ظاهرة الإسراف، وتصوير الولائم ونشرها في وسائل التواصل الاجتماعي. 20-10-1446

زكي اليوبي
1446/10/19 - 2025/04/17 17:43PM

الخطبة الأولى:

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ , وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ﴾ [سورة آل عمران: ١٠٢]، ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦوَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبٗا﴾[سورة النساء:1] ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوۡلٗا سَدِيدٗا ٧٠ يُصۡلِحۡ لَكُمۡ أَعۡمَٰلَكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۗ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ فَازَ فَوۡزًا عَظِيمًا﴾[سورة الأحزاب: ٧٠-٧١]

أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها المسلمون: إن من فضل الله تعالى علينا أن شرع لنا دينًا قيمًا وجعلنا بين الأمم أمةً وسطًا، وسطًا في الأحكام والشرائع، ووسطًا في الآداب والفضائل، فالحمد لله على ذلك حمداً كثيرًا طيباً مباركاً فيه.  واعلموا أن تقوى الله تعالى لا تتم للعبد إلا بالأخذ بمكارم هذه الشريعة وفضائلها علمًا، وامتثالها في الحياة واقعًا وعملاً.  وإن من معالم تلك الوسطية المباركة ما ذكره الله تعالى في كتابه عند ذكر صفات أحبائه الخلَّص من عباده، فقال -تبارك وتعالى-: {وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمۡ يُسۡرِفُواْ وَلَمۡ يَقۡتُرُواْ وَكَانَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ قَوَامٗا} [سورة الفرقان:67]، أي: كانوا في نفقاتهم الواجبة والمستحبة على العدل والوسط، لا يتجاوزون ما حده الله وشرعه، ولا يقصرون عما أمر به وفرضه.

عباد الله: إن الإسراف سبب من أسباب الضلال في الدين والدنيا، وعدم الهداية لمصالح المعاش والمعاد، قال الله تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَنۡ هُوَ مُسۡرِفٞ كَذَّابٞ} [غافر:28]، وإن من عقوبة الله تعالى للمسرفين أن جعلهم إخوانًا للشياطين، فقال سبحانه: {وَلَا تُبَذِّرۡ تَبۡذِيرًا ٢٦ إِنَّ ٱلۡمُبَذِّرِينَ كَانُوٓاْ إِخۡوَٰنَ ٱلشَّيَٰطِينِۖ وَكَانَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لِرَبِّهِۦ كَفُورٗا} [سورة الإسراء: من الآية26، 27].  وإن من أعظم التبذير أن تستعمل المال الذي تفضل الله به عليك في معصية الله تعالى، فالله -جل وعلا- يتفضل عليك وأنت تخالفه وتحاده، فاتقوا الله -عباد الله-، فإن الله نهاكم عن إضاعة المال، ففي حديث المغيرة رضي الله عنه قال: سمعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إن الله كره لكم ثلاثًا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال) رواه البخاري (1477).  والإسراف إضاعة للمال وتخوُّض فيه بغير حق، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (إن رجالاً يتخوَّضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة) أخرجه البخاري (3118) ، وهذا كما قال الله تعالى: {وَأَنَّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ هُمۡ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِ} [سورة غافر:آية 43]. 

عباد الله: إنَّ اللهَ تعالى أباحَ لعباده الطيباتِ والحلالَ من المأكل والمشرب، ونهاهم عن الإسراف قال تعالى: {وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ} [سورة الأعراف: من الآية 31]،  وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله–صلى الله عليه وسلم قال -: " كُلوا واشْرَبوا وتَصدَّقوا والْبَسوا، في غَيرِ مَخيلةٍ ولا سَرفٍ " أخرجه الترمذي (2819)، والنسائي (2559)، وابن ماجه (3605) مختصراً، وأحمد (6708) واللفظ له.

أيها المؤمنون: إن من المظاهر المشينة التي وقع فيها كثير من الناس اليوم: الإسراف في المآكل والمشارب، فترى من الناس من يجتمع على مائدته من ألوان الطعام وصنوف الشراب ما يكفي الجماعة من الناس، ومع ذلك لا يأكل إلا القليل، ثم يلقي باقيه في الفضلات والنفايات، فوجد في النفايات الخبر بأكياسه قد اخضر واجتمعت عليه البكتيريا، فهل نسي هؤلاء أم تناسوا أن من الناس أمَمًا يموتون جوعًا، لا يجدون ما يسدّون به جوعهم وعطشهم؟!

