ظَاهِرَةُ الإِسْرَاف في الْطَّعَامِ.
أ.د عبدالله الطيار
الحَمْدُ للهِ ذِي الجُودِ والإِنْعَامِ، والْجَلال ِوالإِكْرَامِ، امْتَنَّ عَلَى عِبَادِهِ بِالأَمْنِ وَالطَّعَامِ سُبحانَهُ الوليُّ فلا وليَّ من دونِهِ ولا واقٍ، الغنيُّ فلا تَنْفَدُ خزائِنُهُ عَلَى كثرةِ الإنفاقِ وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ الواحدُ الحقُّ المبينُ، وَأَشْهَدُ أنّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إِمَامُ الشَّاكِرِينَ وَقُدْوَةُ المقتصدينَ، صَلَّى اللهُ وسلم عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ إلى يومِ الدِّينِ أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) آل عمران: [200].
أيها المؤمنون: امْتَنَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عِبَادِهِ بِنِعَمٍ تَتْرَى وَلا تُحْصَى، قَالَ سُبْحَانَهُ: (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) النحل: [18] وسَبِيلُ حِفْظ تِلْكَ النِّعَمِ، وَضَمَانُ بَقَائِهَا، أَدَاء شُكْرِهَا، وَالثَّنَاءُ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا، قَالَ سُبْحَانَهُ: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) إبراهيم: [7]
عِبَادَ اللهِ: وَمِنَ النِّعَمِِ الَّتِي امْتَنَّ اللهُ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ: نِعْمَةُ الطَّعَامِ، قَالَ سُبْحَانَهُ: (الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) قريش: [4] وفي تِلْكَ الْبِلادِ المُبَارَكَةِ أَغْدَقَ اللهُ عَلَيْنَا أَصْنَافًا مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَأَنْوَاعًا مِنَ المَطْعُومَاتِ، قَالَ سُبْحَانَهُ: (أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) القصص [57].
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَمِنْ صُوَرِ حِفْظ نِعْمَةِ الطَّعَامِ: الاقْتِصَادُ فِيهِ وَعَدَمُ إِهْدَارِهِ، قالَ تَعَالَى: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِين) الأعراف: [31] وقَد امْتَدَحَ اللهُ عِبَادَهُ بِقَوْلِهِ: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) الفرقان: [67]
أَيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَكَانَ مِنْ هَدْيِ النبيِّ ﷺ حِفْظُ النِّعْمَةِ وَإِكْرَامُهَا، وَعَدَمُ إِهْدَارِهَا، فَقَدْ مَرَّ ﷺ بِتَمْرَةٍ في الطَّرِيقِ، فقالَ: (لَوْلا أنِّي أخافُ أنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُها) أخرجه البخاري (2055) ومسلم (1071) وَهُوَ الْقَائِلُ ﷺ: (إذا وقَعَتْ لُقْمَةُ أحَدِكُمْ فَلْيَأْخُذْها فَلْيُمِطْ ما كانَ بها مِن أذًى ولْيَأْكُلْها، ولا يَدَعْها لِلشَّيْطانِ) أخرجه مسلم: [2033].
عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ كَانَ نَبِيُّكُمْ ﷺ مُقْتَصِدًا في مَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ وَمَسْكَنِهِ وَمَلْبَسِهِ، تَقُولُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: (لقَدْ ماتَ رَسولُ اللهِ ﷺ وما شَبِعَ مِن خُبْزٍ وزَيْتٍ في يَومٍ واحِدٍ مَرَّتَيْنِ) أخرجه مسلم (4792) وَصَحَّ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: (طَعامُ الِاثْنَيْنِ كافِي الثَّلاثَةِ وطَعامُ الثَّلاثَةِ كافِي الأرْبَعَةِ) أخرجه البخاري (5392) ومسلم (2058).
أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ: إِنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي أَبَاحَهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِعِبَادِهِ بِشَرْطِ عَدَمِ الإِسْرَافِ فِيهَا أَوْ تَضْيِيعِهَا وَإِهْدَارِهَا، وَمن صُوَرِ إِهْدَارِ الطَّعَامِ مَا يَلِي:
أولًا: الْوَلائِمُ الَّتِي تَكْتَظُّ فِيهَا مَوَائِدُ الطَّعَامِ بِشَتَّى أَنْوَاعِ المَأْكُولاتِ وَالمَشْرُوبَاتِ، وَأَصْنَافِ التُّمُورِ، والَّتِي تَزِيدُ عَنْ حَاجَةِ المَدْعُوِينَ، وقَدْ يَكُونُ مَآلُ البَاقِي مِنْهَا لِلْحَاوِيَاتِ، أو تُلْقَى عَلَى الأَرْصِفَةِ وَفِي الْبَاحَاتِ -نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْخُذْلانِ-
ثانيًا: الوَجَبَاتُ الزَّائِدَةُ، وبَقَايَا الطَّعَامِ في الفَنَادِقِ والمطَاعِمِ، ومحَلاتِ الأطْعِمَةِ الخفيفةِ، والتي لا يستفادُ منهَا -غالبًا-عَلَى الرَّغْمِ مِنْ سَلامتِها.
ثَالثًا: التُّمُورُ الَّتِي تَكُونُ في الْبُيُوتِ مِنَ الْعَامِ المَاضِي، وبَعْضُهَا مِنْ أَجْوَدِ أَنْوَاعِ التُّمُورِ نَرَاهَا مُلْقَاةً في أَمَاكِنِ تَجَمعِ الطُّيُورِ، أَوْ عَلَى الأَرْصِفَةِ، ثُمَّ تُمتَهنُ ولا يُسْتَفَادُ مِنْهَا.
أَيُّهَا المؤْمِنُونَ: وإِنَّ مِمَّا يَزِيدُ مِنْ خُطُورَةِ تِلْكَ الظَّاهِرَةِ، تَصْوِيرَ الوَلائِمِ والمَوَائِدِ المُزَيَّنَة بِأَنْوَاعِ الأَطْعِمَةِ والأَشْرِبَةِ، ونَشْرِهَا عَلَى مِنَصَّاتِ التَّوَاصُلِ الاجْتِمَاعِيِّ فَتَتَلَقَّفُهَا الْعُيُونُ، مَا بَيْنَ حَاسِدٍ وَنَاقِدٍ، وَمِسْكِينٍ وَفَقِيرٍ، وَمَا بَينَ عَدُوٍّ يَبُثُّ تلكَ الصُّوَرَ في الآَفَاقِ، وَيُحَمِّلُهَا مَا لا تَحْتَمِلُ مِنَ المَعَانِي الْكَيْدِيَّةِ الَّتِي لا تَخْفَى عَلَى لَبِيبٍ.
عِبَادَ اللهِ: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَسْلافُكُم فِي هذِهِ الْبِلادِ مِنَ الْجَدْبِ وَالْقَحْطِ، وَمَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ والرَّخَاءِ، واَعْلَمُوا أَنَّ التَّغْيِيرَ وَالتَّبْدِيلَ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ وَسُنَنُ اللهِ لا تُحَابِي أَحَدًا، فَمَنْ حَفِظَ نِعَمَ اللهِ حَفِظَهُ اللهُ وَحَفِظَ عَلَيْهِ النِّعَم، فاسْتشْعرُوا مَكَانَةَ النِّعْمَةِ بِعَدَمِ الاسْتِهَانَةِ بَقَلِيلِهَا، فَمَنْ اسْتَهَانَ بِقَلِيلِ النِّعْمَةِ حُرِمَ كَثِيرَهَا، وَمَنْ أَهْدَرَ كَثِيرَهَا، حُرِمَ دَوَامهَا، وَمَنْ أَلِفَ وُجُودَهَا، لَمْ يَأْمَنْ زَوَالهَا والنِّعمةُ إذَا شُكرتْ قرَّتْ، وإذا كُفِرَتْ فرَّتْ.
وهُنَا أُشِيدُ بِأُولئِكَ الرِّجَالِ الأَخْيَارِ الَّذِينَ يَتَتبَّعُونَ مَواقِعَ هَذهِ النِّعْمَةِ في الشَّوَارِعِ وعَلى الأَرْصِفَةِ، وَيَأْخُذُونَها لِدَوَابِّهِمْ، فَهَنِيئًا لَهُمْ حُسْنُ صَنِيعِهِمْ.
