدى والفُرقان فَمنَ شَهدَ مِنكُمُ الشَهرَ فليَصُمهُ } [البقرة:185] . فلا تصح هذه العبادات في غير مواقيتها .

خامساً : لابدَّ أن تقوم العبادة على أركانها الثلاثة ، وهذه الأركان هي : المحبة ، والرجاء ، والخوف ، التي يجب اجتماعها ، ولا يجوز إهمال واحد منها ، مع كمال الذل له والخضوع ، فمن عَبَدَ الله بالحب وحده فهو زنديق ، ومن عَبَدَهُ بالرجاء وحده فهو مرجئ ، ومن عَبَدَهُ بالخوف وحده فهو حروري ، ومن عَبَدَهُ بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد . قال تعالى : { أولئِكَ الّذِينَ يَدعُونَ يَبتَغُونَ إلى رَبِهِمُ الوَسِيلَةَ أيّهُم أقرَبُ وَيَرجُونَ رَحمَتَهُ ويًخافُونَ عَذابَهُ } [الإسراء:57] .

سادساً : أن العبادة لا تسقط عن المكلف من بلوغه عاقلاً إلى وفاته ، قال تعالى : { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } ، وقال تعالى : { واعَبدَ ربَكَ حتَى يأتِيك الَيقِين } . والعبادة لها أنواع كثيرة فهي : اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة ، فمنها عبادات قلبية ، كالخوف والرجاء والتوكل والخشية . ومنها عبادات قولية ، كقراءة القرآن والذكر والدعاء . ومنها عبادات بدنية ، كالصلاة والصيام والجهاد . ومنها عبادات مالية ، كالزكاة والنفقات الواجبة .

سابعاً : كل ما جاء الأمر به والحث عليه في القرآن والسنة ، أو ترتَّب على تركه وَعِيدٌ ، فهو عبادة .

ثامناً : كل ما أُثْنِيَ على فاعله ؛ أو ترتَّب عليه ثواب في القرآن والسنة ، أو عُلِّق عليه الإيمان فهو عبادة .

تاسعاً : كل ما جاء النهي عن فعله ؛ أو ترتب على فعله عقاب ، فتركُهُ عبادة .

اللَّهُم أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وحُسنِ عِبَادتِك . وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال : " إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما " اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان . اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين . اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، اللهم وفق إمامنا وولي عهده لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم ، اللهم أصلح لهم بطانتهم ، واحفظهم بحفظك يا ذا الجلال والإكرام . اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قولٍ وعمل ، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ، اللهم أمّن حدودنا واحفظ جنودنا . اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين . " اللهم أنت الله لا إله إلا أنت ، أنت الغني ونحن الفقراء إليك أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين . اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا غيثا مغيثا ، نافعاً غير ضار عاجلاً غير آجل ، تسقي به البلاد وتنفع به العباد . اللهم أسقنا سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق " . { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } . وأقم الصلاة .

 

( خطبة الجمعة 22/8/1446هـ . جمع وتنسيق خطيب جامع العمار بمحافظة الرين / عبد الرحمن عبد الله الهويمل                          للتواصل جوال و واتساب /  0504750883  ) .

 

المشاهدات 337 | التعليقات 0