فالأولى يا أخي ألا تشتري من الخبز وغيره من الأطعمة أكثر من حاجتك، وإن فاض شيء منها فضعه في مكان نظيف للدواب والطيور.  ومن صور الإسراف أنْ يُقامَ من الولائمُ ما يُشبِعُ خَلْقًا كثيرًا ولا يُتناول منها إلا اليسير.  وقد يقول بعض الناس أنهم يصنعون طعاماً بقدر عدد المدعوين، وكثير منهم لا يحضر فيفيض الطعام، فلا بأس يا أخي أن تصنع طعاماً بقدر عدد المدعوين، ولكن قدم للحضور ما يكفيهم دون زيادة كثيرة، وما فاض من الطعام فاتركه في قدوره، ثم ضعه في أطباق ووزعها على من تشاء.

أيها المسلمون: يقول الله تعالى: {ثُمَّ لَتُسۡـَٔلُنَّ يَوۡمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ} [التكاثر:8]؟! قال ابن القيم -رحمه الله-: "والنعيم المسؤول عنه نوعان: نوع أُخِذ من حله وصرف في حقه، فيسأله عن شكره، ونوع أُخذ بغير حله وصرف في غير حقه، فيسأل عن مستخرجه ومصرفه".

عباد الله: إن الله -جل وعلا- أنعم عليكم نعمًا عظيمة كثيرة، فكان من ذلك أن أغناكم بعد فقر، وأطعمكم بعد جوع، وهداكم بعد ضلالة، وفتح لكم من أبواب الخير وسبل الرزق ما لم يكن لكم على بال.  فيخبرنا كبار السن أنه مر بهذه البلاد فقر وجوع شديد مات بسببه أناس، فاشكروا الله تعالى على نعمه يزدكم،  قال الله تعالى: {وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكُمۡ لَئِن شَكَرۡتُمۡ لَأَزِيدَنَّكُمۡۖ وَلَئِن كَفَرۡتُمۡ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٞ } [سورة إبراهيم: آية 7]،

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، ووفقنا لاتباع سنة نبيه عليه الصلاة والسلام وجعلنا من المتّقين الذين يستمِعون القول فيتّبعون أحسنه، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ الْجَلِيلَ لِي وَلَكُمْ، وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.

أما بعد: عباد الله: اتقوا الله حق التقوى وراقبوه في السر والعلانية: قال الله تعالى: {وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} [سورة البقرة: آية281]. 

أيها المؤمنون: إن الإسراف والتبذير من أعظم أسباب زوال النعمة وفقدها، قال تعالى: {وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا قَرۡيَةٗ كَانَتۡ ءَامِنَةٗ مُّطۡمَئِنَّةٗ يَأۡتِيهَا رِزۡقُهَا رَغَدٗا مِّن كُلِّ مَكَانٖ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ} [سورة النحل: آية 112].

أيها المؤمنون: إن الشَّرعَ الحكيمُ أباح للناس التَّمتُّعَ بالحياةِ ومَلذَّاتِها، لكنْ دونَ إسراف، فيجبُ الالتزام بالعدل؛ حتى لا يتحولَ الإنفاقُ على المأكل والمشرب والملبس إلى بذخ.  فتوبوا -عباد الله- من الإسراف كله، وأعدَّوا للسؤال جوابًا، فإن الله سائلكم عن هذا المال: من أين اكتسبتموه وفيم أنفقتموه؟!

عباد الله: وإن من المظاهر السيئة التي وقع فيها كثير من الناس اليوم ظاهرة تصوير الولائم ونشرها في وسائل التواصل الاجتماعي، والتي أخرجت الوليمة من العمل بالسنة إلى المباهاة والرياء، وكسرٍ لقلوب المساكين والفقراء.

وفقني الله وإياكم لفعل مراضيه وجنبنا أسباب سخطه ومعاصيه، ثم صلوا وسلموا علي من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَٰٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّۚ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيۡهِ وَسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا} [سورة الأحزاب: آية 56]، اللهم صل وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً،  اللهم ارض عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر أصحاب نبينا عليه الصلاة والسلام، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أعز الإسلام، وانصر المسلمين، اَللَّهُمَّ أمِّنا فِي أَوْطَانِنَا، اللهم إنا نسألك من خير ما سالك منه عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ونعوذ بك من شر ما استعاذ منك عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما. اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين وهيأ له البطانة الصالحة الناصحة التي تدله على الخير وتعينه عليه، اللهم وفقه وولي عهده لما فيه صلاح البلاد والعباد، اللهم دمر أعداء الدين أجمعين، اللهم كل من أراد بلدنا هذا بسوء وسائر بلاد المسلمين، فرد كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه، رَبَّنَا اِغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا اَلَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ، وَلَا تَجْعَل فِي قُلُوبِنَا غَلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيم، اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَا ذَا اَلْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

المشاهدات 823 | التعليقات 0