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ ظَاهِرَة إِهْدَارِ الطَّعَامِ، نَاقُوسُ خَطَرٍ، وَنَذِيرُ شَرٍّ، مَا ظَهَرَتْ في قومٍ إِلا أَعْقَبَهَا الْفَقْرُ، وَتَلاهَا الْجُوعُ، تقولُ عائشةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: دَخَلَ عليَّ رسولُ اللهِ ﷺ فَرأى كِسْرَةً مُلْقَاةً فَمَشَى إليها، فَأَخَذَهَا، ثُمَّ مَسَحَهَا فَأَكَلَهَا، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا عَائِشَةُ أَحْسِنِي جِوَارَ نِعَمِ اللهِ تَعالَى فإنَّها قَلَّ ما نَفَرَتْ من أهلِ بَيْتٍ فَكَادَتْ أنْ تَرْجِعَ إليهِمْ) أخرجه ابن ماجه (3353)
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) النحل: [112].
بَارَكَ اللهُ لَي ولكم فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِمَا مِنَ الْآَيَاتِ وَالْحِكْمَةِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَة: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ وَاعْلَمُوا أنَّ ظَاهِرَةَ إِهْدَارِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ تَسْتَوْجِبُ مِنَّا التَعْرِيفَ بِجَمْعِيَّاتِ حِفْظِ النِّعْمَةِ، وَمِنْ هَذِهِ الْجَمْعِيَّاتِ: جَمْعِيَّةُ (قُوت) المَعْنِيَّةِ بِحِفْظِ النِّعْمَةِ فِي مُحَافَظَتِنَا الْعَامِرَةِ، وَالتَّيِ حَمَلَتْ عَلَى عَاتِقِهَا هَذِه المهَمَّةَ الْعَظِيمَةَ، بالتَّعَاوُنِ مع البلديَّةِ عَنْ طَرِيقِ تَأْسِيسِ حَاوِيَاتٍ وَصَنَادِيقَ خَاصَّةٍ بِحِفْظِ الطَّعَام، لإيصَالِهِ لأَهْلِهِ، وَالانْتِفَاعِ بِهِ، وَتَأْلِيفِ فَرِيقٍ مِنَ المُتَطَوِّعِينَ وَعَرَبَات مُخَصَّصَة لاسْتِقْبَالِ الْفَائِضِ مِنْ أَطْعِمَةِ الْوَلائِمِ وَغَيْرِهَا.
وتدويره عبر تقنيات ومراحل صحية دقيقة، شاهدتها بنفسي أثناء زيارة الجمعية.
وَهَذِهِ الصُّورَةُ مِنْ أَعْظَمِ صُوَرِ شُكْرِ نِعَمِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَبِهَا يَعُمُّ الْخَيْرُ وَتَدُومُ النِّعَمُ، وَكَذَا جَمْعِيَّةُ الْبِرِّ في مُحَافَظَتِنَا، وغيرها ممن لهم إسهامات في هذا الباب.
وَلا عُذْرَ لأَحَدٍ يَعْلَمُ بِنَشَاطِ هَذِهِ الْجَمْعِيَّاتِ المُبَارَكَةِ أَنْ يُلْقِي بِطَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ أَوْ تُمُورٍ في الطُّرُقَاتِ، أَوْ الْحَاوِيَاتِ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ أَمَامَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ إِهْدَارِ النِّعَمِ، قَالَ تَعَالَى: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) التكاثر: [8].
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ. اللَّهمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ، اللَّهُمَّ وَفِّق وَلِيَّ أَمْرِنَا خَادِمَ الحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ ووَلِيَّ عَهْدِهِ وإِخْوَانَهُ وَوُزَرَاءَهُ إلَى كُلِّ خَيْرٍ، واحْفَظْهُمْ مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَشَرٍّ. اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، والمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخَنَا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نَبِيِّنَا محمدٍ وعلى آلِهِ وصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
الجمعة 20/ 10/ 1446هـ